1) الدولة لقد حل، مبدئيا، جزء من مشكل الأساتذة المتدربين، والمتابع لهذه المعركة من أولها إلى محضرها يستخلص مجموعة من الدروس حول نظرة الدولة للأدب والأستاذ والتربية والحوار.. وغيرها من المواضيع المجتمعية. بعد خمسة أشهر أتساءل بداية: كيف سيكون وسيؤهل الأستاذ المتدرب من جديد، أي بعد معركته، بنفسية مهلهلة محطمة نتيجة الترهيب والتعنيف، لا سيما أن التكوين والتأهيل في أصله مهننة، وتواصل وأكثر من ذلك ثقة وتعاقد نفسي، وإلا كان ما يدرس في علوم التربية وعلم النفس ثرثرة وتنظيرا طائشا. إن أول ما يؤهل في الأستاذ المتدرب بعد زاده الأكاديمي، بنيته النفسية، لأنه كائن وكيانه المحوري نفسي بحكم أن الإنسان يعيش في محيط.. لكن كم يحتاج ذلك من وقت وأخاديد التعنيف الجسدي والنفسي عمرت لأشهر في جسد الأستاذ المتدرب وروحه؟ تعنيف الأساتذة المتدربين يعيد بشكل أو بآخر، ومن ضمن ممارسات تقوم على العنف طبعا ومع فئات مجتمعية أخرى، تفكيرنا في مفهوم الدولة. إن الدولة لا تتأسس بناء على قوانين أو دساتير فقط إذ مهما بلغت تلك القوانين من درجة السبك والنظم لن يكون لها معنى إلا بالنظر لوضعية المجتمع تقديرا واحتراما. كنا في الماضي تابعين لكيان مادي هو المستعمر، لكن التبعية ستتحول إلى كيان مختلف، الدولة بإمكانيات رهيبة تؤكد بالملموس أنه ومن خلال ممارسات (التعنيف مثلا) أن هذا الكيان لا يعتبر شريكا مقنعا موجها للمجتمع بل معاقبا له حتى يطالب بحق يتيم هو حق العيش بزهده في الحقوق الأخرى مجبرا. 2) الأدب والمؤسسة الرسمية بعد مسلسل تعنيف الأساتذة المتدربين، أعتقد أنه من الأفيد أن ندرس في مراكز التكوين ربما لشهر كامل بعضا من قصائد درويش أو مما كتبه هؤلاء الأساتذة في هذه الأشهر النضالية من جرح ومعاناة، حتى تتبدد قليلا سوداوية القرارات العمودية والأجواء الحزينة التي خيمت على نفسيتهم/ نفسيتهن... ونعيد تبعا لذلك علاقة المحبة إلى مجراها الأول يوم دخل الأساتذة في أول حصة والابتسامة تعلو محياهم، ابتسامة انتصار لمسار أدبي مغبون في دولة لا تعترف بالإبداع والأدب عموما كما صرح رئيس الحكومة وهو يستبعد أن يكون كل الطلبة فلاسفة أو مبدعين عوض أن يستبعد إمكانية ألا يكون كل الطلبة مبدعون وفلاسفة، وقد غاب عن ذهنه أن ما يمكن أن يعالج بالأدب لا يمكن أن يعالج بالطب أحيانا وأن دولا عظيمة كاليونان لا تعرف إلا بالفلسفة والأدب.. وأن نهضة ألمانيا كانت بعد الحرب العالمية الثانية بالأدب والتربية.. والأمثلة لا حصر لها. علينا إذن أن نقرأ الأدب وهو الكفيل بأن يعيد الإحساس المرهف والمغبون في آن إلى ذاكرته الأولى/ ذاكرة المحبة، لهذا وجب أن نجعل هذه المحطة النضالية بأخاديدها عنوانا لقصيدة أو عنوان ديوان أو فصلا من رواية حتى لا ندعها حكاية شفهية (إذ كانت الجدات تحكي وهي على وعي تام بأن تسلسل الحكاية يضمن لها حياة ثانية)، وهي الحكاية التي لا تؤمن بها حتى الإدارة المخزنية نفسها، فبالأحرى نحن أبناء الأدب/ الفقراء المبعدين مركزا وتاريخا...نحن الذين إن لم نحك/ نكتب نموت أو نصبح فائضين حتى بالنسبة لذواتنا الأبية. عندما كتب طودوروف "الأدب في خطر" كان يلفت انتباهنا إلى مسألة وجودية وليست مسألة منهجية/ نقدية/ نظرية فحسب، إذ الأدب بإمكانه أن يقدم الكثير للشعوب التي تؤمن بإمكانياته. ورسالته لها أهميتها لا سيما ما نعاينه من تطور مذهل/ قاتل للتكنلوجيا ومظاهر الماديات الخانقة السريعة والمبعدة للعلاقات الإنسانية المؤسسة على الاعتراف. تخطئ المؤسسات الرسمية كثيرا عندما تحارب الأدب وتؤمن بعدميته، إذ إنها لا تعي أن محاربتها للأدب إعلاء من قيمته عند مبتليه وإن بطريقة غير مباشرة. من بين هؤلاء الأساتذة المتدربين/ المعنفين سنقرأ مستقبلا لروائيين وشعراء ومفكرين ونقاد... لكن هل سنقرأ أدبا/ فكرا/ نقدا.. لا يعيد ما عاناه من ممارسات عنيفة صادرة من مؤسسات رسمية؟ هذا هو جوهر العلاقة بين الكاتب والدولة، إذ لا وجود لكتابة لا تعيد الذاكرة، وكثيرا ما تكون الذاكرة حاجزا بين الوطنية الحقة ومسؤولية الكتابة الملتزمة. غير أن الكتابة في نهاية المطاف وطن غفور رحيم وإن كتبت بالدم... لا نذهب بعيدا لنؤكد أن من رحم المعاناة نقرأ اليوم علامات أدبية فارقة ولها وزنها الإنساني، إذ كلما تذكرنا قيود المؤسسة الرسمية وجبرية الانتماء المغبون للوطن نتذكر محمد شكري وعبد اللطيف اللعبي وعبد القادر الشاوي... لو لم يكتب محمد شكري الخبز الحافي لما عرف المغرب عند أزيد من أربعين دولة في العالم، وفي هذا الإطار نتساءل: هل عرف الطبيب وربان الطائرة والعالم.. المغرب كما عرفه شكري وهو يكتب خبزه مبعدا، جائعا ومهمشا ! هل يمكن إذن أن نؤمن بعدمية الأدب ونتساءل تبعا لذلك عن جدواه، والإنسان في كليته نزعة/ موضوعا أدبيا لا يستقيم الإبداع إلا به ولا معنى للإنسان إلا بالأدب؟ كان رد أفلاطون قاسيا على سائل يسأل عن فائدة الفلسفة مجيبا إياه بأن مثل هذا السؤال فاسد من أصله. وكان بورخيس ينزعج كثيرا عندما يسأله أحدهم "ما فائدة الأدب؟" وهذا النوع من السائلين يشفق عليهم حسب فارغاس يوسا، إذ إنهم " يستحقون الشفقة ليس لأنهم يجهلون المتعة التي تفوتهم، بل لأن مجتمعا بلا أدب أو مجتمعا يرمي بالأدب- كخطيئة خفية- إلى حدود الحياة الشخصية والإجتماعية هو مجتمع همجي الروح، بل ويخاطر بحريته" (ما فائدة الأدب؟ ماريو فارغاس يوسا). لقد قيل للإسكندر في مقام مغاير: ما بال تعظيمك لمؤدبك أكثر من تعظيمك لأبيك؟ قال: لأن أبي سبب حياتي الفانية ومؤدبي سبب حياتي الباقية. (زهر الآداب ص 256) لن يتقدم مجتمع تبعا للاقتباسيين السابقين من غير أدب/ تربية، غير أن مصيبتنا نحن العرب أننا ندافع عن التربية وننادي بها وننسى أن الأدب أكبر مربي للأجيال، لذلك فالمؤسسة الرسمية تغرب الإنسان عندما تغرب الأدب وتبعده. وما يمكن أن يعلمنا إياه الأدب أكثر بكثير مما يقال في الكثير من المنابر الدينية والسياسية. بهذا المعنى وعلى حد تعبير يوسا فلن يقول لنا الأدب شيئا ما دمنا راضين بما لدينا من أعطاب ووثوقيتنا جوفاء/ مطلقة. لقد قيل نحن لا نؤمن بإطلاقية النسق وتحوله من إطاره المعرفي إلى شموليته النظرية، معنى ذلك أننا لسنا محبطين من الأعطاب التي تلفنا ولسنا مؤمنين بأنا بلادنا كلها عدمية، غير أن أشر ما يحدق بهذا البلد وإن كان صادرا من المؤسسة الرسمية هو ما عبر عنه العالم المصري أحمد زويل بمقولة أدبية جميلة وخطيرة في آن إذ إن؛"الفرق بيننا وبين الغرب أنهم يدعمون الفاشل حتى ينجح ونحن نقتل/ نحارب الناجح حتى يفشل". هذه من بين التحديات التي تواجه الأستاذ المتدرب والمبتلى بالأدب عموما، إذ إن الفرد إن كان مدركا لاستحالة فهمه للعالم ولحالة الزيف والوهم التي تساور وعيه فإن هذا الفرد مثالي منغمس في كل ما من شأنه إبعاده عن الواقع المرفوض.. هذا الفرد يرفض العيش في هذا العالم مما يؤدي به إلى انتحار رمزي ومادي.. بهذا المعنى قد تكون لتلك التحديات تداعيات نعبر عنها مجتمعيا بتخريجات دارجة على التنميط وبلاغة الصمت كقولهم "اللي خاف نجا" " الفم المسدود ما يدخل ليه الدبان"...وغيرها كثير.. تجنبا لتداعيات ذلك الوعي الخاطئ.. تبعا لذلك لا يجب أن تكون بلاغة الصمت بالنسبة للفرد السابق ذكره هي الحل الوحيد الذي يقيه تبعات الكلام والدفاع عن الذات والأدب أولا قبل المجتمع.. لهذا كان الوعي الصحيح استنادا إلى هذا المعطى وردا عليه أن يفهم الفرد العالم، والتجارب وحدها تمكنه من رؤية للعالم وهذا أكبر رهان لأن اكتساب هذه الرؤية خطوة أولى لممارسة التجارب بموضوعية تقبلا لحقائق ولو كانت صادمة على أساس التفكير في بدائل لتجاوزها حكيا وكتابة ونقدا التماسا لوطنية حقيقية إن لم تكن ذاكرة المؤسسة الرسمية حاجزا وتتحول الوطنية إلى إمكانية لالتماس الانتماء ليس غير ! * أستاذ مكون بمركز مراكش