تشهد جمهورية الغابون منذ حوالي أسبوع اضطرابات أمنية واحتجاجات عنيفة بسبب النزاع بين نظام الرئيس علي بونغو اونديمبا ومرشح المعارضة جون بينغ حول نتائج الانتخابات الرئاسية التي شهدتها البلاد يوم السبت 27 غشت الماضي. فبينما يصر معسكر الرئيس بونغو على فوز الأخير بولاية رئاسية ثانية بناء على النتائج الرسمية التي أكدتها اللجنة الوطنية المستقلة الدائمة للانتخابات، والتي أعلنها وزير الداخلية الغابوني يوم الأربعاء الماضي، يؤكد جون بينغ وأنصاره أن هذه النتائج مزورة، ولا تعكس حقيقة إرادة أغلبية الناخبين الغابونيين الذين صوتوا لصالح مرشح المعارضة. وتحظى تطورات الساحة السياسية في الغابون باهتمام ومتابعة كبيرين من لدن وسائل الإعلام والرأي العام في المغرب. ولا شك أن هذا الاهتمام لا يعود فقط إلى العلاقات التاريخية المتميزة بين المغرب والغابون ودوره المحوري في دعم الوحدة الترابية للمغرب فحسب، بل يعود أيضا إلى حجم الاستثمارات المغربية في هذا البلد. وانطلاقا من تجربتي كعضو في البعثة الدولية لملاحظة الانتخابات الرئاسية الغابونية، ارتأيت المساهمة في تنوير الرأي العام المغربي والعربي وعموم المتتبعين ببعض الملاحظات حول ظروف إجراء هذه الاستحقاقات، وتجميع بعض العناصر التي من شأنها أن تسهم في فهم مجريات الأحداث في هذا البلد الإفريقي. حملة انتخابية غير متكافئة لعل أبرز ملاحظة تثير انتباه من يزور العاصمة ليبروفيل إبان الحملة الانتخابية هو الحضور المهيمن واللافت لصور وملصقات المرشح المنتهية ولايته مقابل ضعف أو غياب تام لصور وملصقات المرشحين الآخرين، بمن فيهم المرشح الأبرز جون بينغ. فبينما تم تثبيت آلاف الملصقات التي تحمل صور الرئيس المرشح بعناية في كل شوارع وأزقة المدينة، فإن صور مرشح المعارضة تبقى قليلة جدا ولا يسمح بتثبيتها سوى تحت القناطر أو في بعض الأماكن المتوارية عن الأنظار، بحيث تصعب رؤيتها. هذا التوزيع غير المتكافئ للفضاء العمومي بين المرشحين عرفته وسائل الإعلام العمومي المرئية والمسموعة أيضا. فمن خلال متابعتي لبرامج القنوات التلفزيونية الغابونية، تبين لي أنها تحولت إلى أدوات دعائية في خدمة الرئيس المنتهية ولايته، في وقت غاب صوت المعارضة. إقصاء شريحة واسعة من الناخبين الوثائق المطلوب الإدلاء بها لولوج مكاتب الاقتراع كما يحددها القانون لم تخضع لعملية تطبيق موحدة؛ فإلى جانب ضرورة الإدلاء ببطاقة الناخب يتوجب على الناخبين الإدلاء ببطاقة الهوية كشرط ليتمكنوا من التصويت؛ وهو ما تم تأويله بطرق مختلفة من مركز اقتراع إلى آخر. ففي وقت سمح لبعض الناخبين بالتصويت بمجرد تقديم أي وثيقة تثبت هوية المعني بالأمر، على غرار رخصة السياقة أو بطاقة التأمين أو جواز السفر، باعتبارها تحمل صورة صاحبها، إضافة إلى المعطيات الأخرى الموجودة على بطاقة التعريف، فان بعض رؤساء مكاتب التصويت كانوا يصرون على ضرورة الإدلاء ببطاقة التعريف التي تسلمها وزارة الداخلية دون أوراق الهوية الأخرى؛ وهو ما أثار سخط أعداد كبيرة من الناخبين الذين لا يتوفرون سوى على وصل البطاقة التعريف الوطنية، والذين لازالوا ينتظرون تسلم بطائقهم من طرف مصالح وزارة الداخلية. ومن اللافت أن العديد من الناخبين المتضررين من هذا الإجراء كانوا يطلبون منا التدخل لدى رؤساء المكاتب أو ممثلي اللجنة المستقلة للانتخابات لتمكينهم من ممارسة حقهم في التصويت، ووجدنا صعوبة كبيرة في إقناع بعضهم بأننا كملاحظين مطالبون بالتزام الحياد وليس من اختصاصنا التدخل في تفاصيل وإجراءات العملية الانتخابية، حتى ولو وقفنا على خروقات واضحة، فإننا نكتفي بتسجيلها وتضمينها في التقرير الذي سنصدره لاحقا. تجدر الإشارة إلى أن عددا كبيرا من حالات الحرمان من التصويت بسبب غياب البطاقة تم تسجيلها في مدينة port gentil العاصمة الاقتصادية للبلاد، التي تعتبر أحد أكبر معاقل المعارضة. وحسب العديد من الشهادات التي استقيناها من بعض المتضررين، فإن الحصول على البطاقة الوطنية أو تجديدها يتطلب الانتظار لأشهر طويلة وأحيانا لسنوات بعد تسليم الوصل المؤقت للراغبين في الحصول على البطاقة أو تجديدها. وانطلاقا من دردشاتنا مع بعض المحتجين على حرمانهم من المشاركة تبين لنا أن أغلبهم من الذين ينوون التصويت لصالح مرشحي المعارضة، وهو ما يمكن اعتباره مؤشرا قويا على أن التأخر في تسليم بطائف الهوية لطالبيها قد لا يكون ناتجا عن إكراهات تقنية، كما تؤكد وزارة الداخلية، بل ربما تشكل هذه الممارسة أحد عناصر هندسة انتخابية تسعى من خلالها السلطات إلى التحكم في مخرجات العملية الانتخابية. وبمعنى آخر فإن عدم تسليم بطائق الهوية لبعض الناخبين دون غيرهم قد يكون متعمدا بهدف حرمان بعض الناخبين المتعاطفين مع المعارضة من التصويت؛ وبالتالي التأثير في نتيجة الاقتراع عبر ترجيح كفة الرئيس المنتهية ولايته بطريقة غير مباشرة. استحالة إعادة فرز صناديق الاقتراع مباشرة بعد الإعلان الرسمي عن نتيجة الاقتراع، طالب مرشح المعارضة بإعادة عملية الفرز في كل مكاتب التصويت، وهو ما تطالب به حتى بعض الجهات الأجنبية، على غرار فرنسا والاتحاد الأوربي. مبدئيا، تعتبر عملية إعادة فرز صناديق الاقتراع الحل الأمثل لتسوية المنازعات الانتخابية، سواء في إطار تسوية سياسية أو في إطار طعن أمام القضاء، غير أن هذا يبقى غير متاح، بل مستحيل في الحالة الغابونية؛ والسبب في ذلك يعود إلى إحراق أوراق التصويت مباشرة بعد الانتهاء من عملية الفرز يوم الاقتراع، كما وقفنا على ذلك في مراكز الاقتراع التي تمكنا من تغطيتها. وخلافا لما تبادر إلى أذهاننا كملاحظين، فان إحراق أوراق التصويت لم تكن ممارسة أو اجتهادا فرديا، بل هي عملية ينص عليها القانون الانتخابي الغابوني. وعلى هذا الأساس فإن إتلاف أوراق التصويت يجعل مطلب إعادة فرز الصناديق وعد الأصوات مطلبا غير ممكن تحقيقه، وتبقى المحاضر هي الوثائق الوحيدة التي يمكن اللجوء إليها للبت في المنازعات الانتخابية. وبما أن المحاضر تبقى قابلة للتزوير، فإنها لا تصلح، لوحدها، لإثبات أطروحة هذا الطرف أو ذاك من الأطراف المتنازعة؛ وهو ما يعني أن المدخل لإيجاد حل للأزمة الراهنة في الغابون يبقى سياسيا؛ وهو ما يفسر ربما تردد معسكر المرشح جون بينغ في اللجوء إلى الطعن أمام المحكمة الدستورية، إذ لم يقدم على هذا الإجراء إلا يوما واحدا قبل انصرام الأجل الذي يحدده الدستور لذلك، إلى جانب أسباب أخرى تتعلق بالتشكيك في مصداقية المحكمة، التي تترأسها منذ سنوات طويلة شخصية قضائية تجمعها قرابة عائلية مع آلِ بونغو. * أستاذ جامعي عضو البعثة الدولية لملاحظة الانتخابات الرئاسية في الغابون