في أولى حلقات الموعد الشهري "نوستالجيا"، الذي شرعتْ هسبريس في بثّه اليوم الجمعة، كشف إلياس العماري، الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة وأحد الشهود على مخاض تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة، جُزءًا من كواليس هذه المرحلة من تاريخ المغرب، والتي كانت فاصلا بيْن عهْد الملك الراحل الحسن الثاني وبين عهد الملك الحالي محمد السادس. وقال العماري، حينَ حديثه عن الأجواء التي سبقت الاستماع إلى ضحايا انتهاكات سنوات الرصاص التي أنشئتْ لأجْل طيّ صفحتها السوداء هيئة الإنصاف والمصالحة، إن "الحُكْم كانْ مْخلوع". ومردُّ ذلك، يُردف العماري، هوَ التخوّف إقدام الضحايا على ذكْر أسماء الجلّادين، حيث جرى الاتفاق بين النظام وبين الهيئة على عدم ذكْر أسمائهم في جلسات الاستماع. في المقابل، كانَ الخوفُ سائدا في صفوف مسؤولي هيئة الإنصاف والمصالحة، "حْتّى حْنا كنّا مْخلوعين كيف سيكون ردُّ فعل الحُكم لو جرى ذكر اسم أحد الجلادين، هل سيقطع البث التلفزيوني المباشر أم ماذا؟"، يقول العماري، الذي شارك في مسار التحضير لهيئة الإنصاف والمصالحة؛ لكنّه أكّد أنّ لحظة البوْح تلك "كانتْ لحظة ثقة نجح فيها الطرفان". التحضير لجلسات الاستماع إلى ضحايا سنوات الرصاص، والتي جرى بثّها مباشرة على شاشة التلفزيون العمومي، أوْجبتْ مواكبة الضحايا من لدن أطباء نفسانيين لمدّة خمسة عشر يوما، حسب العماري، مُوضحا أنّ من منهم بدّل رأيه أكثر من مرة، بشأن الاتفاق المبرم مع الدولة بعد ذكر أسماء الجلادين، مضيفا: "لمْ يَكن النجاح في هذا التمرين سهلا". اللحظة الثانية، التي قالَ العماري إنها عزّزت مسار الثقة بين النظام وبين ضحايا سنوات الرصاص، تمثلت في مناسبة تقديم التقرير الختامي لهيئة الإنصاف والمصالحة، وتقرير الخمسينية بالقصر الملكي؛ "ذلك أنَّ القصرَ تحوّل إلى بيت من البيوت العادية، ولم يكن هناك بروتوكول ولا حتى تفتيش للضيوف، وكان الضحايا يجلسون إلى جانب الجلادين، وحضرت جميع المنظمات الحقوقية، بما فيها الجمعية المغربية لحقوق الإنسان". الوصول إلى مرحلة المُصالحة مرَّ عبْر منعرجات اتّسمت في لحظاتٍ بسوء الفهم بين الدولة وبين ضحايا الانتهاكات بزعامة الراحل إدريس بنزكري. وفي هذا السياق، تحدّث العماري عن زيارة سجن تزمامارت، الذي عذّب فيه كثير من معارضي النظام، "إذ كانت هذه الزيارة مناسبة لاختبار الأطراف بعضها بعضا"، بحسبه، حيث تمّت الزيارة بشروط. وتمثّل الشرط الأساسي الذي وضعتْه الدولة أمام مسؤولي هيئة الانصاف والمصالحة هو عدم تصوير السجن، باعتباره موقعا عسكريا. شرْط قَبلَه رئيس الهيئة إدريس بنزكري؛ لكنَّ حينَ وصلَ الوفد إلى الرّيش، جرى اعتراضه من لدن الدرك الملكي، بدعوى الإخلال بالالتزام الموقّع بين الطرفيْن، حيثُ كان قد وصل إلى هناك صحافي فرنسي بمعيّة أحد المناضلين قبل وصول وفد هيئة الإنصاف والمصالحة، والتقط صورا للسجن. "يومها، كانَ ملك البلاد في فرنسا، وكانَ صعبا أن يجري التفاوض عبر الهاتف"، يقول العماري، مضيفا أنّ الراحل إدريس بنزكري التزم أمام عناصر الدرك الملكي بتسليم الشريط المُصوّر من لدن الصحافي الفرنسي إلى النيابة العامّة، وسُمح للوفد بمواصلة الطريق في اتجاه سجن تزمامارت؛ غيْرَ أنَّ سوء الفهم لم ينته عنْد هذا الحدّ، بعدما تبيّن أنَّ الشريط المُسلّم إلى النيابة العامّة لم يتضمّن الصور التي التقطها الصحافي الفرنسي، فجرى توقيفهم في طريق العودة، وتمّت محاصرة المدرسة التي كانوا سيبيتون فيها والفندق الذي نزل به الصحافي الفرنسي، بمختلف أنواع قوات الأمن المدجّجة بالأسلحة. وكان المطلبُ هذه المرة تسليم الصحافي، والمناضل الذي كان برفقته والشريط، أوْ الهجوم عليهم. واستطرد العماري أنَّ النقاش بين المناضلين الحقوقيين امتدَّ إلى غاية الساعة الخامسة صباحا في المكان الذين مكثوا فيه بالرشيدية، حيث شرع بعضهم في المغادرة، وبقي هو رفقة إدريس بنزكري وعبد القادر الشاوي والمناضل موتق الحسن، في حين التحق السفير الفرنسي "وفكّ أسْر" الصحافي الفرنسي، بعد أن تفاوض مع السلطات. عقب ذلك، يستطرد العماري: "قُمْت بمعركة أخرى حين وصلنا إلى الرباط، حيث اجتمع كبار القوم في وزارة العدل، وقرّروا حلَّ منتدى الحقيقة والإنصاف، ومحاكمة أعضائه في المحكمة العسكرية لأنهم صوّروا موقعا عسكريا يُمنع تصويره"، مضيفا: "آنذاك، كنا في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، كان هناك تيار كبير يدعو إلى محاكمة مرتكبي الخروقات، في إطار العدالة الانتقالية. وكانت الجمعية أعدّت لائحة بأسماء اثني عشر مسؤولا كبيرا، متهمين بالانتهاكات الجسمية لحقوق الإنسان، فقُلنا "كْبّرها تصغار"، ما دامْ غيتحاكمو الضحايا يْتحاكْم كلشي"، مضيفا أنّ "الثقة بدأت تعود بعد ذلك تدريجيا بين الطرفين". من جهة أخرى، كشف العماري عن جزء من أسرار حياة الراحل إدريس بنزكري، الذي جمعته به صداقة بعد خروجه من السجن، حيثُ ترك له حقيبتيْن بعد وفاته، تضمُّ إحداهُما أغراضه الشخصية. في حين تضمّ الثانية وثائقَ قالَ العماري إنَّه لمْ يطّلعْ عليها، ولن يطّلع عليها إلا بعد أن يُستكملَ بناء المؤسسة الحاملة لاسم الراحل، حيث سيُسلّمها لها، مشيرا إلى "أنّ هذه الحقيبة لا توجد في بيتي، بل في مكان آمن. وقد عاهدتُ نفسي على ألّا أنشغل بها".