رسمياً.. عبد اللطيف العافية يكتسح عمر العباس ويظفر بولاية جديدة على رأس عصبة الشمال لكرة القدم    المغرب والصين يرسيان حوارا استراتيجيا بين وزارتي خارجيتهما    كأس الكاف.. أولمبيك آسفي يعود بفوز ثمين من خارج الديار    برادة: 800 مؤسسة مؤهلة هذا العام لاستقبال تلاميذ الحوز    الحسيمة.. موعد طبي بعد أربعة أشهر يثير الاستياء        سيدي بنور.. حظر جمع وتسويق المحار بمنطقة سيدي داوود        إعادة إنتخاب ادريس شحتان رئيسا للجمعية الوطنية للإعلام والناشرين لولاية ثانية    وهبي: لاعبون رفضوا دعوة المنتخب    إنفانتينو يزور مقر الفيفا في الرباط    العداءة الرزيقي تغادر بطولة العالم    سلطة بني ملال تشعر بمنع احتجاج    حقوقيون يبلغون عن سفن بالمغرب    جمعيات تتبرأ من "منتدى الصويرة"    بعد الجزائر وموسكو .. دي ميستورا يقصد مخيمات تندوف من مدينة العيون    "الملجأ الذري" يصطدم بنجاح "لا كاسا دي بابيل"    سي مهدي يشتكي الرابور "طوطو" إلى القضاء    "حركة ضمير": أخنوش استغل التلفزيون لتغليط المغاربة في مختلف القضايا    تأجيل محاكمة الغلوسي إلى 31 أكتوبر تزامنا مع وقفة تضامنية تستنكر التضييق على محاربي الفساد    مشروع قانون يسمح بطلب الدعم المالي العمومي لإنقاذ الأبناك من الإفلاس    ترسيخا لمكانتها كقطب اقتصادي ومالي رائد على المستوى القاري والدولي .. جلالة الملك يدشن مشاريع كبرى لتطوير المركب المينائي للدار البيضاء    منتخب الفوتسال يشارك في دوري دولي بالأرجنتين ضمن أجندة «فيفا»    أخبار الساحة        الصين تشيد بالرؤية السديدة للملك محمد السادس الهادفة إلى نهضة أفريقيا    حجز أزيد من 100 ألف قرص مهلوس بميناء سبتة المحتلة    مساء اليوم فى برنامج "مدارات" : صورة حاضرة فاس في الذاكرة الشعرية    ثقة المغاربة في المؤسسات تنهار: 87% غير راضين عن الحكومة و89% عن البرلمان    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    ثماني تنظيمات نسائية حزبية تتحد لإصلاح النظام الانتخابي وتعزيز مشاركة النساء    شركة عالمية أخرى تعتزم إلغاء 680 منصب شغل بجنوب إفريقيا    المغرب والصين يطلقان شراكة استراتيجية لإنشاء أكبر مجمع صناعي للألمنيوم الأخضر في إفريقيا    تقنية جديدة تحول خلايا الدم إلى علاج للسكتات الدماغية        السجن المؤبد لزوج قتل زوجته بالزيت المغلي بطنجة        زلزال بقوة 7.8 درجات يضرب شبه جزيرة كامتشاتكا شرقي روسيا    الدّوخة في قمة الدّوحة !    إشهار الفيتو الأمريكي للمرة السادسة خلال عامين ضد مشروع قرار لوقف إطلاق النار في غزة يزيد عزلة واشنطن وإسرائيل دوليًا    سطاد المغربي يعين الصحافي الرياضي جلول التويجر ناطقا رسميا    "لا موسيقى للإبادة".. 400 فنان عالمي يقاطعون إسرائيل ثقافيا    أسعار النفط دون تغير يذكر وسط مخاوف بشأن الطلب    المغرب في المهرجانات العالمية    إسرائيل تجمد تمويل مكافآتها السينمائية الرئيسية بسبب فيلم «مؤيد للفلسطينيين»    فيلم «مورا يشكاد» لخالد الزايري يفوز بالجائزة الكبرى في مهرجان وزان    تسجيل 480 حالة إصابة محلية بحمى "شيكونغونيا" في فرنسا    الكشف عن لوحة جديدة لبيكاسو في باريس    350 شخصية من عالم الدبلوماسية والفكر والثقافة والإعلام يشاركون في موسم أصيلة الثقافي الدولي    الذكاء الاصطناعي وتحديات الخطاب الديني عنوان ندوة علمية لإحدى مدارس التعليم العتيق بدكالة    ألمانيا تقلق من فيروس "شيكونغونيا" في إيطاليا    خبير: قيادة المقاتلات تمثل أخطر مهنة في العالم    مدرسة الزنانبة للقرآن والتعليم العتيق بإقليم الجديدة تحتفي بالمولد النبوي بندوة علمية حول الذكاء الاصطناعي والخطاب الديني    "المجلس العلمي" يثمن التوجيه الملكي    رسالة ملكية تدعو للتذكير بالسيرة النبوية عبر برامج علمية وتوعوية    الملك محمد السادس يدعو العلماء لإحياء ذكرى مرور 15 قرنًا على ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوجهُ الآخرُ لأدونيس(2)
نشر في هسبريس يوم 23 - 07 - 2011

في البداية، أريد أن أقول كلمة قصيرة لمحبّي أدونيس ومريديه وسائر المعجبين به، عن معرفةٍ واقتناع أو عن إمعِيّة واتّباع، من المسلمين الذين هان عليهم دينُهم، ولم يَعُدْ يعنِيهم في شيء أن يُهان قرآنهُم، وتُدنَّس مُقدَّساتُهم، ويُعبثَ بمعتقداتهم، وهم في خوض يلعبون، وفي غفلاتهم سادِرون.
أريد أن أقول كلمة إلى محبّي أدونيس عامة، وأنا أعرف أن منهم من يناصر هذا الرجلَ الملحدَ وهو لا يكاد يعرف عنه شيئا إلا ما خدّرَتْه به دعايةُ الأضواء والنجوم والضوضاء والإلهاء. وأعرف أن منهم من لم يقرأ له شيئا، وإنما هو إمّعةٌ يسيرُ بإرادة القطيع، يُصفِّق لأنه يرى الناسَ يصفّقون، ويمدَحُ لأنه يراهم يمدحون، ويغضَب ويَسُبّ لأنه يراهم يغضبون ويسبّون.
أريد أن أقول كلمة لهؤلاء جميعا، الذين، وبلا أيّ منطقٍ ولا مُسوّغ معقول، لا يقبلون من المتحدثين عن أدونيس إلا أن يكون حديثُهم مدحا وتنويها ورفعا إلى السماء، ولو على حساب الحقيقة الماثلة للعيان، كالشمس الحارقة.
إلى هؤلاء الإمّعات المحشورين في القطيع أقول:
يا هؤلاء، أنا أتكلم عن أدونيس بعلمٍ وبَعْد بحث واطلاع، وأسمّي للقراء مراجعي، وأوردُ النصوصَ الشاهدة، وأسوقُ البيّنات القاطعةَ. وليس همّي أن أبيّن أن أدونيس ملحد، فهو يعلن ذلك ويفتخر به، لكنه، كجميع المنافقين، يلفّ ويروغ، عندما يكون في بلد مسلم، أو أمام جمهور مسلم، كما حصل، مثلا، في القاهرة، في يونيو من سنة 2006، حينما أحس بالضغط والحرج واشتداد الخناق عليه، فتحدى منتقديه أن يأتوه بكلمة واحدة كتبها ضد الإسلام!!
التحدي لازمةٌ من لوازم المُلحدين المُناضلين؛ فهم لا يعترفون ولا يُسلّمون ولا يستحيون ولو جئتهم بمِلْء الأرض حُجَجا دامغةً وأدلةً قاطعةً تكذّبهم وتُخطّئهم وتفضحُهم.
يتحداهم أن يأتوه بكلمة واحدة، وهم يواجهونه بكتب بكاملها مليئةٍ بطعونه الباطلة وافتراءاته على الإسلام ومقدساته، وهو يُنكر، ويراوغ، ويدلّس، ويتهرّب، حتى تنتهي المناسبةُ، ويُفْلتَ من المواجهة سالما.
ليس همّي أن أُشهّر بإلحاد الرجل، فذلك لا يعنيني في شيء، بل إن الملحدين مثله في بلاد المسلمين لا يُعدُّون من الكثرة، وإنما همّي أن أكشف للقارئ الكريم ذلك الجانبَ الخفيّ من وجه أدونيس، الذي يُراد لنا دائما ألاّ نراه، وألاّ نهتم به، وألا نلتفتَ إليه عندما نريد أن نزن الرجل "الحداثي الكبير"، ونقوّم فكرَه ونحكم على أعماله.
يُراد لنا، في بلاد المسلمين خاصة، بلْ قُلْ يُفرض علينا فرضا ألاّ نرى في أدونيس إلا ما يُرادُ لنا أن نراه، ولو كان الرجلُ من أشدِّ الناس عداوة للإسلام والمسلمين، ومن أشدّهم حقدا وكراهية للذين آمنوا، ومن أشدّهم حربا لله ورسوله، وأشدّهم جرأة على الطعن والتجريح والافتراء على كتاب الله، وعلى سنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، وأيضا على تاريخ المسلمين.
أريد أن يعرف القارئ الكريمُ، بل أن يعرفَ الناس جميعا، أن أدونيس، "الشاعر" الحداثيَّ المشهورَ، هو نفسُه الملحدُ الذي قضى حياته مناضلا، بالليل والنهار، لبثّ عقائد الإلحاد في المسلمين، وفرضِ الشك والحيْرة والاضطراب والضّلال بديلا عن الإيمان والطمأنينة والهداية والاستقرار.
والذي لا يعرفه كثيرٌ من الناس أن ما صدرَ عن أدونيس في مجال الفكر والسياسة والتاريخ، من مكتوبات ومسموعات ومرئيات، قد يكون مساويا لما كتبه في مجال الأدب والنقد أو يزيد عليه.
يا أيها المُتيَّمُون بأدونيس، وإنْ عن جَهْلٍ وإمّعيّة وفَهْم قطِيعِيّ(من القطيع)، إن صاحبَكم قد بلغ من العمر عُتِيّا، وإنّ الآجال بيد الله، كما نؤمن نحن المسلمين، وهو، لا بد، من الميّتين، ثم من المقبورين، ثم ماذا بعدُ، أيها الإمعاتُ الغافلون؟
وأعود إلى متابعة حديثي عن الوجه الآخر لأدونيس.
(1)
تسأل(نينار)، ابنةُ أدونيس، وهي مثل أبيها لا تؤمن بدِينٍ- تسأل البنتُ الملحدةُ أباها أدونيس إن كان يمكن للإنسان أن يعيش بلا حدود وبلا دين؟ فيجيبها الأبُ العجوز: "هناك كثير من الناس يعيشون بلا دين، وأنا واحدٌ منهم. إني لا أؤمن بدين"(محادثات مع أدونيس أبي، ص107).
وتسأله، في موضع آخر قائلة: ما هي علاقتُك بالدين؟ فيجيب بكل ثقة ووضوح: "على الرغم من أنني نشأت في بيئة دينية، ورغم الحب الكبير الذي أكنّه لأبي، فإنه ليس بيني وبين الدين أية علاقة". ويؤكد جوابه بقوله: "ولا علاقة واحدة(aucune)"(نفسه،187).
إلى هنا، ليس في الأمر ما يدعو إلى الاعتراض أو الرفض والإدانة؛ أبٌ ملحدٌ في حديث خاص وصريح مع ابنته الملحدة، وانتهى الأمر. بل يمكن أن نستفيد من هذا الحديث الصريح معرفةَ الوجه الآخر لأدونيس في قسَماته الواضحة، بلا تزوير ولا تجميل ولا تلبيس، وفي ملامحه الساطعة الكاشفة عن مكنونات ضميره ومطْوِيَّاتِ نيّته وأمانيه.
لا شأن لنا بما يعتقدُه أدونيس، وبما يتناجا به الأبُ والبنتُ من كفريات وضلالات، وبما يتسامَران حوله من زندقات وهرطقات وإبليسيّات(نسبة إلى إبليس)، وإنما لنا شأنٌ، بل لنا شؤونٌ بما يدعو إليه، وما يبثّه في كتبه ومقالاته ومحاضراته ولقاءاته الصحفية من آراء وأحكام كلُّها تهجّم على الإسلام، وطعنٌ على أصوله الإيمانية وشرائعه.
إن إسلامَنا يعلمنا أن (لا إكراه في الدين)، وأنه (من شاء فلْيؤمنْ، ومن شاء فلْيكفرْ). وعلى هذا الأساس الإسلامي المتين، لا يهمنا إن كان أدونيس مؤمنا أو كان ملحدا. هو حر ومسؤول عما يختاره ويعتنقه من أفكار. لكن الأمرَ يصبح هامّا لنا حينما يتجاوز الرجلُ حقّه وحرّيته في الاعتقاد، إلى تناول عقائد الآخرين بالتجريح والتشكيك والاستهزاء، ولا مُسندَ له من علمٍ أو فهْم مُؤَسَّس معْتَبَر، أو تأويل اجتهادي محتَمَل، وإنما مستندُه، كلُّ مستندِه، الهوى والشيطان.
الإسلامُ لا يصلح لشيء ولا ينفع الناس قِطْمِيرا!
الإسلام ظلمٌ وعدوان ووحشية وتخلف واستبداد دموي!
الإسلام قمع ومنع وحدود وقيود!
من قال هذا؟ قاله شيطانُ أدونيس، وهواه، ودينُه الصوفي الوثني، الذي يؤله الإنسانَ، ويجعل خيالاتِ هذا الإنسان وأوهامَه وأمراضَه النفسية بمثابة الوحي المقدس الذي يجب الإيمانُ به، وتعظيمُه وتنزيهُه.
الدينُ، بمختلف مِلَلِه وطوائفه ومذاهبه، هو صناعة بشرية محضة، للجواب على ما يشغل الإنسانَ من أسئلة في شأن الكون وخالقه، وفي شأن الغيب والموت وما بعد الموت.
الإنسانُ هو الذي اخترع فكرة الدين وما يتعلق بها من معتقدات ومقدسات وطقوس وممارسات، كلُّ ذلك ليواجه الإشكالات الوجوديةَ التي تواجهه فيما يتعلق بوجوده ومصيره.
هذا هو المركز الرئيسُ الذي عليه مدارُ الفلسفة الإلحادية، التي ينطلق منها أدونيس وأمثالُه في بناء أطروحاتهم وتعليلاتهم وتأويلاتهم وانتقاداتهم.
وإذا كان الدينُ، أيُّ دين، في فلسفة الإلحاد، إنما هو من صنع خيال البشر، فإن الإسلامَ من باب أولى، لأن به خُتمت الرسالاتُ السماوية، ومن ثَمَّ فهو الدّين الكاملُ، بالألف واللام، الذي ارتضَاه الخالقُ، سبحانه، إلى كافة خلقه؛ (إن الدينَ عند الله الإسلامُ)(آل عمران).
ولهذا وجدْنا أدونيس يجتهد اجتهادا غيرَ عادي، لينقُضَ أصول هذا الدين الخاتم للرسالات، وهيهات، لأن هذا الملحدَ الذي يحاول نقضَ أصول الدين السماوي، ليس معه من أدوات، ولا أدلة، ولا حجج إقناع، إلا عقلُه ونفسُه وهواه وشيطانُه. وليس له من هادٍ في خبْطه وظلمائه إلا إلحادُه القائمُ على الجحود والرفض والتمرد.
ظلام في ظلام، فأنّى له النورُ؟
ويمكن مُعاينةُ هذا الاجتهادِ الإلحاديّ الأدونيسي المُتميز، مكشوفا بلا غطاء ولا تقيّة، في أطروحته عن "الثابت والمتحول" في تراثنا العربي الإسلامي، التي نال بها درجة الدكتوراه سنة 1973 من جامعة (القدّيس يوسف) ببيروت، بإشراف (الأب نويا اليسوعي).
(2)
وأسوق، فيما يلي، بعضَ العيّنات، تناسب حجمَ هذا المقال، مِنْ كلام أدونيس الصوفي الوثني الحداثيّ الجاحد.
ففضلا عن كون الإسلام، بما هو دينٌ، صناعةً بشرية خالصة، فهو قد "رأى النورَ تحت رعاية الديكتاتورية"(نظرة أورفي، ص189)، وأن "العنف خصيصة لازمت النظام الإسلامي من داخل، ومنذ بداياته."(الثابت والمتحول(الأصول)، ص141)، وهو، أي الإسلام دائما، "لم يكتف بتجميد الفكر والتفكير، وتجميدِ العقل والحرية، بل أدان الجسم والحواس أيضا)(نفسه،168)، وأنه "منع الإبداع والتفكير"(نفسه،195)، وأنه "ليس للفرد [في الإسلام] حقوقٌ بالمعنى الحديث..."(الثابت والمتحول(الأصول)، ص43)، وأن حقوق المرأة في المجتمع الإسلامي "كارثة اجتماعية وإنسانية"(نظرة أورفي،215).
والشرع الإسلامي هو بمثابة قيود قمعية للحريات، "وإذا شبهنا التاريخ العربي ببَيْت، فإن الشرع فيه كان يشكل جدرانَه وأبوابَه ونوافذَه، ولا تشكل الحياةُ الحرة، المتسائلةُ، الطامحة، إلا ثقوبا صغيرة لا تكاد تتسع لكي يدخل منها الضوء."(الثابت والمتحول(الأصول)،75).
والإنسان، في الشريعة الإسلامية، "ينفذ إرادة الله المسبقة. وهذا التنفيذ ليس عملا إراديا..."(نفسه،45)، وأن المؤمن "المتدين أو المتَسَنِّن[من السُّنة] لا يفكر، وإنما السنة هي التي تفكر."(نفسه(تأصيل الأصول)،133)
هذه الأمثلة من طعون أدونيس وانتقاداته على الإسلام إنما تنصب على الإسلام/الدين، والإسلام/الرسالة، والإسلام/العقيدة والشريعة، وهذا ما يكذّبُ أدونيس حينما يزعم أنه، في انتقاداته وتحليلاته وٍآرائه، إنما يقصد تفكيرَ المسلمين وممارستِهم واجتهاداتهم، أي يقصد الإسلام كما طبقه المسلمون وعاشوه في الواقع.
هذه الأمثلةُ المسوقة، وغيرُها كثيرٌ، تؤكد أن المقصود هو الإسلامُ، بما هو دينٌ وشرع واعتقاد وإيمان وغيب ودنيا وآخرة.
المقصود هو دين الله، الذي ختم به رسالاتِه إلى الإنسان "الظلوم" "الجهول"، وهو ما يعني أن أدونيس الملحدَ يحارب الدينَ بما هو دينٌ، وبما هو وحي، وبما هو مُقدّسٌ.
وهذه أمثلة أخرى تزيد المسألة وضوحا.
القرآن العظيمُ وحيٌ من الله، تعالى، لرسوله محمد، صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن لأحد أن يزعم أنه ينتقده ويتجرأ على آياته بالطعن والتشكيك والاستهزاء بدعوى أنه ينتقد سلوكا بشريا، واجتهادا بشريا، وممارسةً بشرية، إلا إن كان يعتقد أن هذا الوحي/القرآن هو أصلا من اختراع الإنسان وليس منزلا من عند الله.
فوأدُ البنات في الجاهلية، الذي تحدث عنه القرآن بكل وضوح في قوله، تعالى، من سورة (التكوير): (وإذا الموءودة سُئلت بأيّ ذنْب قُتِلت)، هو، في رأي أدونيس الملحدِ، "من اختراع المؤرخين المسلمين. فليس هناك أيّ دليل على أن العرب كانوا يئدون بناتهم خشية الفقر أو العار. إنه لا يمكننا أن نثق بهذا النوع من الروايات."(محادثات مع أدونيس أبي، ص171).
لاحظْ أنه ينفي أن يكون هناك دليلٌ على عادةِ وأدِ البنات في الجاهلية، أما القرآن فليس عنده بدليل، لأنه، ببساطة، لا يؤمن بأنه وحي من الله.
بل إن وصفَ القرآن لحياة العرب قبل الإسلام بالجاهلية هو، عند أدونيس، "خطأ يجب أن يُعاد فيه النظرُ، لأن العرب قبل الإسلام كانوا مثقفين، وكانت لهم أفكارٌ وحضارةٌ. (الجاهلية) تسميّةٌ خاطئة لا مبرٍّرَ لها، ومن ثَمَّ يجب رفضُها. وهذا يعني أن كل القضايا والوقائع المتعلقة بهذا العصرِ ينبغي مراجعتُها أو رفضُها.)(نفسه)
أكثرُ من هذا أن أدونيس ينصب نفسه ناقدا للقرآن وحاكما على مضامينه، لأنه يعتبره كلاما من وضع البشر، حيث يعلق، مثلا، على "ورود كلمة "تبرّج" في القرآن بأنها تشير إلى درجة التناقض في النص القرآني"(نظرة أورفي،214)، وذلك "أن التبرج[في زعمه] لازمةٌ من لوازم الحضارة، والغنى، والترف، والثروة والتأنق. وهذا يعني، حسب القرآن، وجودَ حضارة قبل الإسلام، ومن ثَمَّ فإن كلمة "جاهلية"، التي وردت في القرآن لوصف حقبة ما قبل الإسلام، هي كلمة غيرُ مناسبة)(نفسه).
تأملوا هذا الفهمَ العجيب، الذي يتجرأ به أدونيس الملحدُ على كلام الله. فهو يفرض علينا فهمَه على أنه مسلماتٌ لا جدال في صحتها؛ فالتبرّج هو عنده قرينُ الحضارة! ثم الحضارة بأي مفهوم؟ قطعا بمفهومه هو. أما حقائق اللغة، وحقائقُ التاريخ عن الحياة الحقيقية للعرب في فترة ما قبل الإسلام، فذلك كلُّه فضول زائدٌ لا يُعتدّ به عند أدونيس. ما يقوله هو الصحيح، وإن قامت على تخطئته وردّه ونقضه ألفُ حجة وحجة.
أدونيس "ينتقد" القرآن، و"يُخطّئه"، و"يرفضه"، و"يعارضه"، لأنه، أصلا، لا يؤمن به مرجعا مقدَّسا، كما يفعل المسلمون المؤمنون في مشارق الأرض ومغاربها، وثانيا، لأن حياة العرب في الجاهلية، عنده، أي في أوهامه وأحلامه-لأنه ليس في ما وصلنا من المصادر عن فترة ما قبل الإسلام ما يؤكد مزاعمه-كانت حياة متطورة، حضارةً وثقافةً وفكرا!
ونجده في موضع آخر، وبنفس الجرأة والتحدي، يعلنُ مخالفتَه للقرآن ومعارضَته له؛ فقد سألته (حورية عبد الواحد) عن سبب بدء ديوانه (أول الجسد آخر البحر) بآية "في شُغْل فاكهون"، وهي من قوله تعالى: (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغلٍ فَاكِهُونَ (55)[يس]. فرد عليها بقوله: "لِأُسجّل اختلافا جذريا بين القول الشعري وبين القول الديني، بين ما أراه وما أكتبه وبين ما يعلمنا الدينُ كلَّ يوم. وأيضا لأسير في اتجاه (نيتشه))(نظرة أورفي،234).
لاحظوا هذا التعارضَ البيّن بين "القول الشعري"، أي كلام أدونيس، وبين "القول الديني"، أي كلام الله في الآية المذكورة، وأيضا بين رؤيته وكتابته هو، أي ما ينتجه عقله وهواه، وما توحي له به صوفيتُه الوثنية، وبين تعاليم الدين، التي هي وحي من عند الله. ثم لاحظوا التعليلَ الثالثَ، وهو السيرُ على خطى أستاذه في الإلحاد، أي أن غايته من معارضة القرآن ومخالَفته هي الوصول إلى "قتل الله"-تعالى الله وتقدس وتنزّه وتعظَّم-، ليحتلّ الإنسانُ عرشَ الألوهيّة في الأرض.
أهكذا يحترمُ أدونيس الإسلامَ وعقائدَه ومقدساتِه، كما يدّعي، تقيّة ونفاقا ومراوغة، حينما يكون أمامَ جمهور مسلم؟
أليس القرآن، بكلّ ما فيه، من مقدسات المسلمين؟
وفي موضع آخر، يعلق أدونيس على قوله تعالى، من سورة (الذاريات): (وما خلقتُ الإنسَ والجنَّ إلا ليعبدوني) بقوله: "هذه الآيةُ ضد الفكر وضدّ الإنسان)(نظرة أورفي، ص274). ويضيف: "إنه يستحيل التجديدُ في مضمار التفكير والعقل بدون قراءة جديدة أو مراجعة جذرية لنظرة العقيدة التوحيدية للعالم والإنسان"(نفسه).
أرأَيْتَ كيف يفرض أدونيس نفسَه نِدّا لله، تعالى الله وتقدّس، يرفض القرآن وينتقده ويكَذّبُه ويطالب بمراجعته وتغييره. وهذا هو الذي أُسمّيه بالملحدِ "المناضلِ" "المقاتل"، لأنه لا يكتفي بإلحاده لنفسه، وإنما هو ساع، بكل جهده، لنقض الإسلام والتشكيك في أصوله وتغيير معتقداته، وزرْع الشك والحيرة والتخبط في النفوس والعقول، ثُم اصطيادِ ضعاف الإيمان، التائهين الحائرين، والقذفِ بهم في طاحون الزندقة والإلحاد.
وتسألُه محاوِرتُه (حورية عبد الواحد) في كتاب (نظرة أورفي، ص276): "هل توافق القرآنَ عندما يقول: (وكلّم اللهُ موسى تكليما)؟". فيجيبها أدونيس على الفور، وبلا تردد: "لا مطلقا، لأن الإنسان دائما هو المتكلم"، أي ليس هناك في الوجود إلا الإنسان.
ولاحظْ صيغةَ سؤال السيدة المحاورة؛ فهي لم تسألْه إن كان يؤمن بقول القرآن، بل سألته إن كان يوافق أو يقبل أو يتفق مع القرآن، أي أنها تسأله على أنه ندّ للقرآن أو متفوق عليه، يخطّئه، أو يصوّبه، أو يصحّحه، أو يرفضه. ولهذا، كان جوابُه بأنه لا يوافق مطلقا، أي أنه يرى رأيا آخر يخالف القرآن، بل يزيد على القرآن في صحته ومنطقه.
أما عن قصة (آدم وحواء) الواردة في القرآن في أكثر من موضع، فهي، في رأي أدونيس الملحد، "أسطورة جميلة على المستوى التخييلي"(نفسه،277)، أي أن ما حكاه القرآن الكريم عن (آدم وحواء) هو قصص من خيال البشر. وقد بيّن أدونيس هذا حينما تابع قائلا: "هذه الأسطورة[يقصد قصة آدم وحواء] موجودة أيضا في القصص القديم، قبل الإنجيل. فكيف نتصور(أو نفهم) أن اللهَ قد استعار كلَّ هذا من العالم الخيالي السومري؟)(نفسه). وواضح أن المقصود من عبارته الأخيرة هو التشكيك في أن يكون القرآن وحيا من الله، سبحانه وتعالى.
وللكلام بقيةٌ في المقالة القادمة إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.