بما أن كل الطرق المدنية والسياسية المختلفة التي وقع نهجها منذ سنة 2012 إلى الآن لم تنفع في فك الحصار المضروب على صدور القانونين التنظيميين المتعلقين بتفعيل رسمية الأمازيغية وتنميتها، وبما أن هذا الحصار الغريب لا يبدو فحسب خارجا عن القانون، بل أيضا ضد إرادة الشعب الكلية المعلنة في الاستفتاء العام على الدستور، وكذا ضد الارادة الملكية التي تعتبر الأمازيغية من ضمن الأوراش التشريعية ذات الأولوية، نظرا لبعدها الإستراتيجي العميق؛ لذلك ارتأيت في هذه المقالة أن استعين بالخيال السياسي قياسا على فن الخيال العلمي المعروف، عسى أن يسعفنا الإبداع الأدبي المعتمد على التخييل في فهم الطلاسم الغامضة وغير المعقولة لهذا الحصار، بعدما فشلت في فهمه كل تحاليل العلم السياسي والمنطق الفكري. وهكذا فبعدما أعدت قراءته من جديد، مقلبا أمره على ألف وجه، انكشف لي ما يلي: أولا : إنه – خلافا للرأي العام السائد – لم يكن حزب العدالة والتنمية الحاكم هو المتسبب في عرقلة صدور هذين القانونين، للاعتقاد باستمراره في موقفه السلبي تجاه الأمازيغية، بدليل أن السيد عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة السابق، كان قد أعلن بصفته تلك، وكذا بصفته رئيس هذا الحزب، تصالحه مع هذه القضية الوطنية، مقررا في برنامجه الحكومي الأول عن حزمة من التدابير الهامة التي تخدم الأمازيغية، من ضمنها تعهده بإدماج قانونيها سالفي الذكر ضمن القوانين الستة الكبرى التي تحظى بالأولوية في الإصدار، ثم بدليل أيضا أنه صرح - بعد ثبوت غياب الأمازيغية في الحصيلة المرحلية الأولى لإنجازات حكومته - بشعوره بحرج كبير لعدم تمكنه من الوفاء بتعهداته الأمازيغية السابقة، معلنا نيته رفع ملف الأمازيغية إلى الجهات العليا، أي إلى جلالة الملك، ما يستنتج منه ضمنيا أن عدم إصداره للقانونين المذكورين كان خارج إرادته، أي إنه كان معرقلا في الوفاء بتعهداته سالفة الذكر. ثانيا: انكشف لي أيضا أن البرلمان بدوره ليس هو المسؤول عن هذه السنوات الإضافية العجاف من الاعتقال التعسفي لقانوني الأمازيغية، بعدما وقع نقلهما إليه من سجن الحكومة السابق إلى سجن مكاتبه؛ وذلك لثبوت عدم وجود أي مشكلة بين الأمازيغية وبين هذه المؤسسة التشريعية، على اعتبار أن غالبية مكوناتها الحزبية والنقابية صوتت في الاستفتاء الشعبي العام على ترسيم الأمازيغية في الدستور، وعلى تنميتها وإدماجها في جميع مجالات الحياة العامة. ثالثا: أما المؤسسة الملكية فإن تدخلها السلبي في هذا الحصار مستبعد جدا جدا، لأن جلالة الملك محمد السادس يعتبر - من منظور محكمة التاريخ المنصفة – أنه الملك المنقذ، الذي أعاد للأمازيغية سيادتها وكرامتها بل وحياتها في وطنها، بعد أن كانت طيلة مئات السنين تعاني من الدونية ومن التهميش، ما أدى بها أن تكون على وشك الموت والانقراض النهائي من الوجود. إذن، بعد ثبوت براءة كل المؤسسات سالفة الذكر من المسؤولية، فلمن يا ترى يعود السبب في عرقلة صدور قانوني الأمازيغية؟. أظن أنه بعدما استثنينا تلك المؤسسات من القيام بالفعل، لم يبق لنا طبعا إلا العفاريت والتماسيح الذين طالما كان السيد عبد الإله بنكيران يشتكى منهم، لكن إذا ما افترضنا جدلا أنه كان صادقا في اتهامه لهم، بكونهم المسؤولون عن ذلك الحصار، الذي سبب له الشعور بالحرج،، دافعا إياه إلى رفع ملف الأمازيغية إلى جلالة الملك، فسنجد أنفسنا مرة أخرى أمام تساؤل منطقي جديد عن السبب الذي دفع بهذه الجهات إلى القيام بهذه العرقلة.. أعتقد أننا إذا ما استبعدنا الهزل في الجواب عن هذا التساؤل، وتعاملنا معه بجد فسنصل كذلك إلى نفس النتائج السابقة، وهي انتفاء وجود أي عداء أو كراهية بين الأمازيغية من جهة، وبين هذه الكائنات الخفية من جهة أخرى، لثبوت انعدام وجود أي دليل يثبت هذا العداء. إذن، معنى هذا كله أن هناك شيئا آخر خفيا كان يدفع بهذه العفاريت والتماسيح إلى عرقلة صدور القانون الأمازيغي. هذا الشيء الخفي هو بالضبط موضوع الخيال السياسي لهذه المقالة، فهو إن صح تخييلي ينم عن اتصاف هذه الجهات الخفية بذكاء سياسي خارق، متسم بالعمق وببعد النظر، جعلها تدرك ما لم يدركه الكثيرون، بمن فيهم الخبراء ومنظرو السياسة، فتصرفت بإرادتها المنفردة سعيا منها إلى تحقيق هدف تراه نبيلا، يتمثل من جهة في حماية حزب العدالة والتنمية من آفة التغول، ومن جهة أخرى حماية الدولة وكذا المجتمع ثم الإسلام السمح من ويلات الفوضى والجهالة والتخلف التي يجرها معه عادة هذا التغول؛ أما تصرفها فقد تجلى في تقديري في قيام هذه التماسيح والعفاريت بمنع حزب العدالة والتنمية الحاكم من مضاعفة استقوائه بالأمازيغية، بعد أن نجح شعبيا بالاستقواء بالإسلام، على اعتبار اعتقادها أن امتلاك هذا الحزب للأمازيغية وللإسلام معا، كقوتين جبارتين محركتين لروح الشعب المغربي، ستجعله بلا شك يملك الكل في الكل، ما من شأنه أن يجعله قادرا على قلب جميع الموازين، بما فيها التفافه على خيارات الدولة الحديثة برمتها، بما فيها من مساواة وديمقراطية وحقوق إنسان وغير ذلك، من منطلق إدراكها بأن في عمق ذهن كل حزب إسلامي مهما كان السعي إلى العودة إلى دولة الخلافة الإسلامية القديمة. الراجح إذن أن هذه العفاريت والتماسيح بعدما رأت اكتساح هذا الحزب لجل المدن المغربية في انتخابات الولاية التشريعية الأولى والثانية لدستور سنة2011، خشيت ربما أن يكتسب أيضا قلب الناطقين بالأمازيغية بإصداره قانوني الأمازيغية، فيكتسح بذلك البوادي المغربية، لتصبح الساحة الوطنية كلها ملك يمينه، يفعل فيها ما يشاء. لذلك رأت هذه العفاريت والتماسيح أن المصلحة العليا للدولة وللمجتمع تقتضي عرقلة هذا الحزب عن إصدار القانون الأمازيغي، على الرغم مما في ذلك من ضرر مؤقت للأمازيغية، وما فيه من خرق صريح للفصل 86 من الدستور؛ وسندها في القيام بهذه العرقلة تطبيقها الحرفي لمبدأ ميكافيلي المشهور: "الغاية النبيلة تبرر الوسيلة المستعملة".