العودة إلى باريس ليست مجرد رحلة عابرة نحو مدينةٍ جميلة فقط، بل هي رحلة تحمل العاشق الولهان حملا الى عوالم لا تشبه مثيلاتها، رحلة اعتبرها متتالية حسابية تفضي الى متعة تجتمع فيها متع الدنيا إن علا وإن سفل، بل هي فوق هذا وذاك استعادة لوهجٍ داخليّ يكلمك بجميع اللغات، ويحاورك بشتى التعابير اللغوية وبأكثر من احساس يعرفه الانسان وقد لا يعرف والحال أن عالم الأحاسيس لغز رباني استثنائي قد يختلف من انسان لآخر، ورحلتي لباريس أكيد اعتبره نوعا من استئناف لحوارٍ طويل مع التاريخ، والفن، والجمال. ففي كل مرة تطأ فيها قدماي شوارع العاصمة الفرنسية، أشعر وكأني أدخل كتابًا مفتوحًا من الثقافة الإنسانية فأعتمر فيه الى حد التماهي الصوفي بكل مدارسه المعروفة، حيث تتداخل فيه رائحة الماضي مع نبض الحاضر. فباريس ليست وجهة سياحية فحسب، بل تجربة متعددة الأوجه: هي وحدها من تمارس عليك سحرها بنعومة، وتقودك من مقهى صغير في حيّ "السان ميشيل"، إلى متحف "اللوفر"، إلى نزهة على ضفاف السين، دون أن تفقد هويتك على اعتبار أنك زائر أو تذوب تمامًا في ازدحامها. حتما لا، هذه ليس فقط باريس التي استهوتني إلى حد الجنون. هي في نفس الوقت مدينة تُشبه كنا سبق أن قلت: اعتبرها كتابًا لا يُقرأ مرة واحدة، بل يُعاد اكتشافه مع كل رجعة. فالرجوع إلى باريس له طعم خاص ولعل من زارها ويزورها مرات ومرات ، لا بد أن يشعر بنوع من الإدمان والعودة، لا حبًا وعشقا في المكان فقط، بل لِما تفعله فينا المدينة من تأثير ذكرياتها، وما يُجدد في الزائر من مشاعر، وما يوقظ فينا من تساؤلات حول الفن، والمعمار، والحرية. إن باريس تُعيد فينا صياغتنا دون أن نشعر، وتُعيد ترتيب مشاعرنا وأفكارنا، لتمنحنا في آخر المطاف تمنحنا فرصة لتأمل ذولتنا وسط مشاهدها الباذخة. وفي ذات العودة، تكمن النكهة الثقافية التي لا تخطئها عين. فالمكتبات، والمسارح، وصالات العرض، والأزقة التي شهدت ميلاد مدارس فكرية وفنية، تُغرينا بأن تكون جزءًا من هذا المشهد المتجدد. فالزائر المثقف استثناء لا يكتفي بمشاهدة برج إيفل، بل يبحث في الأزقة عن عبق سارتر، ويستحضر نبرة بودلير، ويتلمس ظلال بيكاسو في جدران المدينة. ولأن باريس مدينة الأنوار كما سماها العارفون وعشاق المتع أكثر من مكان، فهي دعوة إلى التأمل والتذوق والتعلم، ولأن العودة إليها تُشبه العودة إلى الذات، فهي لحظة استراحة فكرية وجمالية في زمن الازدحام والضجيج، والضجيج الذي لا يحرك فينا اللغة، وجمالية اللغة فهو غير جدير بها، وهو أصلا لا يعتبر ضجيجا بالمفهوم المتداول والذي تلوكه السنة عوام الناس. صدق عشاق باريس حين أجمعوا على أن الرجوع إلى باريس هو بالضبط تذكير بأن الجمال لا يُستهلك، وأن للثقافة فضاءً يتجاوز القاعات المغلقة، ويعيش في الشارع، في التفاصيل، في نبرة الحديث، وفي دفء المقاهي التي تهمس لك بأنك لست غريبًا، حتى وإن اعتبرت نفسك عابرا مثل باقي العابرين.