وزير الداخلية يودّع شقيقته الكبرى بجنازة هادئة وبدون بروتكول ومتواريا عن الأنظار    كوت ديفوار تجدد تأكيد "دعمها الكامل" للمبادرة المغربية للحكم الذاتي    العيون.. رئيس "سيماك": التجربة التنموية في الأقاليم الجنوبية للمغرب نموذج يحتذى على الصعيد القاري    انطلاق فعاليات النسخة الأولى من ملتقى التشغيل وريادة الأعمال بطنجة    ميسي يقود ميامي إلى هزم بورتو    مهرجان "كناوة وموسيقى العالم" يعيد إلى الصويرة نغمة المحبة والبركة    "عائدتها قدرت بالملايير".. توقيف شبكة إجرامية تنشط في الهجرة السرية وتهريب المخدرات    رئيس النيابة العامة يجري مباحثات مع وزيرة العدل بجمهورية الرأس الأخضر    حكومة أخنوش تصادق على إحداث "الوكالة الوطنية لحماية الطفولة" في إطار نفس إصلاحي هيكلي ومؤسساتي    ماركا: ياسين بونو "سيد" التصديات لركلات الجزاء بلا منازع    تغييرات في حكامة "اتصالات المغرب"    البيت الأبيض: موقف دونالد ترامب من إيران "لا يجب أن يفاجئ أحداً"        بعيوي يكذب تصريحات "إسكوبار الصحراء"    الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية يستقبل وزيرة العدل بجمهورية الرأس الأخضر    إصدار أول سلسلة استثنائية من عشرة طوابع بريدية مخصصة لحرف تقليدية مغربية مهددة بالاندثار    الحرب الامبريالية على إيران    أمن طنجة يتفاعل بسرعة مع فيديو السياقة الاستعراضية بشاطئ المريسات ويوقف المتورطين        الأحمر يلازم تداولات بورصة البيضاء    الحكومة تصادق على تقنين استخدام "التروتينت" ووسائل التنقل الفردي بقوانين صارمة    المغرب والولايات المتحدة يعززان شراكتهما الأمنية عبر اتفاق جديد لتأمين الحاويات بموانئ طنجة المتوسط والدار البيضاء    الإعلام الإنجليزي يشيد بأداء الوداد وحماس جماهيره في كأس العالم للأندية    نشرة إنذارية تحذر المواطنين من موجة حر شديدة ليومين متتاليين    "مجموعة العمل" تحشد لمسيرة الرباط تنديدا بتوسيع العدوان الإسرائيلي وتجويع الفلسطينيين    أخبار الساحة    الوداد الرياضي يتلقى هدفين نظيفين أمام مانشستر سيتي في كأس العالم للأندية    بنكيران يهاجم… الجماهري يرد… ومناضلو الاتحاد الاشتراكي يوضحون    هل يعي عبد الإله بنكيران خطورة ما يتلفظ به؟    مجازر الاحتلال بحق الجوعى وجرائم الحرب الإسرائيلية    بيت الشعر في المغرب يتوّج بجائزة الأكاديمية الدولية للشعر    تعدد الأصوات في رواية «ليلة مع رباب» (سيرة سيف الرواي) لفاتحة مرشيد    سؤال الهوية الشعرية في ديواني .. « سأعبر جسر القصيدة» و «حصتي من الإرث شجرة» للشاعرة سعاد بازي المرابط        الحكومة تصادق على إحداث المعهد الوطني العالي للموسيقى والفن الكوريغرافي        معرض بكين للكتاب: اتفاقية لترجمة مؤلفات حول التراث المغربي اللامادي إلى اللغة الصينية    الدوزي يُطلق العدّ التنازلي ل"ديما لباس"    كتل هوائية صحراوية ترفع الحرارة إلى مستويات غير معتادة في المغرب    طنجاوة يتظاهرون تنديدًا بالعدوان الإسرائيلي على غزة وإيران    الشعب المغربي يحتفل غدا الجمعة بالذكرى ال55 لميلاد صاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد    إصابة حكم ومشجعين في فوضى بالدوري الليبي    ميداليات تحفز "بارا ألعاب القوى"    فحص دم جديد يكشف السرطان قبل ظهور الأعراض بسنوات    بنهاشم بعد مواجهة مانشستر سيتي: لعبنا بشجاعة وخرجنا بدروس ثمينة رغم الخسارة    بنك المغرب والمؤسسة المالية الدولية يوقعان شراكة لتعزيز الشمول المالي الفلاحي بالمغرب    الصين تدفع نحو مزيد من الانفتاح السياحي على المغرب: سفارتها بالرباط تتحرك لتعزيز توافد السياح الصينيين    إيران تستهدف مستشفى بجنوب إسرائيل ونتانياهو يتوعدها بدفع "ثمن باهظ"    برلمان أمريكا الوسطى يُجدد دعمه الكامل للوحدة الترابية للمغرب ويرد على مناورات خصوم المملكة    خدش بسيط في المغرب ينهي حياة بريطانية بعد إصابتها بداء الكلب    السعودية تدعو إلى ارتداء الكمامة في أداء العمرة    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    ورزازات تحدث تحولا نوعيا في التعامل مع الكلاب الضالة بمقاربة إنسانية رائدة    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    خبير يعرف بالتأثير الغذائي على الوضع النفسي    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



راهن العربيّة وتحدّيات العولمة الثقافيّة
نشر في هسبريس يوم 19 - 07 - 2019


تزايد الإقبال على تعلّم اللغة العربيّة
هناك أكثر من مؤشّر على أنّ اللغة العربيّة بدأت تشهد منذ مطلع الألفيّة الجديدة إقبالاً لافتاً للنظر من لدن غير العرب وغير الناطقين بها، لا سيما في العديد من الدول الغربيّة والشرقيّة، مثل روسيا وتركيا والصين والولايات المتحدة الأمريكيّة والدول الأوربيّة. ويلاحظ أّن الدواعي التي تقف وراء اختيار تعلّم هذه اللغة تختلف من دولة إلى أخرى، ومن مجتمع إلى آخر، بل ومن فرد إلى آخر، وهي تتوزّع على ما هو علمي بحت، وما هو سياسي، وما هو ديني، وما هو اقتصادي.
تشير دراسة أمريكيّة قامت بها جمعيّة اللغة الحديثة MLA إلى أنّه عقب أحداث 11 شتنبر 2001 مباشرة، تصاعدت وتيرة إقبال الأمريكيّين على تعلّم لغة الضاد، إذ بلغ عدد المسجّلين لدراسة اللغة العربيّة في المعاهد والجامعات الأمريكيّة، عام 2009، 35 ألف طالبا، وهو تحوّل عميق وملحوظ حقّق أعلى نسبة مئوية ما بين اللغات الأخرى، قدّرت بما يربو عن 46%، وهذا العدد من المسجّلين لتعلم اللغة العربيّة لا يستهان به، إذا ما تمّت مقارنته بعدد المسجّلين عام 1998 الذي وصل إلى 5500 طالبا، لينتقل عام 2002 إلى الرقم 10 آلاف و584 مسجّلا، فتحتل بذلك اللغة العربيّة المرتبة الثامنة في الترتيب العام للغات الأكثر إقبالا عليها في المؤسّسات العليا الأمريكيّة، حسب معطيات جمعيّة اللغة الحديثة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة. (1)
وهذا ما ينطبق، بشكل أو بآخر، على حالة اللغة العربيّة في الصين، حيث يتزايد الإقبال على تعلّمها ودراستها حسب جريدة الشرق الأوسط التي كشفت عن أنّ اللغة العربيّة تشهد اهتماماً منقطع النظير من قبل الكثير من الصينيّين، وذلك باعتبارها تيسّر التعامل التجاري مع السوق العربيّة الخصبة والواعدة للاستثمارات الصينيّة، حيث ارتفع حجم المعاملات التجاريّة الثنائيّة بين الصين والدول العربيّة إلى 110 مليار دولار أمريكي. هكذا فإنّ تعلّم اللغة العربيّة صار محدّدا أساسيّاً لمثل هذه العلاقات الاقتصاديّة، مما يفتح آفاقا زاهرة أمام كل صيني متمكّن من إتقان هذه اللغة، لا سيّما وأنّ أيّ متخرّج في هذا الحقل اللغوي ينتظره راتب شهري يتراوح ما بين 1200 و2000 دولار أمريكي، وهو أجر عال بكثير عن الأجور الحكوميّة في الصين.
ثم إنّ هذا الإقبال على تعلّم اللغة العربيّة تعدّى البعد الديني الدعوي إلى البعد التجاري الاقتصادي، خصوصاً في المناطق التي تقطنها الأقليات الصينية المسلمة (إقليم سينكيانج وبعض المقاطعات الغربية والجنوبية)، وقد ورد على لسان ما شاو وو، رئيس معهد القوميات في لينشيا: "أنّ الإقبال على تعلم اللغة العربيّة في هيئات التدريب المهني الخاصة علامة على تحوّل تدريس اللغة العربيّة من التعليم المسجدي إلى التعليم المدرسي، وانتقال هدفه من الوفاء بمتطلّبات المسلمين إلى تحقيق العائدات الاقتصاديّة، ونحن سعداء برؤية ذلك". (2)
وهذا ما يسري أيضاً أكثر على وضعيّة اللغة العربيّة في الدول الأوروبيّة، التي تستقر فيها أعداد غفيرة من المسلمين، كفرنسا وألمانيا وبريطانيا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا وإيطاليا وغيرها. حيث تنتعش اللغة العربيّة بشكل ملحوظ؛ تعليما وتعلّما، سواء لدى المواطنين من أصول عربيّة وإسلاميّة أم لدى المواطنين الأوروبيّين والغربيّين. وما يسترعي النظر أنّ هذا الاهتمام باللغة العربيّة لا يقتصر على المؤسّسات الإسلاميّة التقليديّة فحسب، بقدر ما يتعدّاها إلى مختلف المؤسسات الأكاديمية والتعليمية والبحثية والثقافيّة والإعلامية الإسلاميّة والغربية على حد سواء. ومع أنّ الدوافع إلى تعلّم اللغة العربيّة تتنوّع بحسب أهداف كل فئة وحوافزها، إلا أنّ الدافع الأساس الذي يأتي في المقدمة، يتعلق بالحفاظ على الهويّة الأصلية والتحصين الذاتي للأقليات المسلمة، ضد الغزو الفكري والتفسخ الأخلاقي والاكتساح الإعلامي للثقافة الغربية المهيمنة التي تسعى إلى التهام الثقافات الهامشية وصهرها في بوتقتها باسم الحداثة والعولمة والاندماج.
على أساس هذه المؤشرات الإحصائية والواقعية التي تثبت مدى الإقبال الكثيف على تعلّم لغة الضاد خارج قواعدها الطبيعيّة، يبدو أنّ مقتضى هذه المعادلة الجديدة لا يُستوعب إلاّ في نطاق السياق العام الذي تنتظم فيه، وهو سياق يتراوح بين الهيمنة والمقاومة، بين الولاء والتحدي، بين القبول والرفض، وبين الانخراط التلقائي في اقتصاد السوق والعولمة والثورة الرقميّة من جهة، والتمسك الشديد بالثقافة الأم والهوية الأصلية والخصوصية المحلية من جهة أخرى، لذلك لا يمكن فصل المسألة اللغوية عن هذه المعادلة، اعتبارا بأنّها أكثر المسائل الثقافيّة والاجتماعيّة استجابة لمتغيرات السياق وتطوّراته.
وهذا ما ينطبق على اللغة العربيّة، التي تمكّنت، رغم أزماتها الداخليّة، من أن تسترعي انتباه أكثر من جهة أجنبيّة، إلاّ أن هذا الاسترعاء ليس موحّدا، وإنّما يتبلور بحسب المجال التداولي وقانون العرض والطلب والقابليّة الثقافيّة والاجتماعيّة. فإذا كان الأمريكي يقبل على تعلم اللغة العربيّة بغرض فهم شخصية الإنسان العربي واستيعاب تعاليم الدين الإسلامي، ومن ثمّ صياغة استراتيجية سياسيّة وأمنيّة لمواجهة خطر الامتداد الإسلامي. فإنّ الصيني يفضّل دراسة لغة الضاد تفاعلا مع قانون السوق والتجارة، لا سيّما في زمن ما يطلق عليه مؤلفا كتاب فخ العولمة: "ديكتاتوريّة السوق والاقتصاد"، (3) ليس عشقا للغة العربيّة في حد ذاتها، وإنّما سعيا إلى الاستحواذ على الأسواق العربيّة الواعدة، عن طريق آليّة التواصل اللغوي المباشر، التي تصل المصنع بالسوق، وتقرّب المنتج من المستهلك. في حين أنّ نشوء القابليّة لتعلّم اللغة العربيّة لدى الأقليات العربيّة والمسلمة في أوروبا، مرجعه الجوهري إلى الحفاظ على الهويّة الدينيّة والثقافيّة الأصليّة، واكتساب المناعة الذاتيّة اللازمة أمام الاكتساح الذي تمارسه الثقافة الغربيّة المهيمنة.
هكذا، فإنّمن شأن هذه المعطيات أن تميط اللثام عن جوانب مهمة من راهن اللغة العربيّة، لا سيّما في الدول التي تستقر فيها جاليات عربيّة ومسلمة، أو الدول التي تربطها علاقات سياسيّة واقتصاديّة وطيدة بالعالم العربي، وذلك في زمن العولمة بصفة عامة والعولمة الثقافيّة بصفة خاصة، والتي يتخذ منها العديد من الباحثين والمثقّفين العرب والمسلمين مواقف سلبيّة رافضة، بما أنّها تسعى إلى تغريب العالم أو "أمركته"، وإلغاء الخصوصيّات الثقافيّة والإنسانيّة المحلّيّة والجهويّة، وصهرها في بوتقة الثقافة الغربيّة المهيمنة، وذلك بدعوى جعل الشيء عالميا وموحّدا، بل وأكثر من ذلك، فإنّ العولمة ما هي إلاّ استمرار للمرحلة السابقة التي هي الاستعمار، ولا تختلف عنها إلاّ من حيث الآليات المستحدثة التي توظفها لتنميط العالم وضبط أنساقه، كالنظام العالمي الجديد واقتصاد السوق وتكنولوجيا المعلومات.
زحف العولمة
قصد استيعاب راهن اللغة العربيّة إذن، لا يمكن تفادي زحف العولمة أو تجاهل تداعياتها وتأثيراتها، بل ينبغي التعاطي بواقعية مع السياق الجديد المعولم، والتفاعل المثمر مع ما يوفره من إمكانيّات اقتصاديّة وتكنولوجيّة وتواصليّة، وإلاّ فسوف نحكم على أنفسنا ومجتمعاتنا بالعزلة التامة أمام الغزو الفكري والإعلامي الذي يفد علينا من كل الجهات، وعلى مدار الزمن الفيزيقي. حقّا أنّ ثمّة الكثيرين ممّن دقوا ناقوس الزحف العولمي الذي يحمل العديد من الأخطار للإنسانيّة، من تهديد للقيم الأخلاقيّة والاجتماعيّة المشتركة، وإقصاء الثقافات والخصوصيّات المحلّيّة، وتغريب الإنسان عن بيئته الأصليّة. غير أنّه لا ينبغي أن نصرف النظر عن الوجه الإيجابي للعولمة التي قرّبت بين أطراف الكرة الأرضيّة، واستثمرت مكتسبات النهضة العلميّة والتكنولوجيّة، وحفّزت التنافسيّة التجاريّة والاقتصاديّة العالميّة، وفتحت ملفات البيئة، وغير ذلك.
وقد رأينا كيف تمكّنت اللغة العربيّة من أن تحضر في السياق العالمي الجديد، وتفرض وجودها في بعض الدول والقارات، ومع أنّه حضور أوّلي وغير مخطّط، إلا أنّه يعني، بشكل أو بآخر، أنّ الانخراط في فضاء العولمة صار واقعاً لا مناص منه، لا بالنسبة إلى اللغة العربيّة فحسب، وإنّما إلى مختلف الأنساق اللغويّة والثقافيّة والدينيّة والسياسيّة والاقتصاديّة. هكذا فإنّ هذا الواقع الجديد الذي تفرضه العولمة، يبدو أنّه يرقى بما هو محلي وإقليمي إلى العالمية والكونية، وهذا هو حال اللغة العربيّة، التي أصبح الناس يقبلون على تعلّمها، في الصين والولايات المتحدة الأمريكية والقارة الأوروبية وغيرها. إلاّ أنّه يضع مقابل ذلك جملة من التحديات في وجه تعلم اللغة العربيّة وتعليمها، تتحدّد أهمّها كما يأتي:
غياب الرؤية الموحدة بخصوص استعمال اللغة العربيّة، على صعيد المنطقة العربيّة أو خارجها، سواء في مستوى مناهج التدريس وطرائقه، أو فيما يتعلق بتوظيف التقنيات الرقمية الحديثة، أو فيما يرتبط بالتقعيد الأكاديمي الذي يختلف من دولة إلى أخرى ومن جامعة إلى أخرى.
عدم تخصيص ميزانية كافية من قبل الدول العربيّة لتأهيل اللغة العربيّة وتطوير أدائها داخل المؤسسات التعليمية وفي وسائط الإعلام وفي مستوى التواصل اليومي.
عدم مواكبة اللغة العربيّة للمتغيرات التكنولوجية الجديدة قصد الاستفادة الفوريّة والشموليّة منها، فهي تتمسّك بالطابع التقليدي في التواصل والتكوين.
تهميش اللغة العربيّة داخل المؤسّسات الجامعيّة الغربيّة، وعدم اعتمادها في البحث العلمي، كما هو الشأن بالنسبة إلى اللغات الأوروبية الحيّة كالفرنسية والإنجليزية والإسبانية والألمانية وغيرها.
تحجيم دور اللغة العربيّة في مجتمعات المعرفة وشبكات التواصل الدولي، أمام الاكتساح الشمولي الذي تمارسه اللغة الإنجليزية في مختلف مجالات التعليم والإعلام والتسويق والإنتاج.
من هذا المنطلق، يتّضح أنّ اللغة العربيّة تجد نفسها اليوم أمام شتّى التحديات المنهجيّة والتواصليّة والتمويليّة، في زمن القرية الكوكبية والعولمة الثقافيّة والتقارب الإلكتروني، وليس مردّ ذلك إلى الطبيعة التسلّطيّة للعولمة من خلال الأنماط اللغوية والثقافيّة الغربية فحسب، وإنّما إلى انكماش القابلية لدى العرب لتأهيل اللغة العربيّة، وتنمية أدائها، وتطوير وسائلها ومناهجها، حتى تتمكّن من مواكبة التحولات العالميّة المتسارعة ومنافسة غيرها من اللغات العالمية الحيّة، كما كان الأمر في الماضي.
اللغة العربيّة وضرورة استثمار الفرص المتاحة
إنّ السياق العالمي المعاصر الذي تحكمه محدّدات العولمة وانتفاء الحدود الثقافيّة واللغويّة والإعلام الجديد، لا يساهم فقط في تيسير تنقّل الأشخاص ومرور البضائع، وإنّما أصبح يؤدّي دوراً كبيراً في الحركة السلسة للأفكار والمفاهيم والمناهج عبر مختلف أصقاع المعمورة، ليس عن طريق الوسائل التقليدية المتعارف عليها، كالزيارات الأكاديمية والترجمة والمطبوعات فحسب، بل عبر آليات جدّ متطورة استحدثتها الثورة الرقميّة، كشبكة الإنترنت والهواتف الجوالة والكتاب الإلكتروني وبرامج الترجمة الفوريّة والمتعدّدة.
ولم يعد التواصل الإعلامي يقتصر على النموذج التواصلي التقليدي 1.0 الذي يتمّ التعامل فيه مع المرسل إليه، سواء أكان قارئاً أم مشاهدا أم مستمعا، باعتباره متلقّيا سالبا يلتقط المعلومات فقط، ولا يمكن له التفاعل معها عن طريق المشاركة أو التعقيب. بل أصبح التواصل الإنساني اليوم يشهد مرحلة جديدة، يسود فيها الأنموذج التواصلي التفاعلي 2.0، حيث يسهم المرسل إليه بقسط وافر في صناعة الخطاب الإعلامي المعاصر، عن طريق مشاركته الملموسة والمباشرة في الإعلام الجديد الذي يُمكّن الجميع من أن يمارس فعل الإعلام، لا عن طريق الدردشة عن بعد فحسب، وإنّما عن طريق شتّى أنماط التغطية من تصوير فوتوغرافي أو فيلمي وتعبير نصي ونقاش حي. وهذا ما يطلق عليه في التنظير الإعلامي الحديث: "التواصل بلا حدود"، يقول الخبير الإعلامي فرانك يانسن في هذا الصدد: "منذ ظهور وتطور الإنترنت أصبح الحديث عن التواصل بلا حدود؛ أي أنموذج التواصل 2.0 الذي يمارس تأثيرا عميقا، ويمكن من استكشاف الإمكانات واستثمار الفرص". (4)
وهذا يعني أنّ العالم راح ينتظم بشتى أطرافه ومكوّناته في ما يطلق عليه في التنظير الإعلامي "مجتمع المعرفة" الذي تعدّ آلية التواصل محرّكه وموجّهه الجوهري. ويميّز السوسيولوجي الإسباني مانويل كاستلس بين ما يطلق عليه mass communication؛ أي وسائل الاتصال الجماهيري التي يمكن أن تكون ذات طابع تفاعلي أو أحادي الاتجاه. ويتّسم التواصل في الوسائل التقليديّة بأنّه أحادي الاتجاه، حيث تبعث الرسالة من مرسل واحد إلى مرسلين متعدّدين، كما يتمّ من خلال السينما، المذياع، التلفزة، الجريدة والكتاب. في مقابل ذلك، يتحدث كاستلس عن ما يسميه mass self-communication؛ أي التواصل الذاتي الجماعي أو الشامل الذي ظهر بانتشار الانترنت، ويتميّز هذا النوع بإمكانيّة بعث رسائل من مرسلين متعدّدين إلى مستقبلين متعدّدين في كل لحظة. ممّا يمكّنه من استقطاب جمهور على نطاق عالمي، كما يحصل أثناء نشر شريط على اليوتوب، أو وصل بلوك بتقنية RSS بمجموعة من المواقع الرقميّة، أو إرسال رسالة إلى مجموعة من العناوين الرقميّة. (5) وقد نشأت هذه الصيغة من التواصل بفضل تطوير أنموذج التواصل 2.0 و3.0 الذي يدعم نشر الشبكات الاجتماعيّة عبر الإنترنت.(6)
وقد استفادت اللغة العربيّة كثيراً من هذا السياق العولمي الجديد. لذلك فإنّ دراسة راهنها واستشراف مستقبلها، لا ينبغي أن يتمّ خارج هذا السياق الذي من شأنه أن يؤهّل إمكاناتها المنهجيّة والبيداغوجيّة والتواصليّة. فتساير بذلك الحراك الثقافي العالمي الذي يزحف في كل الاتجاهات غير آبه بالحواجز الجغرافيّة والثقافيّة التقليديّة. وعندما نجيل النظر في مظاهر حضور اللغة العربيّة على الصعيد العالمي، ندرك أنّه بدأ يتكثّف ويتنوّع، سواء في المستوى العلمي الأكاديمي (دراسات جامعية، مؤتمرات، ندوات، معارض)، أم في المستوى التربوي (مناهج تدريس، دورات تكوينية، معاجم علمية)، أم في المستوى الإعلامي (بث إذاعي، قنوات فضائيّة، شبكات اجتماعيّة). ولعلّ هذه المظاهر كانت سائدة، بشكل أو بآخر، منذ بداية ثمانينيّات القرن الماضي، إلاّ أنّ الجديد فيها هو توظيف آليّات الرقمنة التفاعليّة على صعيد أوسع، في المنهج والتأليف والتدريس والتواصل والترجمة وهلم جرا.
إنّ العولمة الثقافيّة بقدر ما تضع جملة من التحديات في طريق اللغة العربيّة، فإنّها تمنحها الكثير من الإمكانات الجديدة لأن تنهض من رقدتها. غير أنّ الخلل لا يكمن لا في اللغة العربيّة، ولا في العولمة الثقافيّة، وإنّما في الإنسان العربي نفسه الذي تعوزه قابليّة استثمار الفرص الهائلة التي تتيحها هذه العولمة! وليس ثمّة أدلّ على ذلك من المفارقة العجيبة التي مؤداها أنّ اللغة العربيّة أصبحت تعتبر اليوم اللغة العالميّة الخامسة من حيث المتحدثون بها، حسب آخر إحصائيات المرصد اللغويEthnologue المتخصّص في اللغات العالميّة، غير أنّ المنطقة العربيّة بمختلف دولها ومؤسّساتها وجامعاتها ومعاهدها فشلت إلى حد اليوم في إرساء استراتيجية لغويّة تؤهّل لغة الضاد، وتجعلها تواكب التحولات التكونولوجيّة والأكاديميّة والتواصليّة واللسانيّة الذي يشهدها العالم.
هوامش:
1- New MLA survey report, Modern Language Association – New York, Wednesday 8 December 2010
2- إقبال متزايد على تعلّم اللغة العربيّة في الصين، الشرق الأوسط، ع/11555، الأحد 07 شعبان 1431 ه/ 18 يوليو 2010
3- هانس بيتر مارتن وهارالد شومان، فخّ العولمة، الاعتداء على الرفاهية والديموقراطيّة، تر. عدنان عباس علي، عالم المعرفة (238)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت، أكتوبر 1998
4- F. Janssen, Communicatie 2.0 is grenzeloos, www.frankwatching.com, woensdag 1 april 2009
5- Castells, Manuel ed., The Network Society From Knowledge to Policy, Center for Transatlantic Relations, Washington 2005, p 55, 56
6- Castells, 2009, p 65


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.