على صخور الشارع التي نتوسّدها تنهار الأحلام ويتحوّل بعضها إلى كوابيس.. في الشارع أنصاف أحلام.. أرباع طموحات.. وأعشار رجال. في الشارع تجد حالما كان يأمل أن يكون يوما دكتورا لكن الحياة أرغمته على أن يوقف العدّ عند العشرة، بدل مواصلته حتى المئة. في الشارع تجد عُشر شاعر.. عُشر فيلسوف.. عُشر دكتور.. و عُشر عدّاء. "السكورطيح"، مثلا، لو كان عاش حياة عادية لكان الآن ينافس الجمايكي "بولت" في حلبات السباق العالمية. لكنه وجد نفسه، رغما عن أنفه، عدّاء شارع.. مجرد مشروع رياضيّ لم يكتمل. كان هو الأسرع بيننا، وكان يذهلنا بطريقة جريه كلما وقع حادث يتطلب العدو. ثمّ بدأنا نوظفه في الأمور التي يكون الفيْصل فيها هو عامل السرعة. كلّ ميسّر لما خلق له.. و"السكورطيج" ميسّر كي نحتاجه كسهم منطلق كلما دعت الحاجة. هذه المرّة جاء دوري واحتجت السكورطيح في المهمة التي اتفقنا عليها أنا وشروق، وهي إحضار صورة الأشقر بأية طريقة كانت. ولا توجد طريقة أخرى غير إحضار الكاميرا نفسها. سألتني شروق: - تبدو مهمة مستحيلة.. كيف ستحصل على الكاميرا؟ أجبتها منهيا باكرا جدا ما توقّعتُ أنه سيكون جلسة نصيحة: - سأحضر الكاميرا. فهمت فصمتتْ ولسان حالها يقول: "افعل ما عليك فعله". كنت قد بدأت أقلق بشدة عندما لم أجد "السكورطيح" في أماكنه المفضلة المعتادة. كان هذا قبل أن يخبرني أحدهم أنه "يقيم" الآن بأحد الأنابيب المائية الضخمة المخصصة لأحد المشاريع الكبرى بالمدينة. - السكورطيح... - فاين آلخاوا.. - غير هنا والسلام... حْتاجتك ف شي حاجة.. - هانية.. شحال فيها؟ - 2 طوبوس د السليسيون.. و 10 دراهم.. "السكورطيح" لا يشتغل مجانا طبعا، ويؤمن أن لكلّ شيء ثمن. ولحسن حظي أن الثمن لم يكن غاليا جدّا. فقط علبتيْ "سلسيون" و10 دراهم كانت تفي بالغرض. الحقيقة أنه قد يقوم بالمهمة من باب الشهامة. لكن الشهامة في هذا النوع من الخدمات لا تطول. فقط بعد يوم أو يومين سيقصدك طالبا شيئا مستحيلا أو أقرب إلى المستحيل. لهذا تعلمت في الشارع أن أؤدي مقابل كل خدمة أطلبها. هكذا يبقى صيتي في الشارع محترما. هؤلاء الذين أينما توجههم لا يأتون بخير يعانون كثيرا في إمبراطورية الشارع، ويضطرون للقيام بدور صبيان المعلم. ولم أكن يوما منهم. شرحت الخطوط العريضة للمهمة ل"السكورطيح"، وتركت له التفاصيل. وقفتُ غير بعيد أراقبه وهو يقترب من العجوز صاحبة آلة التصوير وهي تهمّ بركوب الحافلة. آلة التصوير في يد، واليد الأخرى تلوّح له بها رافضة التصدّق عليه. يتظاهر بالانسحاب ويستدير نصف استدارة قبل أن يكمل دورة كاملة سريعة خاطفة حول جسد العجوز ويعود لالتقاط آلة التصوير كأنه فهد صيّاد، ثمّ... هوووووب!! بعد هذه اللحظة انسحبت ولم أتابع ما حدث. أعرف النتيجة جيدا. يستحيل أن يمسكه أحدهم. خاصة أنه اكتسب خبرة ليس في العدو فقط، بل في رسم خريطة هروبه قبل القيام بأية مهمة. أذهب لملاقاته في منطقة "الغندوري"، غير بعيد عن فيلا هاريس. يسلّمني آلة التصوير وأسلمه بضاعته المُزجاة. طبعا، فكر ألف مرة في أن يحتفظ بالغنيمة لنفسه وأن يبيعها.. وتبدو صفقة مربحة للحظة. لكنه يفهم الشارع مثلما أفهمه. سيخسر سمعته. وسيخسر يوم أضبطه، وهذا هو الأخطر، إمّا ملامح وجهه أو حتى حياته. "الشّْمْتة" هي أقبحُ ما قد يؤذي متشردا. تكفينا الفظاعات التي نعيشها يوميا، لذا لا داعي أن يحاول أحد يوما أن يضيف إليها جرعة خاصّة من عنده.. خاصة إن كان من إخواننا. شعاري في الشارع هو "لا داعي لأن تكون قويا جدا. لكن اقتنص لحظة ضعف خصمك وسدد أقوى ضربة تستطيع". كنت أتجنب الشجارات على قدر الاستطاعة، لكن عندما كانت تفرض عليّ ولا أجد مفرا منها ألجأ إلى استخدام عقلي وليس عضلاتي. أصمت.. أتربّص.. أنتظر لحظة الضعف التي تكون لحظة سكر أو تعاطي لمخدّر ما، ثم أوجه أقسى ضربة لأسوأ مكان ممكن دون تحفظات. شجار أول وثانٍ، ثم اكتسبتُ السمعة التي بحثتُ عنها، فأصبحت في منأى نسبيّ عن الشجارات اليومية. أسلّم على شروق وأضع آلة التصوير أمامها. تذهلُ عيناها متسائلة بما معناه "بهذه السرعة؟"، فأومئ برأسي مجيبا أنْ نعم. نختار مكانا قصيّا ونبدأ البحث في ذاكرة الآلة فنعثر على 3 صور من التي نبحث عنها. الأولى لم تكن تصلح لأن الأشقر كان يطأطئ برأسه. الثانية يبدو فيها ثلاثة أرباع وجهه، لكنها لم تكن واضحة. الأخيرة – لحسن حظنا – كان وجه الأشقر فيها واضحا كأنه وقف خصيصا ليلتقط هذه الصورة من أجل جواز سفره. أتساءل بلهفة: - ما العمل الآن يا شروق؟ ! رواية "المتشرد" -6- .. اللقاء بين عماد وشروق يؤذنُ بتطورات جديدة