سمكة "صول" تُفجر نزاعا بين كاتب الدولة بن ابراهيم وطباخ فرنسي.. وشبهة تشغيل غير قانوني للأجانب    "النهج" يدافع عن "النظام في فنزويلا"    من نيويورك.. الداخلة تعزز حضورها الدولي عبر شراكة تنموية مع "غريت نيك" الأمريكية    المنتخب المغربي... رمز للوحدة الوطنية لا ساحة لتصفية الحسابات    ليكيب الفرنسية تكتب: ياسين جيسّيم.. جوهرة دنكيرك التي تبهر العالم بقميص المغرب في مونديال الشباب    28 منتخبا حجز مقعدا له في نهائيات كأس العالم 2026 لحد الآن مع تواجد سبعة منتخبات عربية    ترامب يتوعد بمراجعة برنامج مباريات المونديال    المغرب يستقبل 15 مليون سائح خلال 9 أشهر    بركة: الموسم الفلاحي المنصرم سجل تحسنا نسبيا    أسعار الذهب ترتفع قرب مستوى قياسي جديد    وصول ثاني أكسيد الكربون في الجو إلى مستوى قياسي في 2024    في ‬مفاهيم ‬الخطاب ‬الملكي:‬ من ‬تأطير ‬المواطنين ‬إلى ‬ترسيخ ‬ثقافة ‬النتائج    بعد 12 سنة من الجريمة التي هزت تونس.. أحكام بالإعدام والمؤبد في قضية اغتيال شكري بلعيد    تطوان تشهد وقفة تضامنية مع غزة ودعما لإعادة الإعمار    قال ‬إن ‬موسكو ‬مستعدة ‬لدعم ‬مخطط ‬الحكم ‬الذاتي ‬باعتباره ‬أحد ‬أشكال ‬تقرير ‬المصير:‬    المجتمع المدني والديمقراطية    ماذا يحدث في المغرب؟    التغيرات المناخية والوعي البيئي في عصر الأنثروبوسين، مقاربة ايكولوجية    نزهة بدوان: "سباق التناوب الرمزي المسيرة الخضراء" ترسيخ للمحلمة الوطنية    حملات ‬تحريضية ‬مجهولة ‬للزحف ‬نحو ‬مدينتي ‬سبتة ‬ومليلية ‬المحتلتين    دراسة: تحولات كيميائية في الحشيش المغربي المخزن طويلا تخلق فرصا جديدة للاستخدام الدوائي ضمن منظومة التقنين    بركة: المغرب يواجه احتمال سنة جفاف ثامنة على التوالي    الدين بين دوغمائية الأولين وتحريفات التابعين ..    هل يمكن للآلة أن تصبح مؤرخا بديلا عن الإنسان ؟    الملك يترأس مجلسا وزاريا للتداول في توجهات قانون مالية 2026    وهبي: "سنلعب أمام المنتخب الفرنسي على نقاط قوتنا وبأسلوبنا المعتاد"    السجن مابين 15 و3 سنوات لشباب احتجاجات آيت عميرة    طقس الأربعاء.. أجواء حارة نسبيا بالجنوب الشرقي ورياح قوية مرتقبة بعدة مناطق    وليد الركراكي: التصفيات الإفريقية المؤهلة لمونديال 2026..المنتخب المغربي يواصل استخلاص الدروس والتحسن استعدادا لكأس أمم أفريقيا    إسرائيل تستعد لإعادة فتح معبر رفح للسماح بدخول شاحنات المساعدات إلى غزة    "طنجة: الأمن يتفاعل مع مقاطع فيديو تُظهر مروجين للصخب الليلي ومدمنين على المخدرات    أزيد من 36 ألف شاب دون 40 سنة استفادوا من برنامج دعم السكن منهم 44.5 في المائة من النساء الشابات    أمني إسرائيلي يعلن التوصل بجثة رهينة "خاطئة"    برلماني يسائل تدبير مؤسسة في وجدة    واشنطن.. صندوق النقد الدولي ومحافظو بنوك مركزية إفريقية يجددون تأكيد التزامهم بالتنمية المستدامة في إفريقيا    تتويج جمعية دكالة ضمن أفضل جمعيات المجتمع المدني بالمغرب في اليوم الوطني لمحاربة الأمية    كرة القدم: 16 فوزا متتاليا.. رقم قياسي عالمي جديد من توقيع أسود الأطلس    اتحاد الجمعيات الثقافية والفنية بالصحراء تثمن مضامين الخطاب الملكي بالبرلمان    "ساعة مع مبدع" في ضيافة الشاعر "محمد اللغافي    بورصة الدار البيضاء تغلق على تراجع    تراجع مقلق في مخزون السدود بالمغرب إلى 32% بسبب الجفاف والتبخر    الرباط تحتضن نقاشا إفريقيا حول "حق التتبع" للفنانين التشكيليين والبصريين    414 مليار درهم قيمة 250 مشروعا صادقت عليها اللجنة الوطنية للاستثمار    ممارسة التمارين الرياضية الخفيفة بشكل يومي مفيدة لصحة القلب (دراسة)    منير محقق يصدر «تحليل بنيات الحكاية الشعبية المغربية»    فتح باب الترشيح للاستفادة من دعم الموسيقى والأغنية والفنون الاستعراضية والكوريغرافية    "أسعار الاستهلاك" ترتفع في المملكة    سانشيز: المسؤولون عن "الإبادة الجماعية" في غزة يجب أن يحاسبوا قضائيا    "الصحة العالمية": الاضطرابات العصبية تتسبب في 11 مليون وفاة سنويا حول العالم    مهرجان بن جرير يكرم رشيد الوالي ويحتفي بذكرى محمد الشوبي    قادة أربع دول يوقعون وثيقة شاملة بشأن اتفاق إنهاء الحرب في غزة    دراسة يابانية: الشاي الأخضر يقي من مرض الكبد الدهني    المغاربة متوجسون من تداعيات انتشار الأنفلونزا الموسمية خلال فصل الخريف    العِبرة من مِحن خير أمة..    حفظ الله غزة وأهلها    الأوقاف تعلن موضوع خطبة الجمعة    رواد مسجد أنس ابن مالك يستقبلون الامام الجديد، غير متناسين الامام السابق عبد الله المجريسي    الجالية المسلمة بمليلية تكرم الإمام عبد السلام أردوم تقديرا لمسيرته الدعوية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علاقة اللغة بالفكر
نشر في هسبريس يوم 16 - 10 - 2020

إن إشكالية علاقة اللغة بالفكر هي إشكالية ذات دلالات إبستيمولوجية، حيث أن مقاربة هذا الإشكال من وجهة نظر تيارات نظرية مختلفة يمكن أن يترتب عنها نماذج معرفية paradigmes متباينة. سؤال هذه الإشكالية هو: هل يمكن نقل البنيات اللغوية من الوسط إلى الإنسان؟ أم أن كل البنيات اللغوية تنشأ من داخل الإنسان ويكشف الوسط عن هذه البنيات؟ أو بصيغة أخرى هل تنتج البنيات اللغوية عن العقل تحث تأثير برمجة وراثية (أي فطرية)؟ أم أنها تنتج عن نشاط الإنسان (أي مكتسبة)؟
سعت التيارات ذات النزعة الفطرية في مقاربتها لهذا الإشكال، إلى تحديد البنيات اللغوية باعتبارها فطرية مرتبطة بالنوع البشري أي مرتبطة بطبيعة البشر، ولا يوجد لها نظير في أي مكان آخر في مجموع القدرات المعرفية، في حين اهتمت التيارات ذات النزعة البنائية بدراسة الخصائص اللغوية التي لها أسس مشتركة مع المجالات المعرفية الأخرى، باعتبارها جزءا من المعرفة التي يكتسبها الإنسان تدريجيا في تفاعل مع المحيط.. إن هذه المقاربات ستقود بالضرورة إلى تحديد علاقة اللغة بالفكر والمنطق.. أي هل المنطق يشتق من اللغة أم أن اللغة تأتي من الفكر والمنطق؟ وهل هذا المنطق فطري أم مكتسب؟ هذه هي الأسئلة التي سنحاول مقاربتها من وجهة نظر النزعة الفطرية ثم النزعة ألبنائية. في الجزء الأول نقدم مقاربة النزعة الفطرية.
اللغة والفكر في إطار النزعة الفطرية (تشومسكي نموذجا)
بداية لا بد من طرح إشكال علاقة اللغة بالمنطق على مستوى المواقف النظرية في حقل الدراسات اللغوية ذاته. لقد اختلفت هذه المواقف بين اللغويين أنفسهم، حيث يؤكد الوضعيون المناطقة على أن الوحدات المنطقية والوحدات الرياضية ليست سوى بنيات لغوية. وهكذا إذا أردنا السير في إجراءات المنطق أو الرياضيات، فعلينا -طبقا لهم- أن نستخدم التركيب اللغوي العام syntaxe أو علم الدلالات sémantique. وعليه فإن الصحة المنطقية والرياضية عموما، إنما تشتق من اللغة. غير أن تشومسكي يعارض هذا الموقف ويؤكد أن اللغة هي التي تشتق من المنطق والعقل. هكذا أضحى الإشكال هو الاختيار بين العقلانية التي يدافع عنها تشومسكي التي ترى أن اللغة تعتمد على المنطق وأن المنطق فطري، وبين تلك التي يتبناها الوضعيون التي ترى أن المنطق ببساطة ليس سوى اختراع لغوي.
في ما يتعلق بمنظور تشومسكي فإن "التيمة" التي تهيمن على برنامجه البحثي هي بلا شك الفكرة الكلاسيكية للعقلانية، حيث أن التزام تشومسكي بهذا الشكل من التفكير "العقلاني"، والذي كان ذات يوم لدى ديكارت وليبنتز، هو حاضر بالفعل في جميع أعماله خاصة في الكتابات ذات البعد الفلسفي. إن كل برنامج ذو نزعة عقلانية يسعى إلى البحث عن مجموع القواعد الصورية (الشكلية) formelles التي يجب أن تخضع لها كل بنيات الكون الممكنة. وتعتبر هذه النزعة أن حدس المنظر (الباحث)، بمساعدة قدرة كبيرة على التفكير، هو الطريق الوحيد للوصول إلى هذا الكون الخفي. وعليه تتمثل الافتراضات الأساسية للبرنامج العقلاني في: 1) عدم إسناد أي بنية داخلية للبيئة. 2) لا توجد قوانين نظام إلا من داخل الإنسان؛ بمعنى أن أي بنية مرتبطة بالإدراك، سواء أكانت ذات مصدر بيولوجي أو معرفي أو لغوي أو غير ذلك، يفرضها الإنسان على البيئة ولا تستخرج منها، أي أن البنية الداخلية عند الإنسان هي التي تحدد الأنماط التنظيمية الخاصة بالبيئة التي يمكن نقلها إلى الإنسان. 3) يتم تصور قوانين هذا النظام على أنها مرتبطة بالنوع وثابتة عبر العصور والأفراد والثقافات، أي قائمة قبل أي تفاعل منظم مع البيئة.
لكن ينبغي أولا تفسير معنى مصطلح "العقلانية" من أجل تجنب أي سوء فهم محتمل. إن نعث برنامج تشومسكي ب"العقلاني" أو ذي نزعة عقلانية يعود إلى استخدام تقليدي وتاريخي، ولا ينطوي بأي حال على حكم قيمة. أي لا يجب أن يفهم منه أن النظريات الأخرى، من قبيل اللسانيات الوصفية والنزعة الوظيفية وبنائية بياجي أو السلوكية والتجريبية، على أنها محملة باللاعقلانية. غير أنه يمكن الإشارة إلى أن النزعة العقلانية هي بالفعل خصم للنزعات البيئية من جميع الأنواع، سواء كانت متنكرة في زي التجريبية أو النزعة الترابطية أو النزعة السلوكية.
يرى تشومسكي أنه إذا طبقنا في الواقع طريقة عقلانية لاكتساب اللغة، يجب أن نبدأ من "الافتراض بأن مختلف الكليات universaux للنوع الصوري (formel) والنوع الأساسيsubstantiel هي خصائص جوهرية intrinséques لنظام اكتساب اللغة. وأن هذه الكليات توفر مخططا أو نمطا يتم تطبيقه على المعطيات الخارجية ويحدد بطريقة ملزمة الشكل العام وكذلك، جزئيا، المميزات الأساسية للقواعد التي من المحتمل أن تظهر عند تقديم المعطيات ذات الصلة". هكذا يؤكد تشومسكي (1975)، استنادا على هذه المرجعية "العقلانية"، أن "هناك نظاما مستقلا لقواعد اللغة الصوري (grammaire formelle) تحدده من حيث المبدأ القدرة اللغوية ومكوناتها العامة universelles". وعليه فإنه يفترض أن هناك بنية معرفية ثابتة، أو "نواة ثابتة" سماها القواعد اللغوية العامة grammaire universelle تنتج عن خصائص بنيوية للجسم المحددة جينيا. وتتولد عن هذه النواة كل اللغات تحت تأثير معطيات قادمة من البيئة، لذا سميت مقاربة تشومسكي بنظرية قواعد اللغة التوليدية. وعليه فإن المعطيات القادمة من المحيط، حسب هذه النظرية، ليست لها وظائف "تكوينية" تمارس على المتكلم، بل إنها بمثابة "محفزات" déclencheurs لتشغيل البنيات اللغوية الموجودة لدى الإنسان. إذن ليس هناك استيعاب أو استبطان من طرف الشخص لبنيات موجودة وجاهزة بالخارج، ولكن، وحسب ما كتب بوضوح تشومسكي نفسه: "إن المعطيات اللغوية الأولية تحدد، من بين كل اللغات، تلك التي نتعرض لها عند تعلمها... هذا في جزء منه لكن من جهة نظر أخرى يمكن لهذه المعطيات أن تلعب دورا آخر، حيث أن نوعا من المعطيات والتجارب يمكن ان تكون ضرورية لانطلاق اشتغال آلية التعلم اللغوي، دون أن تؤثر هذه المعطيات والتجارب على عملها وسيرها في أقل تقدير". شبه تشومسكي هذه العملية بعلاقة مفتاح التشغيل بالمحرك، حيث يتم بدء تشغيل المحرك بواسطة مفتاح التشغيل، لكن لا تشبه بنية المفتاح بنية المحرك ولا ينقل المفتاح بنيته إلى بنية المحرك. إن هذه المسلمة هي التي تهيمن على اكتشافات تشومسكي.
ومن جانب آخر، لجأ تشومسكي أيضا إلى استعارات بيولوجية لوصف اكتساب اللغة من حيث النضج أو النمو، حيث اعتبر أنه ينبغي دراسة نمو الكفايات والأداءات اللغوية مثلما يدرس عالم التشريح والفيسيولوجي نمو وأداء الكبد والقلب، باعتبار أن اللغة البشرية، في نظره، هي "عضو عقلي" الذي يكتسب بنية فطرية خاصة به مثل بنية باقي أعضاء الجسم. وقد قدم تشومسكي تشبيها آخر حيث اعتبر أن لدى البشر بنيات لغوية فطرية مبرمجة جينيا، مثلما يكون للعناكب سلوكا فطريا génotype مناسبا لبناء الشبكات... هذه الاستعارة البيولوجية توضح رؤية تشومسكي لاكتساب اللغة، حيث أضحى دور العالم الخارجي مجرد محفز لبرامج قبلية.
لكن يمكن أن يتساءل المرء، إذا كان مصدر اللغة هو جيني وراثي مشترك بين البشر فكيف يمكن تفسير وجود هذا التعدد في اللغات في العالم؟ تقترح فرضية البرنامج البيولوجي اللغوي أن البشر لديهم بنية نحوية معرفية فطرية تمكنهم من تطوير وفهم اللغة. وفقا لهذه النظرية، فإن هذا النظام راسي ومتأصل في الموروث الجيني البشري ويعزز القواعد النحوية الأساسية لجميع اللغات. لكن تعدد اللغات يعود إلى التطور والتمازج والانشطار اللغوي الذي حدث عبر العصور. ويستند هذا التفسير على فكرة تشبيه تطور اللغات بتطور الكائنات الحية، وفقا لنموذج شجرة الأنساب، باعتبار أن كل الكائنات الحية أتت من أصل واحد لكنها تعددت بفضل عمليات التطور والتحولات والاصطفاء والطفرات والانشطارات التي حدثت عبر العصور الطويلة. والدليل على ذلك هو وجود تشابه في البنية العميقة لكل اللغات مثل التركيب اللغوي، بل هناك كلمات مشتركة بين كثير من اللغات (مثل التقارب الكبير بين اللغات الأوروبية كونها حديثة الانشطار)، مثلما يوجد تشابه بين الكائنات الحية سواء على مستوى الأداء الوظيفي أو على مستوى التركيب البيولوجي (تشابه وظائف الخلايا وتكوينها البيولوجي في كل الكائنات الحية)..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.