بين المقاربة التشاركية والقصور التنظيمي إن المتتبع لتطورات علاقة الدولة بمجتمعها عبر مراحل تاريخية يرصد بل شك أنه، بقدر ما كان هذا المجتمع بمكوناته القبلية والحضرية قويا ومتضامنا ومكتفيا ذاتيا طيلة فترات ما قبل الحماية، تم إضعافه ببسط سيطرة الدولة في عهد الحماية على مختلف مكونات مجالها الاجتماعي، من خلال تفكيك كل بنياته التنظيمية والتضامنية، إذ تراجع دور الزوايا التأطيري أو التعليمي أو الاجتماعي، لتحل معها تنظيمات تعليمية وثقافية واجتماعية تخضع لموافقة مؤسسات الدولة وإدارتها الأمنية والتدبيرية. وقد جسد ظهير 1958 هذا الوضع الذي مازال إلى حد الآن سائدا رغم كل التعديلات التي شملته، ورغم كل المرجعيات السياسية والدستورية التي تؤكد على ضرورة الديمقراطية التشاركية الممثلة في تكريس مشاركة منظمات المجتمع المدني. مرجعيات تكريس مشاركة منظمات المجتمع المدني منذ تولي الملك محمد السادس الحكم ظهر أن هناك توجها مغايرا أصبحت تسلكه الدولة سياسيا إزاء منظمات المجتمع المدني، تمثل بالخصوص في مرجعيتين أساسيتين: *المرجعية السياسية (الخطب الملكية): إذ أكد الملك محمد السادس في خطاب توليته الثاني (خطاب العرش يوم 30 يوليوز 2000) على ترسيخ دولة الحق والقانون، وتجديد وعقلنة وتحديث أساليب إدارتها، وإعادة الاعتبار للتضامن الاجتماعي، وتفعيل دور المجتمع المدني؛ في حين أشار في خطاب افتتاح الدورة التشريعية البرلمانية في أكتوبر إلى "ضرورة توعية كل مغربي بأن مصيره يتوقف على العمل الجماعي الذي يمر عبر تأطيره عن طريق الهيئات المؤهلة"؛ وقد واصل هذا التأكيد السياسي من خلال خطاب ألقي بمناسبة انتهاء مهمة هيئة الإنصاف والمصالحة في 6 يناير 2006، مشددا على ترسيخ دعائم المجتمع المدني، ومؤكدا في خطاب العرش بتاريخ 30 يوليوز 2008 على "توطيد المكانة المركزية لمؤسسة الأسرة وتعزيز دينامية المجتمع المدني وفعالياته المسؤولة للنهوض بالتكافل الاجتماعي والمواطنة التضامنية". ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل دعا الملك إلى ضرورة إشراك تنظيمات المجتمع المدني في عملية التسيير المحلي من خلال خطاب العرش ل 30 يوليوز 2009، الذي حث على إشراك الفعاليات الجمعوية في رسم آليات السياسة المحلية. *المرجعية الدستورية كان من تداعيات حراك 20 فبراير 2011 أن تضمن خطاب 9 مارس من السنة نفسها تأكيد العاهل المغربي على إجراء تعديل دستوري شامل يستند إلى سبعة مرتكزات، من بينها مرتكزات المجتمع المدني، ما دفع بالعديد من الهيئات المدنية، حقوقية ونسائية وثقافية وتنموية وتربوية، إلى رفع مذكرات ومقترحات بشأن التنصيص الدستوري على المجتمع المدني. وقد نجحت هذه الجهود في تكريس دور محوري لهذه التنظيمات المدنية ضمن مقتضيات دستور فاتح يوليوز 2011، وتجسد ذلك بالخصوص في مقتضيات الفصل 12 التي نصت على أن "جمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية تؤسس وتمارس أنشطتها بحرية في نطاق احترام الدستور والقانون. ولا يمكن حل هذه الجمعيات والمنظمات أو توقيفها من لدن السلطات العمومية إلا بمقتضى مقرر قضائي. كما أن الجمعيات المهتمة بقضايا الشأن العام والمنظمات غير الحكومية تساهم في إطار الديمقراطية التشاركية في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، وكذا تفعيلها وتقييمها. وعلى هذه المؤسسات والسلطات تنظيم المشاركة طبق شروط وكيفيات يحددها القانون. ويجب أن يكون تنظيم الجمعيات والمنظمات غير الحكومية وتسييرها مطابقا للمبادئ الديمقراطية". معيقات مشاركة منظمات المجتمع المدني يبدو أنه رغم هذا التكريس الدستوري لدور منظمات المجتمع المدني مازالت مقتضيات ظهير 1958 بخلفيته السياسية والأمنية تحد من حرية هذه التنظيمات المدنية وتقيد من حركيتها. ويتمثل ذلك بالخصوص في مظاهر التضييق الإداري القائم على ضرورة عدم التسليم الفوري للوصل المؤقت أو رفض التسليم النهائي أو الإلحاح في طلب وثائق إدارية إضافية، ما يعطل أو يفرمل من دينامية تأسيس وخلق الجمعيات. بالإضافة إلى ذلك فإن هناك غموضا اصطلاحيا ومفاهيميا يكتنف المجال الجمعوي، وتحديد تنظيمات ما يسمى المجتمع المدني؛ فهناك تسميات عديدة تتداول في هذا المجال كمصطلح جمعية، منظمة غير حكومية، جمعيات ذات منفعة عامة، جمعيات مهتمة بقضايا الشأن العام... ما دفع بالباحث عبد الله حمودي إلى الإشارة إلى أن "مفهوم المجتمع المدني يبقى مشحونا ومحاطا بالتباسات عديدة، خاصة في استعمالاته وتبنيه من طرف التنظيمات الحكومية والحزبية والنقابية". وبالإضافة إلى هذه المعيقات، تعترض منظمات المجتمع المدني افتقاد بنى تحتية أساسية تتمثل في إقفال دور الشباب وتهالكها؛ إذ رغم إنشاء ما سميت مراكز القرب فإنها لم تعوض دور الشباب في خلق روح العمل الجمعوي التي كانت سائدة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ومنظمات المجتمع المدني محتاجة لهذه الدور ليس فقط للقيام بأنشطتها وتظاهراتها، بل بالأساس لتكون آلية للتنشئة وخلق الروح الجمعوية التي تشكل اللبنة الأساسية لأي مجتمع مدني بمختلف تنظيماته ومنظماته. كما أن بث روح الريع والارتزاق في صفوف مجتمع هش وغير منظم جعل العديد من مؤسسي وأعضاء الجمعيات يتكالبون على المنح السنوية، وينخرطون في ما يمكن تسميته الريع الجمعوي، ما أفقد العمل الجمعوي الكثير من عنفوانه التنظيمي ودوره التأطيري وسمعته الاجتماعية، وزاد من تشرذم النسيج الجمعوي. التأطير القانوني للعمل الجمعوي من اللافت للنظر أن المجالين النقابي والجمعوي لم يؤطرا إلى حد الآن بمدونتين قانونيتين مستقلتين؛ فرغم إصدار قانون للأحزاب، مازال هناك شذ وجدب حول إصدار مدونة للنقابات وأخرى لمنظمات المجتمع المدني. إذ إن ظهير 1958 أصبح متقادما مع مرور الوقت وتطورات التركيبة الاجتماعية والسياسية بالمغرب؛ فقد أكد إعلان الرباط أن قانون الجمعيات أصبح متجاوزا، ما يقتضي العمل على ملاءمته مع مقتضيات الدستور. وبالتالي تأتي ضرورة الإسراع بإصدار مدونة قانونية جديدة ومستقلة للعمل الجمعوي على غرار قانون الأحزاب وقانون النقابات، يتم فيها رسم مبادئ وأهداف منظمات المجتمع المدني وضمان حرية اشتغالها، من خلال: -رفع الإشراف المزدوج من طرف كل من وزارتي الداخلية والعدل، للاقتصار فقط على مراقبة وزارة العدل، وإلغاء نظام الترخيصين وتعليل الرفض وحق اللجوء إلى الطعن. – ضمان الحق في الترافع وفي المساهمة في الحياة العامة وإعداد السياسات العمومية وتتبعها وتقييمها، وتعزيز التمثيلية بين الجنسين. – توسيع المجال الجمعوي ليشمل كل المكونات، بما فيها جمعيات المغاربة بالخارج. – تكريس شفافية التمويل من خلال وضع معايير واضحة للدعم (الاستحقاق، الانتقاء تحديد الأهداف..). – الرفع من قيمة الدعم المالي ليتلاءم مع حجم الأنشطة والمشاريع وتشجيع الدعم متعدد السنوات. – تنظيم احترافي للعمل الجمعوي (إدارة قوية برؤية واضحة، أطر محترفة ذات خبرة في المجال الاجتماعي، تقنين العمل التطوعي داخل تنظيمات المجتمع المدني). – تسهيل آليات المشاركة (مرونة شروط تقديم العرائض، تسهيل الولوج إلى المعلومة الإدارية والتدبيرية، التمثيلية في المشاركة في اجتماعات السلطات المحلية والمنتخبة، وكذا المجالس الاستشارية، كالمجلس الأعلى للتربية والتكوين والمجلس الاستشاري للشباب...). -فسح المجال أمام اتحادات جمعوية أو تنسيقية تتشابه في الأهداف أو المشاريع التنموية، وذلك على غرار ما ينص عليه الفصل 144 من الدستور الذي (يمكن الجماعات الترابية من تأسيس مجموعات في ما بينها من أجل التعاضد في الوسائل والبرامج). -السعي إلى خلق جمعيات وطنية وجهوية ومحلية قوية.