الركراكي: الفوز على الكونغو يثبت تطور أسود الأطلس ويحفزنا لكأس إفريقيا    كرة القدم: 16 فوزا متتاليا.. رقم قياسي عالمي جديد من توقيع أسود الأطلس    "الأشبال" جاهزون لمواجهة فرنسا    الانتقال الطاقي محور لقاء رئيس الحكومة بوفد من كبار المسؤولين والفاعلين الاقتصاديين بمقاطعة آنهوي الصينية    تصفيات إفريقيا لمونديال 2026: المغرب يهزم الكونغو ويحقق رقماً قياسياً عالمياً ب16 انتصاراً متتالياً    محكمة الاستئناف بأكادير تصدر أحكاماً قاسية تصل إلى 15 سنة في قضايا مرتبطة باحتجاجات "جيل زد"    حمد الله يقود منتخب الرديف لانتصار ودي على الكويت بدبي    توقعات طقس اليوم الأربعاء بالمغرب    العرائش.. وفاة شاب وإصابة آخر بجروح خطيرة في حادثة انزلاق دراجة نارية بطريق الشاطئ بسبب ندا الليل وضعف الإنارة    اتحاد الجمعيات الثقافية والفنية بالصحراء تثمن مضامين الخطاب الملكي بالبرلمان    "ساعة مع مبدع" في ضيافة الشاعر "محمد اللغافي    ماستر كلاس المخرج محمد الشريف الطريبق في مهرجان ليالي السينما    المنصوري: أزيد من 36 ألف شاب دون الأربعين استفادوا من برنامج دعم السكن    نزار بركة: 60% من المغاربة سيشربون من مياه البحر وسنتمكن من إيصال الماء إلى مراكش    أكادير.. تفكيك شبكة تنشط في تنظيم الهجرة غير الشرعية عبر المسالك البحرية    بورصة الدار البيضاء تغلق على تراجع    تراجع مقلق في مخزون السدود بالمغرب إلى 32% بسبب الجفاف والتبخر    32 قتيلا حصيلة حوادث السير بالمدن    "الداخلية" تحيل ملف مزاعم رشوة عامل آسفي السابق على النيابة العامة    النباوي يلتقي رئيس النزاهة العراقية    في نيويورك... أغلبية ساحقة تدعم مغربية الصحراء: الحكم الذاتي يترسخ كخيار واقعي ووحيد لإنهاء النزاع    الرباط تحتضن نقاشا إفريقيا حول "حق التتبع" للفنانين التشكيليين والبصريين    414 مليار درهم قيمة 250 مشروعا صادقت عليها اللجنة الوطنية للاستثمار    الأمم المتحدة تقدر تكلفة إعادة إعمار غزة ب 70 مليار دولار    ممارسة التمارين الرياضية الخفيفة بشكل يومي مفيدة لصحة القلب (دراسة)    شعلة الحي المحمدي تطلق «حوارات شبابية» مع الدكتور كمال هشومي    منير محقق يصدر «تحليل بنيات الحكاية الشعبية المغربية»    رسميا.. تحديد موعد الديربي البيضاوي بين الرجاء والوداد    محاربة الهدر المدرسي هو المدخل لمحاربة ظاهرة الشباب غير المندمجين في التعليم أو العمل (برادة)    سانشيز: المسؤولون عن "الإبادة الجماعية" في غزة يجب أن يحاسبوا قضائيا    "جيتكس غلوبال 2025" .. الذكاء الاصطناعي يحدد خريطة إنتاجية جديدة    دعوات نقابية لاحترام حق الشباب في الاحتجاج وتحذير من تهديد الاحتقان المتنامي للسلم الاجتماعي    منتخب "الأشبال" يواجه فرنسا بطموح بلوغ النهائي والاقتراب من اللقب التاريخي    فتح باب الترشيح للاستفادة من دعم الموسيقى والأغنية والفنون الاستعراضية والكوريغرافية    "أسعار الاستهلاك" ترتفع في المملكة    بلاوي يشيد بمجهودات تمكين المرأة    "الصحة العالمية": الاضطرابات العصبية تتسبب في 11 مليون وفاة سنويا حول العالم    شرطة فاس تستخدم سلاحها الوظيفي لإيقاف جانحين بعد تعرض عناصرها لهجوم بسكاكين    المغرب يتجه لدخول نادي منتجي اليورانيوم في العالم    قادة أربع دول يوقعون وثيقة شاملة بشأن اتفاق إنهاء الحرب في غزة    مهرجان بن جرير يكرم رشيد الوالي ويحتفي بذكرى محمد الشوبي    إسبانيا ‬تتموقع ‬إلى ‬جانب ‬المغرب.. ‬نحو ‬شراكة ‬بحرية ‬جديدة ‬تعيد ‬رسم ‬موازين ‬المتوسط    "فيفا" يكشف التميمة الرسمية لمونديال السيدات لأقل من 17 سنة    الشرقاوي: "جيل زيد" حرّكت المشهد السياسي لكنها تعاني من التضخم الرقمي وغياب القيادة    قصف يقتل 3 فلسطينيين شرق غزة    الذهب يلامس ذروة قياسية جديدة وسط إقبال على الملاذ الآمن    الحكومة الفرنسية الجديدة الهشة تعرض مشروع الميزانية    انفجار يقتل 3 عناصر من الدرك شمال إيطاليا    نحو ألفي قتيل و30 ألف جريح إسرائيلي منذ أكتوبر 2023.. تقرير يرصد امتداد الخسائر إلى خمس جبهات    "جيتكس غلوبال" يبرز مستجدات الحلول الذكية ومستقبل الأصول الرقمية    فوز 3 علماء بجائزة نوبل في الاقتصاد    دراسة يابانية: الشاي الأخضر يقي من مرض الكبد الدهني    المغاربة متوجسون من تداعيات انتشار الأنفلونزا الموسمية خلال فصل الخريف    العِبرة من مِحن خير أمة..    حفظ الله غزة وأهلها    الأوقاف تعلن موضوع خطبة الجمعة    رواد مسجد أنس ابن مالك يستقبلون الامام الجديد، غير متناسين الامام السابق عبد الله المجريسي    الجالية المسلمة بمليلية تكرم الإمام عبد السلام أردوم تقديرا لمسيرته الدعوية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحداثة الشعرية العربية - الجزء الثاني

لا يمكن الحديث عن الحداثة الشعرية العربية في العصر الحديث، ما لم نتحدث عما سبقها ومهد لظهورها وما كنت هي نتيجة له، فالحداثة العربية لم تنزل من السماء، وإنما جاءت حصيلة تغيرات وتحولات عرفها التاريخ والإنسان العربيين، فكان لابد من تجديد وتحديث لمسايرة هذا التطور، كما أن الحداثة الشعرية العربية لم تنشأ دفعة واحدة بل كان عليها أن تمر عبر مراحل قبل أن تتبلور كمصطلح أو كإشكالية، بل وكقضية فرضت ذاتها على كل مبدع ومنظر أدبي.
إن ما سبق الحداثة من حركات فكرية وأدبية شهدتها العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كان الممهد للحداثة .. وأبرز هذه الحركات الاتجاه "الكلاسيكي الجديد" ومن النعوت التي ارتبطت بالكلاسيكية في العشر الحديث كونها جديدة، وبالتالي قد يرى فيها البعض شيئا من الحداثة .. ويحق لنا أن نفسر هذه القضية تفسيرين متكاملين:
أولهما: له صلة وثقى بالمرحلة التي ظهرت فيها الكلاسيكية الجديدة في مقابل الكلاسيكية القديمة، وثانيهما: يتعلق بالمفارقة التي تميزت بها كلاسيكية أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، على مستوى الموضوع والمضامين بتناولها لقضايا معاصرة لها مع حفاظها على الأشكال القديمة، أو حفاظها على الموضوعات القديمة نفسها بغير التعبير عن قضايا جديدة.
من خلال هذين التفسيرين يتضح لنا مدى استمرارية الارتباط بالتراث. ولما كان الشعر القديم هو المثل الأعلى والنموذج الأمثل لشعراء هذه المرحلة، فإنه يمكننا أن نقتبس مختزلين ما ذهب إليه عمر الدسوقي[1]، أثناء تقسيمه للشعراء المقلدين.
1- طائفة لم تكن لهم شخصية بتاتا (تقليد الأعمى) سلكت نفس الطريق الذي سار عليه شعراء الانحطاط.
2- طائفة حاولت ونجحت أحيانا، ولكنها لم تستطع مقامة سيطرة النموذج القديم.
3- طائفة حاولت الخروج من أسر الانحطاط (لكنهم ظلوا يرفلون في حقل التقليد).
4- طائفة حاكت النماذج القديمة الرفيعة فارتفعوا بالشعر إلى درجة عالية (البارودي – شوقي – حافظ...).
فالكلاسيكية إذن لم تخرج عن كونها قلدت السابقين وأعادت كلامهم ولم يكن لها أن تفعل أكثر من ذلك، ولا يحق لنا أن نطالبها بأكثر مما أتت به. يقول البارودي[2]:
تكلمت كالماضين قبلي بما جرت
به عادة الإنسان أن يتكلمها
فلا تعتد مني بالإساءة غافل
فلا بد لابن الايك أن يترنما
لكن كيف يحق لنا أن نقول إن ما عرفته النهضة –ولم تكن غير مقلدة- كان سببا في ظهور حركة الحداثة؟ إن حركة البعث جاءت استجابة لضرورة حتمية عرفتها المرحلة: أي جاءت إجابة عن أسئلة طرحت نفسها بشدة، مثل: لماذا تأخر العرب وتقدم غيرهم؟ كيف نخرج من أزمتنا؟ كيف نتعامل مع التراث؟... وغيرها من الأسئلة التي كثيرا ما لاكتها ألسن السلفيين والكلاسيكيين الجدد وكل رواد عصر النهضة.
وكان الجواب المقنع في نظرهم هو وجوب العودة إلى السلف[3] لحل كل مشاكل هذا العصر، ما دام الماضي كان فيه زمام الأمور بيد العرب، فكثر شعر المعارضات، وإثارة الموضوعات القديمة. وحتى من أثار موضوعا جديدا ألبسه ثوبا قديما، وفي كلتا الحالتين يظل نموذج الشعر القديم حاضرا شكلا أو مضمونا أو هما معا. بل يذهب بنيس إلى أننا "لا نجد ذكرا بتحديث والتجديد في مقدمة دواوين البارودي وشوقي وحافظ[4]. كلام بنيس هذا يشير بوضوح إلى غياب الحضور الفعلي للحداثة والتحديث في الشعر النهضوي، ما دام شعراؤه لم يتجاوزا حدود الأنماط القديمة. إلا أنه يرجع بداية التجديد إلى المدرسة "الرومانسية" مع مطران وجبران إذ أنهما "أوضح في النعت والتجديد، فجبران يلخص مشروعه التحديثي في "الجديد". أما مطران فيقول: "قال بعض المتعنتين الجامدين أن هذا شعر عصري وهموا بالابتسام. فيا هؤلاء نعم هذا شعر عصري وفخره أنه عصري وله على سابق الشعر مزية زمانه".
هنا إذن مع الرومانسية أصبحنا نتحدث عن مصطلحات تلامس الحداثة مثل التجديد والمعاصرة. بل إنه (بنيس) يجعل الرومانسية البداية الأولى للحداثة "تبدأ اللحظة الأولى من الإحساس بهذا التصدع مع الرومانسية، جبران، مطران مدرسة الديوان"[5].
يمكن القول، إذن أن الرومانسية تشكل بحق حلقة وصل بين المشروع النهضوي المؤمن بالعودة الأبدية للموروث الشعري، ومشروع الحداثة التي حاول الانفصال عن التراث والتخلص من براثن التقليد، بإعطاء بديل شعري أنتجته ظروف اجتماعية وتاريخية وثقافية معينة. ومن ثم ظلت الرومانسية تملأ تلك الهوة التي تفصل بين التقليد (البعث) والتجديد (الحداثة)، إذ ظلت محاولاتها خجولة ومحتشمة، لان المجتمع لازال لم يتهيء بعد للتحول والتغير الكلي.
يبقى السؤال المهم طرحه في هذا الإطار هو: ما هي الدوافع إلى التجديد؟ أو ماذا وقع في هذه المرحلة تحتم معه الخروج عن الأنماط القديمة؟ أو بصيغة أخرى لماذا الحداثة؟
إن هذه المرحلة شهدت تحولات عدة على جميع الأصعدة، اجتماعيا، سياسيا، ثقافيا، اقتصاديا، تجلت أساسا في دخول الاستعمار وما شكله من تغير جذري داخل الأوساط العربية، وما نتج عن ذلك من انقسامات سياسية واجتماعية، جعلت العربي يعيش في مأزق ومخاض مستمرين لم يكن لهما مثيل في تاريخه الحضاري، وحتمت عليه القيام برد فعل تمثل في حركات التحرر وما رافقها من محاولات إصلاحية، وفكر تحرري مس كل القطاعات. ينضاف إلى هذا عامل قومي أساسي بل وحاسم، يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية كقضية عربية قومية، وقيام اسرائيل كعنصر دخيل بين البلدان العربية، يحاول إضعاف الشوكة العربية والإنسان العربي، الذي كان ينفجر في شكل حركات تحرر تارة، وفي شكل انقلابات حينا آخر في أكثر من منطقة عربية، وهو بذلك يعبر عن رفضه للعنصر الدخيل وللوضع المعاش، وعن الإحساس بالتصدع الذي فرض نفسه على إنسان تلك المرحلة، إذ من "المستحيل الدخول في العالم الآخر الكامن وراء العالم الذي نثور عليه، دون الهبوط في هاوية الفوضى والتصدع والنفي"[6]. ويتوجب علينا، ونحن نتحدث عما قبل الحداثة، أن نشير إلى الحرب العالمية الثانية وما كان لها من دور أساسي في تشكيل حركة شعرية جديدة ولدت متأثرة بجحيمها. وكانت تعبيرا عن مدى إدراك الجيل الجديد لرفض الموقف الرومانسي من الواقع الاجتماعي المتخلف. يؤكد "كمال خير بك" أن الحداثة الشعرية العربية وليدة فترة الحرب العالمية الثانية وما بعدها، ذلك أنه "عقب الحرب العالمية الثانية، ظهرت حركة ثورية شعرية جديدة شرعت بالإنابة عن نفسها عبر قصائد ومجاميع مختلفة... فبدت هذه الحركة وكأنها شكلت مواصلة والتحاما مع المحاولات المجددة السابقة"[7].
ورغم ما يبدو في الفترة من زخم وغزارة الإنتاج الفكري والأدبي، وتنوع واختلاف القضايا المتداولة، فإنه يمكن اختزال ذلك في إشكالية النهضة أو الخروج من التأخر التاريخي. وتتمحور هذه الإشكالية حول ثلاثة محاور أساسية:
1- نقد الذات.
2- التأكد على ضرورة العودة إلى "السلف" وتكييفه مع الواقع الجديد.
3- الموقف من الخطر الخارجي.
وهي نفس المحاور التي ظلت تثار منذ سقوط بغداد وهي –كما نلاحظ- لا تدعو إلى التغيير، فأصحاب هذه المرحلة شهدوا لحظة احتضار الحضارة العربية، ولم يكن أمام أعينهم مثل يحتذى –خاصة وان الغرب لم يتغلغل بعد بشكل قوي داخل الأوساط العربية- إلا الماضي والسلف. فما كان على رواد عصر النهضة سوى سلك هذا السبيل. ولم يكن التجديد ممكنا، نظرا لما يعيش عليه العالم العربي من أوضاع مزرية وقاهرة أفقدت العربي ثقته في الحاضر، وبالأحرى في المستقبل، ولم يظهر التجديد بصورة واضحة إلا بعد الحرب العالمية الثانية وذلك لأن العربي أصبح أمام جثة ميتة مع تواجد الآخر بكل قواه، فكان طبيعي أن يحذو العربي حذو الغرب الأمثل، أو يبتكر نهجا جديدا، فانعكس ذلك على الأدب. لهذا لم تظهر الحداثة مع النهضة، فمع الرجوع والنكوص إلى الوراء كثرت المعارضات في الشعر وسد باب الاجتهاد في الفقه، وعم التقليد للأشكال والمضامين القديمة، وأمام كل هذا كانت الحداثة آخر ما يمكن التفكير فيه أبان عصر النهضة. وستبدأ الإرهاصات الأولى للتجديد مع الرومانسية، الديوان، أبولو والرابطة القلمية...
يبدو التساؤل عن الحداثة الشعرية العربية تساؤلا عن مضامين وأشكال ومناهج وسمات هذه الحداثة. وهو سؤال واسع يصعب إيجاد جواب جامع مانع يشفي غليل السائل، ويطمئن روحه، ويثلج صدره "لا أزعم أن الجواب عن هذا السؤال أمر سهل فالحداثة في المجتمع العربي إشكالية معقدة... بل يبدو لي أن الحداثة هي إشكاليته الرئيسية"[8].
وسؤال الحداثة سؤال عام يحوي كل الأسئلة التي تطرح حول التجديد والتحديث والمعاصرة، بل هو "رحم الأسئلة" حسب تعبير بنيس، إذ فيه تتلاحم وتتداخل سمات الحداثة وتاريخها. ونحن حين نطرح مشكلية الحداثة تتسابق إلينا التعريفات والأجوبة المختلفة باختلاف أصحابها، ويصبح سؤال الحداثة سؤالا حضاريا فنظل مع كل إحساس بالتصدع، نسأل بسؤال الحداثة ونجيب بجوابها، وسرعان ما نجد أنفسنا وحدنا في الساحة دون سؤال أو جواب وتضيع السمات وتفتقد الذات المتسائلة موضوع السؤال[9].
ومن هنا تصبح الحداثة مختبرا للأسئلة والأجوبة، بل أصبحت (إشكالية الحداثة الشعرية العربية) تسيج كل ظاهرة إبداعية أو تنظيرية تموضع نفسها ضمن التجديد، بل حتى أصبح مصطلح الحداثة الشعرية العربية، مصطلحا فضفاضا بلا ضفاف نظرا لكثرة استهلاكه وتمطيطه إلى حدود سريالية يصعب على العقل تحديد تخومها المعقولة.
هكذا أصبحت الحداثة الشعرية العربية "مظلة" يستظل بها، وشعارا يرفعه، كل من رغب في الإبداع على الطريقة الغير القديمة. ويصبح باسم الحداثة زائغا عن الحداثة نفسها، التي كادت أن تصبح "علاقة" نعلق عليها كل النتاجات الشعرية الخارجة عن النمط القديم، حتى وإن كانت على مستوى جد رديء من الناحية الفنية. وأصبح كل مبدع يمارس عاداته وطقوسه، ويطبق معتقداته، ويحل رموز طلاسمه في محراب الحداثة، مما ينتج عنه غربة الشاعر العربي عن واقعه، أو بعبارة أخرى ينفصل الشعري عن الواقعي باسم الحداثة. وبالتالي تفرغ الممارسة من وظيفتها الخطيرة في محيطها، فيحصل بذلك أن يتخلف ما هو شعري عن ترجمة ما هو واقعي. مما جعل الحداثة الشعرية العربية مجالا اختلط فيه الجيد بالرديء، والحسن بالقبيح، والعين الناذر بالرذل الساقط، فأثار ذلك ثائرة كثير من النقاد الذين رفضوا هذا الشعر الفتي، بل إن المبدعين أنفسهم أضحوا يتبرؤون من هذا "التدجيل" يقول محمود درويش: "إن ما نقرؤه منذ سنين بتدفقه الكمي المنهور ليس شعرا إلى حد يجعل واحدا مثلي متورطا في الشعر منذ ربع قرن مضطرا لإعلان ضيقه بالشعر وأكثر من ذلك يمقته يزدريه فلا يفهمه. أن العقاب الذي نتعرض له يوميا من جراء اللعب الطائش بالشعر يدفعنا أحيانا إلى قبول التهمة الموجهة للشعر العربي الحديث. لكن هل يكفي أن يتبرأ كل شاعر بطريقته الخاصة لينجو من الاتهام العام؟...
... إذ كيف يتسنى لهذا اللعب العدمي أن يوصل إلى إعادة النظر والتشكيك بحركة الشعر العربي الحديث ويعبر بها عن وجدان الناس إلى درجة تحولت فيها إلى سخرية؟ إن تجريدية هذا الشعر قد اتسعت بشكل فضفاض حتى سادت ظاهرة ما ليس شعرا على الشعر واستولت الطفيليات على الجوهر، لتعطي الظاهرة الشعرية الحديثة سمات اللعب والركاكة والغموض وقتل الأحلام والتشابه الذي يشوش رؤية القارئ بين ما هو شعر وما ليس شعرا"[10].
إن هذا الاستشهاد، وإن كان طويلا، فإنه يعكس ما نحن بصدده، وما لحق الحداثة من تمطيط لتشمل ما ليس شعرا.
ورغم كل الاختلافات والتناقضات والأسئلة، فإنه لا يختلف اثنان حول فحوى الحداثة، وحول الدور الذي لعبته في تطوير القصيدة العربية، وانتشالها من براثن التقليد والجمود. وان الحداثة الشعرية العربية ثورة حقيقية وخروج واضح عن هيمنة النصوص القديمة، وتحطيم لقدسيتها. إنها "رؤيا جديدة وهي جوهريا رؤيا تساؤل واحتجاج، تساؤل حول الممكن واحتجاج على السائد" وهنا نرى أن أدونيس يقرر بأن الحداثة تمثل "تساؤلا حادا يفجر أفاق اللغة الشعرية ويفتح دروبا وآفاقا تجريبية جديدة في فضاء الممارسة الإبداعية"[11].
وتبقى الحداثة الشعرية العربية محاولة تجاوز للماضي الشعري، إلا أنه لم يكن تجاوزا مطلقا بقدر ما كان محاولة تخط لأشكاله ومواقفه ومفهوماته وقيمه التي كانت نتيجة الأوضاع الثقافية والإنسانية الماضية، والتي لم تعد صالحة في هذا الوقت وبالتالي يتوجب اليوم زوالها لاختلاف الظروف والأوضاع العامة الراهنة عن السابقة. وهكذا تشترط الحداثة الشعرية العربية أن يظل المبدع دائما في حركة واستمرارية تدفعه لتجاوز الآخرين بل لتجاوز ذاته.
إن الحداثة الشعرية العربية إذن تشكل موقفا من التراث، إلا أنه ليس موقفا عدائيا ولا موقف مهادنة، غذ أن المهم هو أن "الموقف" من التراث لا يمكن أن يكون موقف قبول أو رفض إذ ليس لدى الإنسان من خيار في قبول تراثه أو رفضه. إن ما يجب تغييره هو فهمنا لهذا التراث، والمنظور الذي من خلاله نتطلع إليه ونمارس حكمنا عليه كما يرى ادونيس[12].
إنها تمثل موقفا من التراث مادام الشعر القديم كان يمثل نظرة أفقية، وأن العلاقة التي تجمع الإنسان بعالمه في الشعر القديم، لم تخرج عن كونها جوهرية. أما مع حركة الحداثة فقد أصبح الشعر مغامرة إنسانية، هدفها الأسمى البحث عن حقيقة خاصة، وتكسير الآفاق المغلقة لمثل هذا العالم (التراث) سعيا وراء الانفتاح على عالم أوسع. إن حركة الحداثة قد بدأت منذ نازك الملائكة تقرع أبواب هذا العالم الكبير الغني، ذلك أنه ابتداء يكون فعل خلاص وتحرر. إنه يحاول جهد المستطاع الابتعاد عن مستنقعات التقليدية التي هي معادلة للبؤس والجهل واللا عدالة[13]. لعل هذا ما جعل يوسف الخال يركز على "محدودية التراث العربي"، وبالتالي يدعو إلى وحدة التراث الإنساني، الشيء الذي يتوجب معه ضرورة خلق وإبداع نمط شعري جديد يتماشى مع روح العصر. لأنه ونحن نسير على الأنماط القديمة، سنكون مضطرين إلى "معاناة قضايا مجتمع قديم في عالم حديث ومعاناة قضايا مجتمع حديث في عالم قديم"[14].
والحداثة الشعرية العربية كثيرا ما تشحن بتضمينات وتحمل دلالات متعددة، مما يجعلها مقولة متلابسة. ومن تم تبقى مقولة تصورية، وأن النواة الدلالية المحددة لها تكمن أساسا في مبدأ النسبية[15] باعتبارها تمثل لب ماهية الحداثة. على هذا الأساس فإن شعر الحداثة يخلق حقلا متميزا لخلخلة اللغة والمضامين والأشكال المعهودة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.