منذ فترة تناولت سلسلة من المقالات المتخصصة، بمناسبة توقيع اتفاقية بين المغرب و الصين لتمويل مشاريع في المغرب في إطار مبادرة الحزام و الطريق، و أشرت فيها إلى أن الرهان على الصين و على القوى الدولية لتحقيق التنمية أو الاستقرار رهان خاطئ ، و يذكر قراء جريدة رأي اليوم اللندنية إني قلت سابقا "لا تلوموا ترامب فإنه يمارس السياسية بدون نفاق.."، و الواقع أني لا أدافع عن الرجل فقد رحل إلى مزبلة التاريخ، فأنا ضد سياساته على طول الخط، وخاصة قراره المشؤوم بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، لكن علينا الإقرار بأن قراراته كان وسيكون لها أثر كبير في مستقبل الأمة، فعلى سبيل المثال إذا نظرنا بعمق للأثار التي أعقبت قراره المتصل بالقدس ، سنلاحظ أنه قدم للشعب الفلسطيني أكبر خدمة، فقد تم إحياء القضية الفلسطينية، بعدما بدأت تختفي على الساحة الدولية، وتم إخراجها من دوامة وفخ المفاوضات العبثية من الكيان الصهيوني، فبفضل قرارات هذا الرجل تم إقبار مسلسل أوسلوا عمليا، و الذي لم تستطع قيادة سلطة رام الله أن تعلن انسحابها منه منذ زمن خوفا من الراعي الأمريكي، لكن جاء قرار ترامب وغير المعادلة و أحدث تغييرا في تكتيك المواجهة، فظهرت مسيرات العودة المباركة، و معركة سيف الأقصى وملحمة حي الشيخ جراح والتي تعد من دون شك البداية السليمة في مسار تحرير كامل فلسطين إن شاء الله… وبنفس الأسلوب قدم الرجل للأمة العربية والإسلامية خدمة جليلة، فقد مكنها من معرفة و كشف نفاق حكام و حكومات عربية وإسلامية، طالما تاجرت بقضايا الأمة العربية والإسلامية، وأمنت الكثير من الشعوب بحسن نواياها وصدقها وغيرتها على الحق والكرامة العربية والإسلامية، لكن انكشف المستور، وظهر بداخل الأمة حزب الله كما ظهر حزب الشيطان، وبرز أهل الحق وإِصْطَفَ أهل الباطل ، فمن كان يظن أن المملكة السعودية ستضع يدها في يد الصهاينة، وتتواطؤ مع أعداء الأمة، و من منا كان يعتقد أن الشعوب العربية سيسفك دمها بمال خليجي، لا لشيء سوى أنها عبرت عن رغبتها في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.. جاء "ترامب" و كشف خداعهم و نفاقهم ، وأزاح الأقنعة عنهم و إنكشفوا أمام شعوبهم، ومانراه من موجة حراك على وسائل التواصل الإجتماعي -على الأقل بفعل سطوة الأجهزة القمعية-، مؤشر على هذا الإنكشاف وتعبير الشعوب عن رفضها وفقدان الثقة بحكامها … كما أن هذا الرجل قَدَم لشعوب العالم فرصة للخروج من هيمنة النظام المالي و الإقتصادي العالمي، و إنتصر لمناهضي العولمة والتجارة الحرة، الذين طالما رفعوا شعارات مناهضة لمنظمة التجارة والبنك الدولي وصندوق النقد، في كل مناسبة إجتماع دولي في دافوس أو نيويورك.. فهذه المنظمات الدولية أسست لمنظومة مالية وإقتصادية مُتوحِشة، أفقرت فئات واسعة من شعوب الأرض و أسست لمجتع 20/80 و أحيانا مجتمع 5/95، فالنظام الرأسمالي وفق الأسلوب المتبع يوسع من حدة التفاوت الإجتماعي والطبقي بداخل المجتمع الواحد و بين بلدان الجنوب و الشمال، فالبلاد الغنية تستنزف ثروات البلدان الفقيرة، و بداخل البلد الواحد تشكلت أوليغارشية حاكمة متحكمة في المناصب و المكاسب.. وتبعا لذلك، أصبحت مكاسب النمو الإقتصادي تصب في حساب أوليغارشية دولية و محلية، بينما قطاعات واسعة من الشعب معرضة للفقر والتهميش، وذلك عبر تبني أرثوذكسية تنموية تتبناها المؤسسات السالف ذكرها، و عبر فلسفة حرية التجارة و سياسات الإنفتاح من غير قيود، والتي تدعمها و تروج لها منظمة التجارة العالمي دولي … فقرارات ترامب برفع الرسوم الجمركية على صادرات الصين، و محاولات إدارة بايدن محاصرة الصين و روسيا و باقي البلدان الصناعية الصاعدة، ينبغي التعامل معها بإيجابية وبحذر أيضا، فما يحدث الآن شبيه بصراع بين الفيلة الأقوياء، لكن حتى لا يكون عالمنا العربي و الإسلامي العشب الذي سيدفع ثمن هذا العراك، ينبغي تبني سلسلة من الإجراءات و التذابير لحماية بلداننا و مصالحنا و ثرواتنا من الأزمة العالمية التي تدق على الأبواب… وإذا كانت الصينوروسيا تحاولان تقوية تحالفاتهما في إطار التكتلات الإقليمية شانغهاي و BRICS، و تَعُد العِدَة للسيناريو القائم، وتحاول تأمين بلدانها و إقتصادياتها من الأزمة الإقتصادية القادمة لامحالة، و هذا التوجه بدأ بعد الأزمة المالية 2008، لكن وثيرة التدابير الوقائية تسارعت مع صعود ترامب، خاصة وأن إتجاهه نحو رفع الرسوم الجمركية في تعارض تام مع مبادئ التجارة الحرة، جعل مصالح البلدان الصناعية الصاعدة تتشابك في مواجهة التهديد الأمريكي… وبنظرنا فإن الشعوب العربية لا ينبغي أن تتهيأ لأزمة عالمية قادمة و نهب ثرواتها من قبل حكامها لحماية السادة الغربيين، فمن دون شك أن أغلب بلداننا تعيش أزمات دائمة ومستمرة بفعل أنظمة سياسية فاسدة تأكل الأخضر و اليابس، لكن حتى لا تكون بلداننا كالعشب تحت أقدام الفيلة، أصبح من الضروري البحث عن بدائل لمواجهة التحولات المدمرة في القادم من السنوات ، فالنظام الدولي لاسيما في جانبه الإقتصادي و المالي مقبل على تحولات عميقة، و تدابير دولية وأقليمية ذات منحى حمائي وانعزالي إلى حد ما مع الابتعاد عن منظمة التجارة العالمية و التوجه نحو التوسع في التكتلات الإقليمية وفق ما يعرف "بمبدأ الدولة الأكثر رعاية" و "مبدأ المعاملة بالمثل" فالإمتيازات لن تعود تمنح للدول جزافا كما هو معمول به بداخل منظمة التجارة العالمية ، و إنما عبر اتفاقات وتكتلات إقليمية و هو ما يعني التخلي عن منظمة التجارة العالمية ، خاصة إذا فشلت هذه الأخيرة في إيجاد تسوية للخلافات التجارية حول الرسوم بين الولاياتالمتحدة من جهة والصين و الاتحاد الأروبي و تركيا من جهة أخرى. وإذا كانت الصين و روسيا تسعى لتقوية تحالف الشرق في مواجهة تحالف الغرب الذي تقوده أمريكا، فإن البلدان العربية والإسلامية مطالبة بدورها بدعم التبادلات التجارية البينية و رفع القيود على حركة السلع و رؤوس الأموال و الأشخاص بين بلدان العالم العربي والإسلامي و السعي نحو الإتفاق على عملة موحدة ولما لا الدينار الإسلامي، خاصة وأن هذه البلدان لها مقومات إقتصادية و جغرافية وبشرية جد مهمة، تجعل من العملة الموحدة ذات غطاء موثوق به، نظرا لتوفر هذا الفضاء على مخزون هائل من الموارد الطاقية والمعدنية ..وهو ما يجعلها تتوفر على إقتصاد حقيقي بعيد عن إقتصاد الفقاعات.. لكن للأسف في ظل الظروف الراهنة، و سيادة الحكم الإستبدادي في أغلب هذه البلدان، و تغليب المصالح المحلية ضيقة الأفق، فإن صعود أمريكا أو هبوطها، و تغير التوازنات الدولية لن يصب إلا في مزيد من تفقير شعوب المنطقة، والدليل أن السعودية المعروفة بثراءها وثرواتها القارونية والتي مصدرها باطن الأرض و مداخيل الحرمين الشريفين، أصبحت تلجأ للإقتراض من السوق الدولية… فالتحدي الذي أمام الأمة العربية و الإسلامية، هو تحقيق إستقلالها الحقيقي عبر تحرير الإرادة الوطنية من قبضة الأنظمة الإستبدادية، التي لا تعبر عن إرادة الناس، ووضعها في يد أنظمة منتخبة بصورة ديموقراطية و نزيهة ، بدلا من أنظمة فاسدة تخدم مصالحها و مصالح من يحميها، و أيضا تحرير ثروات البلاد من الهيمنة الأجنبية عبر مزيد من الرقابة الشعبية على الثروات المحلية إنفاقا و تحصيلا، وذلك بنظرنا ممكن عبر المقاومة المدنية و العصيان المدني والإحتجاج السلمي، وما يحدث في جنوبالعراق درس في المقاومة الشعبية السلمية، و الذي ينبغي تعميمه على مختلف أرجاء الوطن العربي المصاب بعلل الفساد والإستبداد…و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون… إعلامي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة..