أعلنت دار النشر نكور عن صدور كتاب جديد للدكتور محمد أونيا تحت عنوان: إبقوين وقضية "القرصنة البحرية" بين الحقيقة والافتراء، دراسة سوسيو- تاريخية حول القبيلة والمخزن والتدخل الأوروبي في ريف ما قبل الحماية. الكتاب في أصله أطروحة جامعية تقدم بها المؤلف لنيل شهادة الدكتوراه بفرنسا سنة 1994. الكتاب يقع في 618 صفحة من الحجم المتوسط، ويتضمن بالإضافة إلى أبوابه الثلاثة، ملحقا لوثائق منتقاة بعناية، وفهارس للخرائط والرسوم والصور النادرة. في التصدير الذي خص به هذا الكتاب، استعرض المؤلف الأسباب التي دفعته لاختيار قبيلة بقوية كموضوع لهذا البحث والتي لخصها في خلخلة الأساطير المؤسسة لقضية "القرصنة" الريفية عموما والبقيوية على وجه الخصوص، وكذا تصحيح الصورة المغرضة التي سوقتها آنذاك، الدعاية الأوروبية لخدمة "المؤامرة" الإمبريالية في الواجهة المتوسطية المغربية عموما و سواحل قبيلة بقيوة تحديدا. مبرزا أهم الإشكالات المرتبطة بهذا الموضوع والتي حاول الإجابة عنها مستثمرا جملة من الوثائق والمصادر المحلية والمخزنية والأجنبية. كما وضح طبيعة المنهجية المعتمدة في هذه الدراسة المونوغرافية، وكذا مختلف المصادر والدراسات ذات الصلة بالموضوع. في الباب الأول، تطرقت الدراسة للمجال والانسان والمجتمع، بدءا من تتبع جذور أصل تسمية "إبقوين" الضاربة في عمق التاريخ ومقاربة دلالتها لغة واصطلاحا، وتقديم نبذة عن خصائص المجال البقيوي طبيعيا وبشريا، وانتهاء برصد البنية الاقتصادية الفلاحية وعلاقات الإنتاج في هذا المجتمع الأمازيغي العريق المتسم بغلبة الملكية العائلية والفردية للأرض التي تعكس مدى ارتباط الفرد البقيوي بأرضه كمصدر للعيش والانتماء والهوية، مستنتجا أن تفتت الملكية العقارية ومختلف أشكال الحيازة والتفويت في هذه البيئة الجبلية الفقيرة أصلا، أعاقت النزوع الفردي للسلطة. كما أظهرت هذه الدراسة كيف حافظت هذه القبيلة الصغيرة التي انقسمت انتربولوجيا، إلى لفين متعارضين، على توازنها الداخلي بسبب ما كان يسود تلك الوحدات الداخلية والمجموعات البنيوية من التضاد على مستوى أدنى، والتحالف في مستوى أعلى. وبغية استجلاء مختلف مظاهر ونظم المجتمع البقيوي المدروس، قدم الباحث مسحا شاملا لطبيعة الأجهزة القبلية السياسية والاجتماعية وتجلياتها الثقافية وطقوسها الدورية والاحتفالية وتنظيماتها الشرعية والعرفية وبالأخص مقاربة الدلالة السياسية لظاهرة الولاية والصلاح التي تنفرد بها هذه القبيلة أكثر من غيرها من القبائل الريفية الأخرى. الباب الثاني، خصصه الكاتب لرصد علاقة قبيلة بقيوة / إبقوين بالسلطة المركزية المخزنية، ولفهم تلك العلاقة كان لزاما وضع تلك العلاقة في إطارها العام، أي السياق التاريخي لعلاقة الريف بالمخزن فاستنتج أنه على عكس الصورة التقليدية المترسخة في الأذهان، فإن تلك العلاقة اتسمت بالاتصال تارة والانفصال تارة أخرى، ف»الثغر الريفي «كان-في العصر الحديث- متروكا لحاله دون مطالبته بأداء الضرائب المخزنية مقابل قيامه بالذود عن الواجهة المتوسطية المغربية بالريف، لكنه انتفض عندما استبدل المركز المخزني تلك السياسة التخفيفية بسياسة احتوائية متشددة مما دفع بالسلطان (الحسن الأول) إلى جرد عدة حملات وحرْكات عسكرية ضد القبائل الريفية كان لقبيلة بقوية النصيب الأكبر منها ، لكون البحر ومشاكل «الفلائك» البقيوية شكلت قضية إضافية بل محورية في تلك العلاقة. وعكس مقولة "السيبة" التي عادة ما يتم إسقاطها على ماضي الريف كله، قدم الباحث أطروحة جديدة ترى أن الريف مر عبر علاقته بالمركز المخزني، بثلاث مراحل متباينة وهي: مرحلة «قبائل الثغور» المتروكة لحالها، ومرحلة «لجور» أو التسيب السياسي، ثم مرحلة «الشغور» أو التسيب الأنتربولوجي / الريفوبليك) التي امتدت إلى غاية ظهور الزعيم الخطابي سنة 1921. في الباب الثالث، قدم الكاتب قراءة تركيبية لما سمي بقضية "القرصنة الريفية" حيث أكد على ارتباط هذه الظاهرة بحركة الملاحة البحرية ولاسيما تهريب الأسلحة والذخيرة التي تورط فيها إسبان حصني بادس والنكور الذين نسجوا علاقات تجارية مكثفة مع مخالطيهم من أعيان الساحل البقيوي المجاور، ساعدهم على ذلك فشل السياسة البحرية المخزنية في الثغر الريفي. حيث وضحت هذه الدراسة كيف تحولت المياه المتوسطية المغربية النائية إلى وجهة مفضلة للمغامرين والمهربين الأجانب مما أوقع رياس البحار وأعيان رُبع إزمورن بالخصوص، في شرك صفقات تجارية محظورة مع تجار الساحل الأندلسي وبالأخص من مدينة مالقا، بيد أن تلك الصفقات التهريبية كانت تنتهي أحيانا بسوء التفاهم بسبب الغش والنصب والاحتيال الذي كان يلجأ إليه المهربون الإسبان، وعندما حاول كبار المهربين البقيويين استرداد حقوقهم والاقتصاص من خصومهم عن طريق اعتراض السفن الأجنبية التي تقترب من ساحلهم، رمتهم الدول الأوربية بتهمة الاعتداء ب"القرصنة" على مراكبها ونهب حمولاتها وأسر بحارتها ، وهكذا تحولت أزمة الرهائن الأجانب المحجوزين لدى بقيوة إلى ملف ساخن بسببه أقامت الدول الأوروبية المعنية، الدنيا وأقعدتها جراء امتناع البقيويين عن تسريحهم ما لم يتم إطلاق سراح إخوانهم سواء الذين أسرهم المخزن بطنجة أو الذين اعتقلتهم السلطات الإسبانية بحجرة النكور. لكن رغم تسوية أزمة الأجانب المحجوزين لدى إبقوين سنة 1897م وامتثال هؤلاء للأوامر السلطانية بعد طول شد وجذب، فقد قرر المخزن، مع ذلك، القيام بعقاب جماعي لهذه القبيلة الصغيرة برمتها لإظهار هيبة المخزن وسيادته على هذه المنطقة أمام الرأي العام الدبلوماسي الأجنبي سيما بعدما اتضح أن أيادٍ فرنسية هي التي كانت تحرض من وراء الستار، على تعنت البقيويين وتخطط لفرض حمايتها وتبعيتها عليهم. في هذا السياق سيقوم المخزن في عهد السلطان عبد العزيز بتجهيز حملة عسكرية قوية ضد قبيلة بقيوة سنة 1898 أسندها لأحد قواده الأكثر رعبا وفتكا القائد محمد ابن بوشتى البغدادي، الذي قبل أن يقوم بإحراق القبيلة ويشرد ساكنتها، عمد إلى الإيقاع بوفد من أعيانها بعدما تمكن من استدراجهم بطريقة "ميكيافيلية" إلى معسكره بأجدير بني ورياغل تحت مبرر تقديم الغرامة والولاء للسلطان مقابل العفو عنهم، فأعمل السيف في كل من حاول الفرار منهم، ومن نجا من تلك المذبحة الرهيبة تم نقلهم مصفدين بالسلاسل والأغلال إلى سجون الجديدة والصويرة ومراكش. بيد أن كرونولوجيا تلك الحرْكة الساحقة التي هزت وجدان الساكنة المحلية، والطرق التي سلكتها، وحجم قواتها المعبأة، وكذا عواقبها فضلا عن كيفية فرار "الجناة" الحقيقيين بعائلاتهم إلى الجزائر، ظلت غامضة ومتضاربة، لذا عمد الباحث إلى تسليط مزيد من الأضواء الكاشفة عليها واستجلاء خباياها وذلك استنادا إلى جملة من الوثائق الجديدة والمصادر والصحف الأجنبية فضلا عن الرواية الشفوية. كما استنتج الكاتب أن تلك الحملة التي أتت على اليابس والأخضر، وإن نجحت تكتيكيا، في إبعاد التدخل الفرنسي في إبقوين، فإنها فشلت على المستوى الاستراتيجي، في وضع حد لحركة التهريب في السواحل الريفية وإبعاد الخطر الإسباني عن تلك الناحية، وهو ما يطرح عدة علامات استفهام عن الغاية من تلك الحملة التي أساءت كثيرا إلى سمعة المخزن لدى الريفيين سيما بعدما حلل ما كان يحرمه على البقيويين إذ رضخ في نهاية المطاف، للمطلب الإسباني القاضي برفع الحصار التجاري عن الجيوب المحتلة كبادس والنكور ابتداء من سنة 1900، ليدخل الريف بعد ذلك، في مرحلة مظلمة اصطلح عليها محليا، بعهد "الريفوبليك" (الفوضى القبلية) التي استمرت إلى حين ظهور الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي سنة 1921.