كشف التقرير السنوي حول الصحة وتغير المناخ 2025 لمجلة "ذا لانسيت" العلمية، عن صورة قاتمة لتأثيرات الاحترار العالمي على صحة البشر واقتصاداتهم، ويضع المغرب ضمن أكثر المناطق الإفريقية عرضة للحرارة والجفاف والغبار الصحراوي، في ظل فجوة متنامية بين القدرات المحلية على التكيّف وحجم التحولات المناخية الجارية. التقرير الصادر عن كلية لندن الجامعية، و الذي شارك في إعداده أكثر من 120 خبيرا من مؤسسات أكاديمية عالمية، يرى أن مؤشرات الخطر المناخي في المغرب وشمال إفريقيا تسجّل مستويات غير مسبوقة، تمسّ مجالات العمل، والزراعة، والصحة العامة، وجودة الهواء، والنظم البيئية الحضرية.
فقدان 45 يوما من العمل سنويا وأظهرت بيانات التقرير أنّ المغرب، خلال الفترة الممتدة بين 2020 و2024، تعرّض لارتفاع حاد في عدد الأيام المصنّفة كموجات حر مقارنة بالمتوسط التاريخي للفترة المرجعية 1986–2005. ويرى الخبراء أن هذه الزيادة ليست تفصيلا مناخيا عابرا، بل نتيجة مباشرة للأنشطة البشرية التي رفعت تركيز الغازات الدفيئة إلى مستويات قياسية في الجو. ووفقا للخرائط الواردة في المؤشر المتعلق بتغيّر القدرة على العمل بفعل الحرارة، فإن البلدان ذات مؤشر التنمية البشرية المتوسط، ومنها المغرب، فقدت في سنة 2024 ما معدّله 358 ساعة عمل محتملة لكل عامل بسبب التعرض الحراري، أي ما يعادل 45 يوما من العمل في المتوسط السنوي. وبالنسبة لبلد يعتمد اقتصاده القروي على العمل اليدوي في الزراعة والبناء والأنشطة الميدانية، فإن هذا التراجع يمثّل خسارة اقتصادية وصحية في آن واحد، إذ يتسبب في إرهاق حراري حاد، وانخفاض الإنتاجية، وتزايد الإصابات المرتبطة بالإجهاد والضربات الحرارية في مواسم الصيف الممتدة. الحرارة المرتفعة التي باتت سمة دائمة في المغرب، خصوصا في المناطق الداخلية والجنوبية، أدت إلى اختلال واضح في النظام الهيدرولوجي، انعكس في ازدياد الأشهر الجافة وتقلص الفترات المطيرة. ففي المؤشر الخاص بالجفاف، تُظهر المقارنة بين عقد الخمسينيات وسنة 2024 أن عدد الأشهر المصنّفة كجفاف شديد ارتفع في بعض مناطق الأطلس الكبير والمتوسط والشرقي من شهرين فقط إلى ما بين خمسة وسبعة أشهر سنويا. حيث تضع هذه الزيادة المغرب ضمن الحزام شبه الجاف الأكثر تأثرا على الصعيد الإفريقي، وهو ما يعني أن جزءا كبيرا من الأراضي الزراعية التقليدية بات يعيش تحت ضغط نقص المياه، وتراجع مخزون السدود، وتدهور خصوبة التربة، مع ما يترتب عن ذلك من تهديد مباشر للأمن الغذائي والصحة التغذوية للسكان. الجزر الحرارية تمتد في المغرب وليس الجفاف وحده ما يؤرق المشهد المناخي، إذ بيّن التقرير أن التعرّض لغبار الصحراء أصبح مكوّنا ثابتا في الحياة اليومية لسكان المغرب وشمال إفريقيا. فوفقا للتقرير تقع المنطقة ضمن أكثر المناطق تعرضا لغبار الصحراء في العالم بمعدل يتراوح بين 98 و105 يوما سنويا في الفترة 2019–2023، وهي فترة تشهد زيادة في عدد الأيام التي يتجاوز فيها تركيز الجسيمات الدقيقة 45 ميكروغراما في المتر المكعب الواحد، أي أعلى من الحد الأقصى الذي توصي به منظمة الصحة العالمية. وتكشف الخرائط أن المغرب، بحكم موقعه الجغرافي على الحافة الشمالية للصحراء الكبرى وتكوينه الجيولوجي المفتوح على الرياح الجنوبية، يتأثر بكتل غبارية كثيفة تتسبب في أمراض تنفسية مزمنة، وتدهور جودة الهواء، وارتفاع معدلات الوفيات المرتبطة بالجهاز التنفسي، خاصة في فصلي الربيع والصيف. أورد التقرير الوفيات المنسوبة إلى التلوث بالجسيمات الدقيقة الناتجة عن الأنشطة البشرية بلغت عالميا 6.5 ملايين وفاة في سنة 2022 في العالم، بمعدل 33 وفاة لكل 100 ألف شخص في الدول منخفضة التنمية. وبالنسبة إلى البلدان متوسطة التنمية، ومن ضمنها المغرب، يتراوح المعدل بين 40 و45 وفاة لكل 100 ألف نسمة، معظمها ناتجة عن احتراق الوقود الأحفوري في النقل والزراعة والقطاع المنزلي. وتشير البيانات إلى أن 52 بالمائة من الانبعاثات في هذه الفئة من البلدان مصدرها احتراق الكتلة الحيوية والديزل والفحم في المنازل والمزارع، ما يعني أن المناطق القروية المغربية التي لا تزال تعتمد على الفحم والحطب في الطهي والتدفئة تمثل بؤرا لانبعاث الملوثات المنزلية التي تؤثر مباشرة في النساء والأطفال. وأبرز التقرير أن 64 بالمائة من الطاقة المنزلية في البلدان متوسطة التنمية سنة 2022 كانت تأتي من الكتلة الحيوية الصلبة، وأن هذا الاعتماد المتواصل على مصادر ملوثة للطاقة الداخلية يعزز انبعاثات الكربون الدقيقة ويعمّق الفوارق الصحية والاجتماعية. وفي حالة المغرب، الذي يتوزع سكانه بين مناطق حضرية حديثة وقرى تعتمد في جزء كبير من حاجاتها اليومية على وسائل تقليدية، يشكل هذا المؤشر إنذارا صحيا بقدر ما هو بيئي، إذ يربط مباشرة بين الفقر الطاقي وبين تلوث الهواء المنزلي والأمراض التنفسية المزمنة. وعلى المستوى الاقتصادي، تكشف البيانات أن الخسائر العالمية الناتجة عن انخفاض القدرة على العمل بسبب الحرارة بلغت سنة 2024 ما يعادل 1.09 تريليون دولار، أي نحو 0.97 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. أما في البلدان المتوسطة التنمية، فقد وصلت النسبة إلى 4.3 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، ما يعكس هشاشة الاقتصادات التي تعتمد على اليد العاملة في القطاعات المفتوحة كالزراعة والبناء. وفي هذه البلدان، يشير التقرير إلى أن 64 بالمائة من الخسائر الحرارية تقع في القطاع الزراعي، وهو ما يجعل مناخ المغرب المتحوّل تهديدا مباشرا لمصدر رزق مئات الآلاف من العمال الزراعيين. كما تبرز الخرائط المتعلقة بالمساحات الخضراء الحضرية أن مدن شمال إفريقيا، بما فيها الرباط والدار البيضاء ومراكش، تقع ضمن الفئة الدنيا عالميا من حيث نصيب الفرد من المساحات الخضراء داخل المدن.حيث يزيد هذا النقص في الغطاء النباتي الحضري من ظاهرة "الجزر الحرارية" في المناطق الحضرية، حيث تتراكم الحرارة في البنى الإسمنتية وتؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة داخل المدن بما يزيد عن المناطق المحيطة بعدة درجات. ومع أن المغرب قام بعدة مبادرات لتوسيع الغطاء النباتي الحضري، إلا أن التقرير يضعه ضمن المنطقة التي لم تشهد بعد تحسنا ملحوظا في هذا المجال، خصوصا في ظل ضعف وسائل التبريد المنزلي؛ إذ لا يتجاوز معدل الأسر التي تمتلك أجهزة تكييف في شمال إفريقيا 10 بالمائة، ما يعني أن غالبية سكان المدن الكبرى يواجهون موجات الحرّ دون وسائل تبريد كافية. فجوة تمويلية ومشاريع محدودة الأثر وفيما يخصّ التأقلم مع التغير المناخي في قطاع الصحة، أشار التقرير إلى أن 47 من أصل 53 بلدا إفريقيا، أعلنت عن تقديم خدمات مناخية لقطاع الصحة سنة 2024، تشمل مراقبة البيانات المناخية وتقديم التنبؤات الخاصة بالمخاطر الصحية المرتبطة بالمناخ مثل موجات الحر والأمراض المنقولة بالمياه وجودة الهواء. كما أدرج التقرير المغرب ضمن الدول التي أنجزت تقييمات وطنية للمخاطر الصحية المناخية، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية وبرنامج الأممالمتحدة للبيئة، وهي خطوة أساسية في بناء منظومات إنذار مبكر قادرة على التنبؤ بالأزمات المناخية الصحية وتقليص آثارها على الفئات الضعيفة. وسجل التقرير أن التحدي الأكبر أمام المغرب لا يكمن فقط في حجم الظواهر المناخية، بل في محدودية التمويل اللازم لمواجهتها. فوفقه، لم تتجاوز حصة إفريقيا من الاستثمارات العالمية في الطاقة النظيفة 2 بالمائة سنة 2024 رغم أنها تضم 20 بالمائة من سكان العالم. فهذا الخلل في توزيع التمويل يجعل البلدان النامية، ومنها المغرب، تعتمد على القروض الخارجية التي تستهلك أكثر من 85 بالمائة من إجمالي الاستثمارات الطاقية الإفريقية في سنة 2025. وتُظهر هذه النسبة، بحسب التقرير، أن التمويل الأخضر في القارة لا يزال بعيدا عن تلبية الاحتياجات الفعلية للتحول الطاقي، رغم أن المغرب يُعدّ من الدول الإفريقية القليلة التي حققت إنجازات بارزة في مجال الطاقات المتجددة، وخاصة الطاقة الشمسية في ورزازات والطاقة الريحية في طنجة وتطوان والعيون. ومع ذلك، تبقى هذه المشاريع محدودة الأثر في ضوء تصاعد الطلب على الطاقة والنمو السكاني، وعدم كفاية الاستثمارات الخاصة. ويلاحظ التقرير أن الفجوة التمويلية لا تعني فقط تباطؤ الانتقال نحو الطاقة النظيفة، بل أيضا تأخر تطوير البنية التحتية الصحية القادرة على مواجهة المخاطر المناخية الجديدة. فارتفاع درجات الحرارة، وازدياد الغبار، وتواتر الجفاف، كلها عوامل تضغط على أنظمة الصحة العامة في المغرب، من حيث ارتفاع الطلب على الرعاية الطارئة، وتزايد الأمراض التنفسية والجلدية، واتساع رقعة المناطق الموبوءة بالحشرات والبعوض. وتشير المؤشرات البيئية الواردة في التقرير إلى أن انتقال الأمراض المعدية الحساسة للمناخ، مثل حمى الضنك والليشمانيا، آخذ في الاتساع على المستوى الإقليمي، إذ زاد احتمال تسجيل حالة محلية من الليشمانيا بنسبة 29.6 بالمائة عالميا خلال الفترة 2015–2024 مقارنة بعقد الخمسينيات. ويُحتمل أن يشمل هذا التوسع البيئي مناطق من شمال إفريقيا حيث تتوافر الظروف الحرارية والرطوبية المواتية لتكاثر الناقلات. وعاد التقرير ليذكر بأن الاستجابة الصحية للمناخ لا يمكن فصلها عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية. فالمغرب، رغم جهوده في تعميم الكهرباء وتطوير الطاقات المتجددة، لا يزال يواجه تحديات في بناء منظومة متكاملة تضمن العدالة البيئية والصحية، إذ تظل الفوارق بين المدن والقرى واسعة في ما يتعلق بالخدمات الصحية والتجهيزات الأساسية. وفي هذا السياق، لفت الخبراء إلى أن البلدان التي استثمرت في البنية التحتية الصحية والبيئية بشكل متوازٍ مع التحول الطاقي حققت انخفاضا في الوفيات المرتبطة بالتلوث، كما حدث في الصين التي نجحت بين 2018 و2020 في تجنب 46 ألف وفاة بفضل الانتقال إلى الطاقة النظيفة في المنازل.. ومع كل هذه المؤشرات، يضع التقرير المغرب ضمن النطاق الجغرافي الأكثر تأثرا بتسارع الظواهر المناخية في إفريقيا الشمالية، إذ يجمع بين تزايد الأشهر الجافة، وارتفاع عدد أيام موجات الحرّ، وخسائر كبيرة في القدرة على العمل، واستمرار التعرض المرتفع لغبار الصحراء، ونسب تلوث هوائي تتراوح بين 40 و45 وفاة لكل مائة ألف نسمة، واعتماد جزئي مستمر على الوقود الملوث في المنازل الريفية، إلى جانب فجوة تمويلية حادة في الاستثمار الأخضر، ومحدودية المساحات الخضراء في المدن الكبرى، وضعف وسائل التبريد المنزلية.