قصة قصيرة العرائش أنفو طلب منهم الأستاذ أن يصفوا على صفحة بيضاء تفاصيل عطلتهم البينية. لم يطاوعه القلم، ولم تستطع مخيلته الصغيرة أن تجد في روتينه اليومي ما يمكن أن تكون صورًا تستحق الكتابة. عاندته اللغة وتمنّع الخيال. بدا له التمرين غير ذي معنى، فلا يمكن للغة أن تُجمّل قبح أيام عطلته ولو أراد ذلك. هو يظن أن دور الكلمات أن تنقل للقارئ الجمال حيثما وُجد، أو أن تصدح بالغضب الذي يسكن الذات، وهو الآن لا يريد الاحتجاج. لا يريد أن يصبّ غضبه الدفين على زملائه في القسم، ولا على أستاذ اللغة. الوقت يمر، وما تزال الورقة بيضاء كما تسلّمها من الأستاذ في بداية الساعة. جابت عيناه مساحة القسم، متأمّلًا تفاصيلها الدقيقة. الصور والعبارات المكتوبة على الحائط لا تزيد الأمر إلا تعقيدًا، فهي هنا كما كانت منذ التحق بمدرسة القرية أول مرة. نظر إلى زملائه علّه يستمدّ منهم الإلهام، دون جدوى. يعرف أن جُلّهم لم يترك منزله طيلة العطلة، بسبب الأمطار التي هطلت في تلك الفترة. عن أيّ أحداثٍ تراهم يكتبون؟ عاد إلى ورقته البيضاء. لم يكن مستعدًّا للانخراط في حلم جماعي كما دأب عليه هو وزملاؤه كل عطلة بينية، ولم يكن مستعدًّا لتحمّل أسئلة الأستاذ ونظرات التلاميذ. آه، لو كانت له إمكانية التخفي ولو للحظة، كما في القصص القديمة. عاد إلى ورقته البيضاء، لكنه هذه المرة لم ينظر إليها كفراغٍ يجب ملؤه، بل كمساحة صدق لا تحتاج إلى زخرفة. أمسك قلمه ببطء، وكتب جملة واحدة: "عطلتي كانت صامتة… كالمطر حين يتعب من السقوط." ثم توقف. نظر إلى الجملة؛ لم تكن سردًا، ولا وصفًا تفصيليًا كما طلب الأستاذ، لكنها كانت حقيقية بما يكفي لتمثّله. ترك القلم جانبًا، وابتسم بخجلٍ داخلي. لم يكن بحاجة إلى الإلهام، فقد كتب شيئًا يُشبهه، لا يشبه الآخرين، ولا حتى توقّعات الأستاذ. حين مرّ الأستاذ بين الطاولات، لم يُعلّق كثيرًا. قرأ الجملة، رفع بصره إلى التلميذ، وابتسم ابتسامة خفيفة، لا لوم فيها ولا إعجاب، بل شيء يشبه الفهم. ورغم أن الورقة ظلّت شبه بيضاء… إلا أن الطفل شعر، ولأول مرة، أن الصمت نفسه، حين يُكتب بصدق، يُصبح شكلًا من أشكال الحكي. محي الدين الوكيلي