كأس الكونفدرالية الإفريقية.. نهضة بركان يتأهل للنهائي بعد انسحاب اتحاد العاصمة الجزائري    البطولة الوطنية الاحترافية "إنوي" للقسم الأول (الدورة ال27).. المغرب التطواني يتعادل مع ضيفه يوسفية برشيد 0-0    السيام 16 حطم روكور: كثر من مليون زائر    ماذا بعد استيراد أضاحي العيد؟!    ولي العهد الأمير مولاي الحسن يترأس الجائزة الكبرى لجلالة الملك للقفز على الحواجز    اتحاد العاصمة ما بغاوش يطلعو يديرو التسخينات قبل ماتش بركان.. واش ناويين ما يلعبوش    تعميم المنظومتين الإلكترونييتن الخاصتين بتحديد المواعيد والتمبر الإلكتروني الموجهة لمغاربة العالم    الدرهم يتراجع مقابل الأورو ويستقر أمام الدولار    أشرف حكيمي بطلا للدوري الفرنسي رفقة باريس سان جيرمان    طنجة تتصدر مقاييس التساقطات المطرية المسجلة خلال يوم واحد.. وهذه توقعات الإثنين    بعد كورونا .. جائحة جديدة تهدد العالم في المستقبل القريب    حماس تنفي خروج بعض قادتها من غزة ضمن "صفقة الهدنة"    الاستقلال يترك برلمانه مفتوحا حتى حسم أعضاء لجنته التنفيذية والفرفار: الرهان حارق (فيديو)    جمباز الجزائر يرفض التنافس في مراكش    احتجاج أبيض.. أطباء مغاربة يطالبون بحماية الأطقم الصحية في غزة    مقايس الامطار المسجلة بالحسيمة والناظور خلال 24 ساعة الماضية    طنجة.. توقيف شخص لتورطه في قضية تتعلق بالسرقة واعتراض السبيل وحيازة أقراص مخدرة    لتخفيف الاكتظاظ.. نقل 100 قاصر مغربي من مركز سبتة    الأسير الفلسطيني باسم خندقجي يظفر بجائزة الرواية العربية في أبوظبي    بيدرو سانشيز، لا ترحل..    محكمة لاهاي تستعد لإصدار مذكرة اعتقال ضد نتنياهو وفقا لصحيفة اسرائيلية    "البيغ" ينتقد "الإنترنت": "غادي نظمو كأس العالم بهاد النيفو؟"    الفيلم المغربي "كذب أبيض" يفوز بجائزة مهرجان مالمو للسينما العربية    اتفاق جديد بين الحكومة والنقابات لزيادة الأجور: 1000 درهم وتخفيض ضريبي متوقع    اعتقال مئات الطلاب الجامعيين في الولايات المتحدة مع استمرار المظاهرات المنددة بحرب إسرائيل على غزة    بلوكاج اللجنة التنفيذية فمؤتمر الاستقلال.. لائحة مهددة بالرفض غاتحط لأعضاء المجلس الوطني        بيع ساعة جَيب لأغنى ركاب "تايتانيك" ب1,46 مليون دولار    نصف ماراطون جاكرتا للإناث: المغرب يسيطر على منصة التتويج    دراسة: الكرياتين يحفز الدماغ عند الحرمان من النوم    توقيف مرشحة الرئاسة الأمريكية بسبب فلسطين    حصيلة ضحايا القصف الإسرائيلي على عزة ترتفع إلى 34454 شهيدا    الدورة 27 من البطولة الاحترافية الأولى :الحسنية تشعل الصراع على اللقب والجيش الملكي يحتج على التحكيم    التاريخ الجهوي وأسئلة المنهج    طنجة "واحة حرية" جذبت كبار موسيقيي الجاز    تتويج الفائزين بالجائزة الوطنية لفن الخطابة    شبح حظر "تيك توك" في أمريكا يطارد صناع المحتوى وملايين الشركات الصغرى    الفكُّوس وبوستحمّي وأزيزا .. تمور المغرب تحظى بالإقبال في معرض الفلاحة    المعرض الدولي للفلاحة 2024.. توزيع الجوائز على المربين الفائزين في مسابقات اختيار أفضل روؤس الماشية    نظام المطعمة بالمدارس العمومية، أية آفاق للدعم الاجتماعي بمنظومة التربية؟ -الجزء الأول-    مور انتخابو.. بركة: المسؤولية دبا هي نغيرو أسلوب العمل وحزبنا يتسع للجميع ومخصناش الحسابات الضيقة    خبراء "ديكريبطاج" يناقشون التضخم والحوار الاجتماعي ومشكل المحروقات مع الوزير بايتاس    الحبس النافذ للمعتدين على "فتيات القرآن" بشيشاوة    المغرب يشارك في الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي بالرياض    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    صديقي: المملكة قطعت أشواط كبيرة في تعبئة موارد السدود والتحكم في تقنيات السقي    مهرجان إثران للمسرح يعلن عن برنامج الدورة الثالثة    سيارة ترمي شخصا "منحورا" بباب مستشفى محمد الخامس بطنجة    خبراء وباحثون يسلطون الضوء على المنهج النبوي في حل النزاعات في تكوين علمي بالرباط    رسميا.. نزار بركة أمينا عاما لحزب الاستقلال لولاية ثانية    ابتدائية تنغير تصدر أحكاما بالحبس النافذ ضد 5 أشخاص تورطوا في الهجرة السرية    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    انتخابات الرئاسة الأمريكية تؤجل قرار حظر "سجائر المنثول"    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    الأمثال العامية بتطوان... (583)    بروفيسور عبد العزيز عيشان ل"رسالة24″: هناك علاج المناعي يخلص المريض من حساسية الربيع نهائيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طُقوس الكِتَابة وعاداتُها عند المُبدعين والكُتَّاب
بين صخب الأمكنة وهدوئها تحدث كثير من مفارقات الكتابة ونداءاتها
نشر في المساء يوم 14 - 01 - 2015

ما نَقرأُه من نصوص ودراساتٍ، في كل حقول المعرفة والإبداع، هو ما تكون يَدُ الكاتب اسْتَصْفَتْه، من بين كثير من الصُّوَر والجُمل والتَّعابير، بما كانت تحمله من دلالات، ربما بَدَتْ، للكاتِب، في لحظة الكتابة، غير كافية لتقول ما رَغِبَ فيه، أو ما كان خَطَّط له، أو فَكَّر فيه. يعرف من سَكَنَتْهُم حِرْفَة الكتابة، ومن كانت الكتابة عندهم مسؤوليةً وشغفاً، قبل أن تكون رغبةً في الشُّهْرة، وغَلَبَة الاسم على النص، أنَّ ما نقرأه هو بعضٌ مما رَغِبْنا في كتابته. ما يجعل الكتابة، في لحظة اسْتِجْلابِها، بمثابة البئر التي يكون ماءؤها ضَحْلاً، أو شَحِيحاً، مهما وسَّعْتَ من مساحة الدِّلاء وعُمْقِها، فهي لن تفتح لك ماءَها إلاَّ بالقَدْرِ الذي تستوفي فيه مسافة الشَّغَف، أو لذاذة الصَّبْر وعَنَتَه. هذا ما جعل الكتابة عَناءً، أو كما يعتبرها البعض «مُعاناة»، أو ما كنتُ سَمَّيْتُه في ندوة دولية حول الكتابة ب «الألَم السَّعِيد».
في ما نقرأه في هذا الملف المُثير، الذي هو، في حقيقته، اختراق ل «مطابخ» الكُتَّاب، ول«محترفاتهم»، ثمَّة الكثير مما تفضحه هذه الغُرَف المغلقة، ولو كان الأمر يتعلق عند البعض بالكتابة في مواجهة الشمس، أو بالكتابة في مكانٍ عام. ليس لأيٍّ كانَ أن يكون شريكاً للكاتب في لحظة الكتابة، أو بجواره. ثمَّة نوع من التَّسَلُط، والرغبة الفارقة في الانعزال والاختلاء، وكأنَّ الأمر يتعلَّق بلحظة احتواء لِجَسدٍ لا حَقَّ لأي كان أن يكون شريكا في حلاوته. هذه الأنا المُفْرِطَة في نرجسيتها الخَلاَّقَة، هي من شروط الكتابة التي تفترض حالة من الاستبطان، أو ما يمكن اعتباره جنوناً، العقلُ يليه، ولا يكون، بتاتاً، سابقاً عليه.
ثمَّة من يُزاوِج بين الكتابة على الورق والكتابة على الحاسوب، وثمَّة من يكون الحاسوب عنده تالياً على الورق، أو يستعمله كوسيط، وثمَّة من لا زالوا لم يخرجوا من الورق، كل له مبرراتهُ، رغم أنَّ الورق والأقلام والحاسوب، هي مجرد حوامل، لا يمكن ربطها بلحظات اسْتِجلاب الكتابة أو مراودتها، رغم ما أصبح يفرضه الحاسوب من شروط، وما يُتيحُه من إمكانات، لا يمكن تصوُّرُها، قياساً بالورقة، التي تبقى ذات سحر استثنائي، في الإبداع، بشكل خاص.
الكاتب كائن مثل جميع الناس، لكن شروط الكاتب، وطريقته في النظر للناس، ولواقع هؤلاء الناس، ولما يجري في هذه الحياة التي يعيش فيها، هي غير شروط هؤلاء الناس، لأنه، حتَّى وهو يمشي في الأسواق، فثمَّة ما يأكل عينيه، مثل رؤية يوحنا، التي كانت حارقةً، لا يَسْتَشْعِرُها إلا يوحنا نفسه.
ما نقرأه من أعمال، هذه بعض أسرار انكتابها، لكنها، مهما صَدَرَ عن الكاتِب من اعترافاتٍ، تبقى ناقِصةً، لأنَّ ثمَّة ما لا يستطيع الكاتب نفسَه إدراكَه، أو الإمساك به، بدليل أنَّه هو نفسه، وهو يقرأ ما كتبه عند صدوره، أو بعد مرور وقت على كتابته، يجد نفسه خارج ما كتبه، أو أنَّ ثمَّة يدا أخرى هي التي كتبتْ نيابةً عنه، ولا دَخْل للغيْب في هذا، أعني في فعل الكتابة، التي تبقى نوعاً من الوجد الخاص، الذي لا يمكن أن يُتاح حتَّى لبعض من يكتبون، ممن خَذَلتْهُم الكتابة، ولم تعطهم إلاَّ قُشُورَ اللغة والكلام.
فعل الكتابة حمل جوَّانيّ مديد واختمار شائِك عصيب
بنسالم حميش
لا طقوسَ قارة لي ولا نظامَ من حيث وقت الكتابة وممارستها، الأهم عندي أن أقضيَ حوالي سبع ساعات مع الكتابة والقراءة، وأظن أني أقرأ أكثر مما أكتب. عطفا على هذا، أقول إني لست من سلالة هؤلاء الذين يجلسون لاجتراح فعل الكتابة عن عمدٍ وسبق إصرار، تعلوهم سمات الاستكبار ومقادير فائضة من التصنع والافتعال في الحركاتِ والنظرات. هيئتهم، بصراحة، تنفّرني وأحيانا تضحكني، وكذلك غنائياتهم وبكائياتهم وغرامياتهم، علاوة على محسناتهم اللفظية والجُملية وحذلقاتهم البديعية... لا، الكتابة حملٌ جوانيٌّ مديد، واختمارٌ شائكٌ عصيب، تليهِ وقتَ الوضع هزاتٌ وفوراتٌ وجدانيةٌ متناغمةُ الانسكابِ والإيقاعِ والكثافة، لكني قد أتبع أحيانا ابن رشيق صاحب «العمدة»، إذ ينصح «بأوقات البكر عند الهبوب من النوم وفراغ المعدة ونشاط الفكر»؛ أقول أحيانا لأن الأرق قد يمنعني من ذلك. أما ما أثمنه وهو نصيحة العارفين، كما يوردها ابن خلدون في «المقدمة»: «فإن استصعب (الشاعر أو الكاتب) الأمرَ عليه، فليتركه إلى وقت آخر ولا يُكره نفسه عليه...».
مكاني المفضل للكتابة مكتبي-خزانتي، أو أي مكان مغلق لا أسمع فيه لغوا أو حتى حفيف جناحي ذبابة. ملجئي هي الكتابة وقاعدتي الخلفية الأبقى: إنها كترياق استشفائيّ يهب متعةً وأيَّ متعة! فإن وجدتْ في القراء من يقطف قسطا منها فأهلا وسهلا، وإلا فإنها وحيدتي وأنا وحيدها. المتعة التي أجلبها لنفسي من الكتابة هي ميزاني الأوحد وبوصلتي الأمثل. بها تتمُّ للحواس تطرية، وللمخيلة والذائقة ترقية. آخرون سواي قد يشاركونني إياها، ولو بدرجة أقل؛ أما المتخلون عنّي فلا أستطيع لهم شيئا، إذ لا وجهتي وجهتهم، ولا سكرتي سكرتُهم... كل كاتبٍ أصيل، عليه أن يزهدَ في ذيوع الصيت ونيلِ «الشعبية»، إلا أن يأتيَه ذلك من حيثُ لم يبحث أو يحتسِب، هبةً لا تُردّ ولا تُعمي الفؤادَ والبصيرة ولا تستلِب.
بالقلم أسطرُ على الورق، وبعده تتولى السكرتيرة الرقن بالحاسوب، وأصحح البروفات مراتٍ عديدة، وأعيد كتابة فقراتٍ أو حتى صفحات... لما أجلس للكتابة أو لاستئنافها بدافع قوي وشعور بحاجة إليها ملحاحة، يمحي رويدا رويدا ما بيني وبين صفحاتي من موانعَ وشوائب، ويتحررُ القلمُ في مراودتها وملامستها ووطئها، فتأتي عليَّ لحظات انتظار وترقب، ثم أخرى أُسرّ فيها بدفق القلم وفلْحه، ثم أخرى أطلق فيها العنان للضحك المكتوم أو الضاج من مشاهدَ هزلية أصوّرها، أو من كلام بعضِ مخلوقاتي وأفعالهم. ولما يعُمُّ منتهى الصمتِ فضائي، تبرز في سمعي خشخشات الورق وما أسْطُرهُ عليه، سرعان ما تغيّبها نبضاتُ قلبي ونهضاتُ جوانحي، كما لو أني أكوّنُ كلماتي وأخُطُّها بدمي، مؤديا وقفاتٍ خشوعيةً مؤثرة، مسجلا إصاباتٍ نظيفةً لامعةً شيّقة في شباك المجهول، وسواها بين طياتِ ذاكرتي ومنسياتي. يحدث لي طبعا أن أجفُّ وأعكل أمام بياض الصفحة، حالئذٍ أقتاتُ بما تيسر، أتأمل، أو أخرج للجولان في الشاطئ بين الرّملِ والصخر، أناجي نفسي بشعرٍ أحفظه، أو أدردش مع صيادين اعتدت اقتناءَ بعضِ سمكهم وفواكههم.
من عاداتي شرب القهوة أو الشاي، ولا موسيقى إلا وقت الاستراحة، حيث أنزع إلى سماع سمفونيات أو موشحات أو مقطوعات لفاوستو بابيتي وبعض أغاني فيروز وأخرى يونانية أو من الفادو والفلامنكو... من عاداتي أيضا أن أرتب خطاطة الرواية ومجراها في ذهني، مع إمكان إدخال تعديلات وتغييرات أثناء التحرير؛ اعتدت على الصبر والتأني طلبا لجني مُتَعٍ ذاتية قد يقاسمني بعضَها قراء إن هم وُجدوا...
ختاما: إخال أنه لا يستحق اسم الكاتبِ المبدع أو الفنان إلا من تدرب على حرث حقولٍ ثقافية شتى، بين شعلِ الشوق ووهجِ الإشراقات، وأنجزَ فيها تحفا ذاتَ جمالية متجردة، نابضة بجدةٍ حيَّةٍ غيرِ مألوفة. إنه إذا ما واجهته المواد السريعة الطبخ والتلاشي، نأى بنفسه هاربا منها، كأنما هي وباء أو من طوالعِ الشؤمِ الجارح. ترياقه الأنجعُ والأبهى: فِكَرٌ نزّاعةٌ إلى بواطنِ الأشياء والمدى، تعشّقٌ للأقواتِ الروحية في الإبداعاتِ المتحاورةِ عبر الأزمنة والأمكنة، اشتغالٌ فرحٌ بطعمٍ للمطلق ملءَ الحواس والرأس؛ هذا كله وسواه هو ما قد يحفّزُ المبدع على فعلِ الإجادة باطراد، وقياسِ قوةِ منتوجه بحيويةِ المفهوم وجذريةِ الرؤيا والأسلوب.
الكتابة بدون شروط إلاَّ امتثال الكتابة وطاعتها
موليم لعروسي
أكتب خلال النهار مباشرة بعد تناول الفطور، ويمكنني أن أشتغل بدون توقف إلى حدود الساعة الخامسة بعد الظهر. ليست هناك أي طقوس أو استعدادات خاصة اللهم حمل كأس الشاي، أو ما توفر منه خلال الفطور، والتوجه مباشرة إلى المكان الذي اشتغلت فيه في اليوم السابق. هذه إحدى العادات التي تمكنني من استعادة الخيط الرابط في الكتابة. غالبا ما أكتب بالبيت، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالإبداع والتفكير الفلسفي. أما دون ذلك فإني أشتغل، بحكم الضرورة والطلب، وفي أي مكان حتى لو كان ذلك في القطار أو الطائرة أو سيارة عندما أكون غير مسؤول عن قيادتها. لكن داخل البيت، وبالرغم من أنني لا أختار مكانا محددا، فإن شيئا ما غير مفهوم يجعلني أشتغل دائما في نفس المكان، خصوصا في مواجهة النور أمام فضاء فسيح ومشهد سماوي لا يثير في إلا الإحساس بالفراغ.
قبل أن أشرع في الكتابة وخط الحروف الأولى هناك دوران وضياع وقت رهيب. لا أدري من أين أبدأ؟ ولعل أهم اللحظات الأولى للكتابة هي تلك التي تداهمني خلال النوم، وتجعلني أستعجل الاستيقاظ، وعندها أكون شخصا غير عادي وغير اجتماعي بالمرة. في هذا الباب أعتبرني محظوظا لأن زوجتي فنانة وتمر هي الأخرى بلحظات مشابهة، ولهذا فكل منا يترك الآخر لحاله في مثل هذه الظروف، بل يترك له الفسحات الكافية لينغطس في العملية الإبداعية.
عندما أنغمس في الكتابة لا أبحث عن شروط خاصة باستثناء مثولها في ذهني ووجداني، بل أحسني شخصا آخر يعيش في علاقة غريبة مع كائنات غير أرضية. أكون في حالات كأنني بين اليقظة والنوم. أحتاج إلى كرسي وثير أدخل فيه وأنسى أنني جالس فيه، وقهوة أشم رائحتها دون أن أحتسيها بالضرورة. كما أنني أحتاج إلى مدفئ خلال فصل الشتاء، إذ لا أستطيع الكتابة إن أنا أحسست بالبرد يجتاح قدميَّ، ويذكرني بأنني أمتلك أعضاء أخرى غير يدي.
إذا كنت أحتاج إلى بعض الهدوء والتركيز حتى أستطيع الدخول في طقس الكتابة فإنني عندما أحيط نفسي بكل هذه الوسائل البسيطة وينتهي التوتر، بمجرد الانطلاق في الكتابة، أنسى الضجيج، ولا شيء يمنعني إلا إذا كان الصخب عاليا جدا. يمكنني أن أكتب لساعات طوال دون الاهتمام بالمحيط. لا تزعجني الأصوات الآتية من خارج البيت من الشارع، مثلا، ولا تلك التي قد تصدر عن قرقعات أوان داخل المطبخ أو غيره، ولكنني قد أنزعج إذا ما توجه إلي أحد مباشرة بسؤال ما، لذا أحيط نفسي بجميع الضمانات التي أصبحت معروفة من لدن المحيط الذي أعيش فيه.
منذ 2002 لا أكتب إلا على الحاسوب. أصبحت علاقتي به قوية. لقد كتبت الفصل الأول من «ملائكة السراب» بخط اليد، لكن الفصول الباقية كتبتها على الكمبيوتر مباشرة. ولعل عددا من زملائي الكتاب يتساءلون عن كيف يمكن لنبضات القلب أن تتسلل إلى النص دونما علاقة مباشرة مع فضاء الورقة. تلكم أسئلة عايشتها أيضا فيما يتعلق بالإبداع التشكيلي، حيث يتحدث الفنان كما الكاتب عن طقوس الكتابة ورائحة الأحبار التي تثير شهوة الإبداع. هذا بالطبع كلام يصدق على فترة محددة من تاريخ الكتابة، ويجد له جذورا في نظريات الإبداع المستمدة خصوصا من الرومانسية. فالإنسان عندما توجه إلى تعويض عجزه البيولوجي باختراع أدوات تعد امتدادا لجسده، كان دائما يحملها حرارة جسده وينسى أنها زائدة على جسده. هكذا أصبحت حروف الكمبيوتر، بالنسبة إلي، كالريشة أو القلم تماما. أصبحت لدي صعوبة حتى في توقيع الأوراق الرسمية. غريب لكن الأمر هكذا.
الكتابة مُراودة وتفاض مستمران
محمد الأشعري
أكتب منذ بضع سنوات صباحاً، بعد حصتي اليومية من المشي التي أستغلها كذلك في إعداد تربة الكتابة. في هذه الساعات الأولى من اليوم، أكون ذهنيا ووجدانيا مشدوداً للنص الذي بدأته أو أقبل عليه. أعتبر التفكير في النص جزءا لا يتجزأ من الكتابة، قد يتخذ هذا التفكير صبغة تمرين تجريبي، أو تنقيح، أو إعادة كتابة، أو بحث، أو قراءة، أو تأمل، ولكن هذه الممارسة تساعد على التقاط الشرارات الأولى، كما تساعد على جعل الكتابة خاضعة للتساؤل وليس مجرد تدفق لا يراوده شك.
أكتب في مكتبي بعد سنوات من الكتابة المتسكعة، وأدرك في كل يوم أن الانتظام والتحكم في الزمن، ونوعا من الصرامة في إنجاز حد أدنى كل يوم، وعدم الإعراض عن الكتابة عندما تستعصي، بل مراودتها باستمرار والتفاوض معها والربط المستمر بين القراءة والكتابة، كل ذلك يعطي لمكان الكتابة صفة الحاضنة، أي تلك الآلة الدافئة التي تفقس فيها النصوص.
اللحظات الأولى للشروع في الكتابة متمددة في الزمن، تبدأ من الإفاقة والتذكر، وتمر من العودة إلى كتابة الأمس، وتمتد إلى لحظات مشتتة قد لا تكون بالضرورة وقت الشروع في الكتابة، بل لحظة اللقاء المباغت مع جملة أو صورة أو موقف محفز على الاستمرار. لذلك يطالبنا المجهود المهني والانتظام المرتبط به بالشروع في الكتابة مهما كانت الظروف، ويطالبنا النص بالشروع في تشكله متى التقت الإرادة بالشغف.
لا شروط لي سوى أن يبدأ يومي بلا مواعيد طارئة، ولا واجبات مستبدة. ولا مكالمة منغصة. المزاج الفاسد عدوي في الكتابة، ويلزمني وقت طويل للتخلص منه، عدا ذلك فإنني أحب بعد إنجاز عمل ما أن أبتعد لبضعة أيام عن مكتبي، وعند ذلك أقرأ النصوص التي تفرحني وتشحذ إيماني بالكتابة.
كتبت دائما في الجلبة، بين اجتماعين وسفرين، حتى أصبح ضجيج الحياة ضروريا للكتابة، بل جزءا من عوالمها، لكنني الآن أحتاج إلى حد أدنى من الهدوء. الكلمات صارت مثل طيور حذرة تهرب عند أول حركة طائشة، لذلك أحاول الاقتراب منها بأقل ما يمكن من الجلبة، لا أستعمل الموسيقى، ولا يصاحبني غير الماء.
على الطاولة أحضر الكتب التي قد أحتاجها والأوراق وقلم الحبر، لأنها تسعفني في لحظات التوقف بالانغمار في الخربشة وفي ما يشبه رسماً بدائيا استعيد به طفولتي.
تعودت على الكتابة على الحاسوب، دون أن أتنازل عن الورق والحبر، أعود إليهما كلما احتجت إلى علاقة حسية بالحروف، يحدث لي ذلك خصوصاً في الكتابة الشعرية، ربما لأنني أخاف أن تهرب القصيدة من أصابعي.
لا كتابة دون صدق وحاجة للكتابة
خزعل الماجدي
أكتب كلّ يوم، وفي كلّ أوقات اليوم، صباحاً وظهراً ومساءً وليلاً، لكني أفضل الليل، بعد التاسعة ليلاً وحتى الثالثة فجراً. المعدل العام لعملي في الكتابة يومياً هو 15 ساعة حالياً بعد أن تفرغت للكتابة.
أكتب في مكتبي، في غرفتي بالبيت، هناك حيث كل ما أحتاجه معي، من ورق وكتب ومراجع وجهاز كومبيوتر ونت. وغرفتي تقع في أعلى طوابق بيتي حيث أنعم بوحدةٍ وهدوء.
عادةً ما أكتب وفق برنامج مسبّق، أكون قد أعددته لكتابٍ أو كتابين. أنا لا أكتب المقالة ولا الكتابات العابرة، الكتب هي هدفي الأول والأخير، حتى مجموعاتي الشعرية أكتبها ككتب، في الغالب، رغم وجود نصوص تخرج عن السياق، لكني دربتُ نفسي على كتابة الكتب. أنا أجمع بين حرفتي النصوص الإبداعية (الشعر والمسرح) وحرفة التأليف الفكري التي هي مختلفةٌ تماما عن كتابة النصوص، أو الكتب الإبداعية حيث يغلب عليها التخطيط المحكم والدقيق.
الكتابة الإبداعية شرطها الحاجة إليها والصدق فيها والحذر من التكرار (تكرار المبدع لكتابته أو تكرار المبدع لما هو سائد في زمنه). أما الكتابة التأليفية في البحوث والدراسات الفكرية فشرطها المنهج العلمي الرصين والأسلوب الواضح والجميل والدقة والابتكار.
اكتشفت أهمية التخطيط للكتب والكتابة، وإلزام نفسي بجدول زمني محدد، وهو ما ساعدني كثيراً على احتراف الكتابة وجعلها ميسرةً أكثر، ولو أني بقيت بمزاج المبدع فقط، لسادت الفوضى ولعطّل الكسل الكثير من مشاريعي. أنا، اليوم، أحاسب نفسي على الوقت الذي يمر، وأكون في غاية النكد عندما لا أنجز شيئاً في ذلك اليوم.
غالباً ما أكتب الشعر على قصاصاتٍ صغيرة، ثم أجمعه في نصوص نهائية. الكتابة المسرحية تستوجب التخطيط للشخصيات والأحداث، ثم كتابة المتن برويّة ومهارة، وخطورة النص المسرحي تكمن في انزلاقه السهل نحو الأدب في حين يستلزمُ أن يكتب كنصٍّ مسرحي قائم بذاته يستجيب لأدوات الدراما وشروطها التي تبتعد عن الأدب غالباً. أما الكتابة الفكرية فلوازمها كثيرةٌ، فهي تحتاج المراجع الرصينة والفكرة الثاقبة والتنظيم والدقة والمنهج العلمي في الكتابة، وكل هذا يجب أن يكتب بلغة سلسةٍ وجذّابةٍ وليس بلغةٍ جامدةٍ، وهي النقطة الحرجة التي يتعطل فيها أغلب الباحثين بسبب عدم مرانهم الأسلوبي في البحث الفكري.
لعلّ أهم عادات الكتابة عندي هو التخطيط المسبق لعناوين ومضامين الكتب التي أنا بصددها، ويتضمن هذا وضع الفهرس الأولي كشرطٍ من شروط التأليف بشكل خاص.
لا بد من جوّ الهدوء والصمت، ولا يمكن الكتابة في جو صاخب، بل إني أحرّم على نفسي الانشغال بأي شيء مثل التدخين أو الشراب أو سماع الموسيقى. لا أحب أن أتشتت لحظة الكتابة ويهمني التركيز .
مازلتُ أجمع بين الورق والحاسوب. أحيانا أكتب مباشرة على الحاسوب، خصوصاً إذا كانت النصوص قصيرة، وفي الغالب أكتب على الورق وبقلم الرصاص (البصمة)، ثم أصورها بجهاز التصوير وأبعثها لمن ينضدها لي، وهذا يجري مع النصوص الطويلة بعشرات الصفحات. بإمكاني تنضيدها، لكن في هذا الإجراء توفيراً للوقت.
لا أتقيَّد بزمان ومكان مُعيَّنيْن فالشعر كينونتي
محمد السرغيني
عندي مفكرة صغيرة أسجل فيها رؤوس أقلام تَعِنّ لي في مختلف حالات حياتي في البيت أو في غيره، في السفر أو في الحضر، في النوم أو في اليقظة، وعندما أجلس إلى الحاسوب كل يوم، أفتح مذكرتي وأبدأ بأول ما خططتُه فيها، وهنا تتوارد الأفكار مقترنةً بإيقاعاتها. وكلما أنهيتُ عملا شعرياً أمزق الورقة التي نقلتُ منها ما نقلتُ. هذا عمل أولي لكتابة القصيدة، بعده يأتي دور التحكيك والمعاودة، ولا يأتي إلا بعد مرور زمن يطول أو يقصر على الكتابة الأولى للقصيدة. يتم التحكيك كما تتم المعاودة بعد عدة قراءات لما كتبتُه، قراءات يكون فيها للوعي سلطانه وسيادته على اللاوعي الذي تمت فيه الكتابة الأولى. إن الذين يكتبون الشعر على طريقتي، مدفوعون إلى عقلنة حركاتهم وسكناتهم، بحيث يجتنبون الحالات الوجدانية للبكائين بالمناسبة. وعليه، فالطريقة التي أكتب بها الشعر لها من الاندفاع الباطني ما يجعلها غنية عن البحث عن المحفز La motivation الذي لا يستعصي عليَّ كلما طلبتُ حضوره، دغدغة واحدة مني له تجعله صاحياً كأتَمّ ما يكون الصحو. إنني أؤكد أن الأشخاص الذين يلحون على توفر طقوس معينة تسمح لهم بكتابة الشعر، إنما يحاولون بذلك لَفْتَ النظر إليهم، معتقدين أنَّ الطقوسية من مستلزمات النجومية. أنا لستُ كما يقول الشاعر، ولعله نزار قباني، «أكتب الشعر كما يمشي مريض في سُباتٍ» فإذا سوَّدت في الليل تلال الصفحات، فلأن الشِّعرَ، هذا الشعر، بعض من حياتي. لا أتقيد بزمان ولا بمكان، ولذلك فالشعر
كل ذاتي، وكل كينونتي.
عاداتُ الكِتابة عند الكُتَّاب
ثريا ماجدولين
- متى تكتبين؟
حين تمتلئ شراييني بماء القصيدة.. زمن الكتابة عندي غير مرتبط بمفهوم الوقت، بل بمنسوب الألم.. لأنني لا أكتب استجابة للفرح... غير أن ارتباط الكتابة بالسكينة والهدوء يجعلها خصبة في الليل أكثر من الأوقات الأخرى...
- أين تكتبين؟
في المكان الذي يمتلئ بوحدتي.. حيث لا أحد غيري يمكن أن يسمع دقات قلب القصيدة... قد تجيء القصيدة وأنا في مكتبي بالبيت، أو في غرفة النوم.. وقد تتشكل أجزاؤها وأنا في أماكن عامة مليئة بالناس حيث يكبر الشعور بالوحدة. لكنها لا تتجسد فوق الورق إلا بعد أن تتأكد من أن لا أحد غيري يرقبها.
- اللحظات الأولى للشروع في الكتابة؟
الطريق إلى القصيدة ليس واضحا تماما، ولا مرسوما من قبل..ولا أذكر أبدا لحظة الوقوع في بحرها.
- شروط الكتابة؟
حين أحس أن هناك فيضا من الأحاسيس والمشاعر تتغلب على سيطرتي وأنني أفشل في أن أكون حجرا، آنذاك لا بد أن أتورط في الكتابة.
- هل تحتاجين إلى جو من الهدوء والصمت التامَّيْن؟ أم تكتبين في كل الظروف والأحوال، أي مهما كانت درجة الضجيج والصخب؟
لا بد من الهدوء التام من أجل إخراج القصيدة إلى الوجود بعد أن تكون قد انكتبت بداخلي. هنا لحظتان أساسيتان: لحظة الكتابة داخل الجسد، وهذه اللحظة غير مرتبطة بالجو الخارجي للجسد ولا تهتم بمستوى الهدوء أو الضجيج، ولحظة الولادة أو الوجود وهي تقتضي الصمت والهدوء التام.
- علاقتُك بالحاسوب، هل تستعملينه في الكتابة، أم تكتبين على الورق ثم ترقنين النص على الحاسوب؟ أم تكتفيين بالكتابة على الورق، فقط، وفق الشروط التقليدية للكتابة؟
أكتب القصيدة على الورق، ثم أرقنها على الحاسوب.
الكتابة مفهوم ثقافي يرتبط بالكلام والفعل في الحياة
شعيب حليفي
كنتُ أفكرُ دائما في أن الله خلق الإنسانَ ليعيشَ الحياةَ بثلاث طرق: بالفعل والكتابة والكلام. وداخل هذه الأرضية أو العقيدة الثلاثية يجري نهران متوازيان يختلفُ هديرهما من شخص لآخر، نهرُ الخيال ونهر اللاخيال. من هذا الاحتمال المرن، ترتبطُ الكتابة عندي بمفهوم ثقافي واسع يمتدُّ إلى الكلام والفعل في الحياة، فنحنُ نكتبُ بأكثر من ضمير وزاوية في كل حركة، وكأن حياةَ كل واحد فينا هي نشيدٌ ملحميُّ يختزن مقاطع من كل شيء، من أقصى الفرح والسخرية إلى «أقسى» التراجيديا. وحصرا، في الكتابة التي تصبح نصا منشورا على العموم، في ما أكتبُ من سرود ونقود وعقود (مقالات)، فإن الأحبّ إلى نفسي هو السرد الذي يُشعِرُني بمتعة ويمنحُني سلطة الثأر لخيالنا الجمعي. وقد تعوّدتُ أن تكون الكتابة عندي استمرارا للحظات الحلم؛ ففي كل فجر، صيفا وشتاءً، ما لم يمنعني عذر قاهر وظاهر، أقرأ وأكتبُ وأراجعُ. غير أن هوى الكتابة عندي يكون أرقّ وأحلى وأليَن في فصليْ الشتاء والربيع. والكتابة تستقيم معي في أي مكان. يكفي أن يكون هناك الفجر الورعُ والقلمُ اليفِع ُوالورق، بالإضافة إلى امتلاء النفس بذلك الاستعداد الذي يحركه الوهم والقلق والفرح ومعطيات متشابكة كثيرة. هذه العناصر هي بالنسبة لي عتبات للعبور بين لحظتين. وتكون الكتابة في بيتي على المكتب، في الأعم، لكن المراجعة والتصويبات أجريها في أمكنة أخرى غير المكتب. كما أني لا أشرعُ في الكتابة إلا بعدَ تدبُّر، أي حينما تصبح الفكرة خميرة قادرة على التشكل والمحاورة، فأنقلها على الورق في شكل أفكار وملاحظات تعِنُّ لي في أي وقت من أوقات النهار في لحظات التأمل والسفر والخلوة. وحينما أشرعُ في الكتابة تكون اللحظة الأولى ذات طعم أساسي، فهي بداية معلومة لا أعرف بالتحديد نهايتها. فكل كتابة هي مشروع لا ينتهي أو يكتمل، ليس هناك نص أول ونص خامس..وإنما هي حالات تولد متفرقة ضمن مخاض مستمر. والكاتب لحظة الكتابة، تواكبه شروط وعادات حسب الشكل التعبيري. لذلك فشرط الكتابة لديَّ وجوديٌّ، فقد اخترتُ أن تكون الكتابة أداتي في الحياة، وهي التي تُعطي لمصيري معنى مرتبطا بمصائر غيري. هذا في فلسفة الشرط، أما ما تعلقَ بالشروط المصاحبة واللوازم فهي أن تتوافر لي أقلام الحبر والورق الصقيل. هل الكتابة فجرا، ولمدة ساعات، قد تتوقف في الثامنة صباحا أو منتصف النهار، هي عادة أو شكل من أشكال عيش الفلاح الذي كنتُ أريد أن أكونه؟ ربّما أتوهمُ أن مباغتة الكتابة في ذلك الوقت المُبَكر هو امتياز من ناحيتين: الأولى أن أباشر الكتابة قبل أن يستفيق لها الخلق؛ والثانية أن أباشرها وأنا خال من آثار النهار بصراعاته وانشغالاته التي تُذهبُ التركيز والصحو. أباشرها بذهن صافٍ يقظ. بكل تأكيد فإن الفجر خلقه الله زمنا بين الزمنين، وعتبة من الظلام إلى النور، من المجهول إلى المعلوم، من الحلم إلى الاحتمال... في هذه الفترة يتحقق الهدوء، والهدوء ليس شرطا. فخارج الإبداع وما تعلق بالمقالات وغيرها مما يرتبط بنصوص قصيرة، فإني أكتبها في أي مكان (كما أكتب هذه المقالة وأنا على متن القطار من الدار البيضاء إلى فاس) على عكس الإبداع أو الدراسة النقدية، فالحاجة إلى الهدوء ضرورية. والكتابة عندي كانت وما زالت على الورق في ما يتعلق بالإبداع والنصوص الطويلة، بينما النصوص القصيرة والمقالات فإني أكتبها مباشرة على الحاسوب. بينما النصوص الطويلة فبعد تحريرها على الورق أسلمها للكاتبة، وبعد تخزينها أجري عليها التعديلات بنفسي.
طقوس كاتب يعشق البحر
صدوق نورالدين
الليل والكتابة:
لا علاقة تربطني والليل. فأنا كائن نهاري ينزع إلى البياض. ليس البياض الشمعي كما دونت أبجدياته فلسفة الظل اليابانية، وإنما طقوس الحرف تأسر الذات باكرا في زوايا الفراغ والصمت. قد يرى البعض نكهة صمت الليل الأقرب للذة الحرف ومتعته، إلا أني أخلصت ومنذ طفولتي لميثاق العلاقة الموقع والبياض. ذلك أني تشربت من يديها غب موت سلطته، تقليد الهروب من الليل. أحسها وقد أغلقت باب منزلنا في حي الفرنسي ديكري، تحتضن اللمة في شموخ العشق والمكابدة. وأما في إحدى غرفه الثلاثة، فأقمت مملكة الكتابة على طاولة الطعام المهربة من الزمن الفرنسي الذي دخل بيتنا باكرا. كانت تلك، أول مكتب وآخره. وأما اليوم، فكل طاولات المقاهي التي حرصت على التردد عليها مكاتبي. فأنا لا أملك مكتبا، وإنما مكتبات. وحيثما قيض للذات هدأتها، أكان داخل البلد السعيد أم خارجه، ألفت أرواحهم تحتل الزوايا في صمت.
لم أكن لأسافر وحيدا، وإنما أجدهم يسافرون، فقط لتذكيري بما كدت أنساه، بأغنية الطقوس التي أحرص على عزف إيقاعاتها.
لا علاقة تربطني والليل كتابة، إبداعا وتخييلا. ذلك أن خيالي يظل مؤجلا إلى اندياح البياض. أما والليل يغطش، فأتلصص على خيالهم. أقرأ كيف يتخيلون، يرتبون البياض ويشيدون عوالم بنكهة البراءة الطفولية. فكل كتابة مهما سمت إذ تقول طفولتها، تجسد الصحو الذي لا يمكن أن يفتضح إلا والتسويد يمحو البياض بدرجات بطيئة.
في الليل إن كان ثمة لليل من معنى، وبالضبط اليوم، أوزع خيالي على أكثر من خيال: خيال الإبداع حيث فساحة التأمل، التفكير والتأويل. وخيال الفكر الصارم.
في الليل، وحال التلبس لأحصد ما استوقفني، لأعيد زرعه فيما أخالني تخيلته أو أتخيله. أحصد لأزرع أرض البياض.
الإبداع والمشي:
تنبثق الطقوس اليومية حال المشي، أو لحظة الحلم. المشي ورصيف البحر حيث المدى ينفتح على الأزرقين: الأعلى وانسياب الماء. أرى وأمشي كأني لا أرى. كأن شخصا يرافقني بالهمس وأنا أغرق في الصمت الطويل. وحدي والطريق والبحر وانثيال الحروف وهذا الشخص الذي اختارني ليس اليوم وإنما بامتداد العمر. فكلما خطوت أصغيت كاتبا في رأسي خيالات وحدي من يصدقها، ويحدث أن يتشربها غيري بالسؤال، التفكير والتأمل. إلا أني اللحظة أبني طقوسي وأنا أقطع الطريق رائيا الأفق حيث تشق القوارب الماء صباحا بحثا عن مأدبة صيد رفيعة، أو مساء لما تقفل وقد ضجت الطيور مكسرة صمت الهواء مرسلة بريد نداءاتها إلى حصة فاضت بها الشباك.
أما والعياء يهد ما تبقى من الحياة، فإن لي انتحاء زاوية داخل مقهى (أكاد أقول إن أمكنتي داخل المقاهي غدت معروفة) أو السكون إلى عزلة في مكان لترتيب صمت مقدس. ثم أصغي إلى الحروف يتصادى رنينها على البياض. أحيانا تستوقفني كلمة، جملة، فأقف لأحذف. هذا الولع بالحذف، الاقتصاد (كلمة أمقتها) غدا يتلبسني بقوة في فائض الزمن الذي أعيشه وأعتاش عليه.
وأكتب مدونا ما حفظته في رأسي، وما طاش به الخيال من دون أن أكون تفكرته أو فكر في بالذات. وفي لحظة أحس كما لو أن كل شيء انتهى، وأن علي بدء دورة الطقوس من جديد: بياض، مشي وكتابة. وأعود. أعود وحيدا وقد فارقني هنالك: لربما على رصيف البحر أو في المقهى الذي أحلم بأن أكتب عن نادله ميمون التمسماني الذي رماه الغيب سهوا في السبعينيات إلى البريجة (اسم قديم لمدينة الجديدة)، فيما كان حلم مالقة يسكنه. ومن يومها ظل يحرص بالعد طيور البحر ولا يزور المسقط إلا لحلاقة ما تبقى من شعيرات في كتابه الفتوح على السماء.
لكم تغريني شخصيته بالكتابة. وكم تقصيت بحثا عن طقوس يجالس فيها الغريب ذاته ليشرع في بناء هذه الطقوس الجديدة. وأعود، أعود إنسانا سويا تماما.
بعد الظهيرة:
..وكما هو الولع بالحذف، السقوط في غرام الإعادة. أكتب وأعيد كما لو أن علي استعادة المنفلت، أو خياطة الثقوب ورتق البياضات. لا أعرف لم تتخيل الكتابة كخياطة. وككل ظهيرة أجالس الحاسوب لتسويد البياض الافتراضي.
في هذه المرة بالذات تبدأ الطقوس ثانية. طقوس محاورة العقل الإلكتروني. أكتب، ويقرأني. يتلقى، وأقرأه. قد يرفض، لينتصب تخلفي بحثا عن مفتاح حل.
لم يحدث أن كتبت مباشرة. ولم يحدث أن قرأت على الشاشة. هي متعة القلم كما أحس حرارة دفئها الآن. ومتعة القراءة في الكتاب. رؤية الورق. شم الرائحة. تقليب الصفحة. طي أرنبة الصفحة. التسطير على فقرات، جمل أو كلمة بذاتها. والتأمل البعيد. كم من كتب حلمت كما لو أنها لم تنته. وكم منها التي وددت أن لو كنت كاتبها. وكم التي أولعت شرارة تعبير سردي ظل مجهولا. هي القراءة ما يوقظ نار البدايات. هي استعاراتها نتلقاها ونعيدها عبر طقوس ولادة ثانية. يخيل لي أن أنطوني طابوكي وقد أنهى بناء شخصية «بيريرا يدعي»، قذف إلى نقاوة الهواء قوله البليغ: «كل الكتاب سارقو استعارات».
كلنا يبتكر طقوسه. يرتبها وفق إيقاعاته. وكلنا يعيد ما قرأه ذات زمن، الآن، لكن بصيغة أخرى.
هي الطقوس ذاتها:
يخرج تمام الثامنة كما لو أنه موظف. عفوا نسيت هو الآن موظف في مؤسسة الحرف. لم يعد الزمن يشغله كما كان. فقد ينسى كل الضوابط والشواغل مديرا لها ظهره. إلا أنه لم يكن لينسى طقس المشي على الرصيف، وإرسال نظرة إلى الماء، إلى الأفق البعيد وثم تستعاد دورة الطقوس.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.