تؤكد نتائج الدراسات الجينية والأثرية الحديثة، التي يقودها باحثون، وجود شبكة تواصل بشري قديم ومعقد بين شمال إفريقيا وشرق البحر الأبيض المتوسط، على مدى آلاف السنين، خصوصا في حقبة ما بين 7000 و5000 سنة قبل الميلاد. وتسهم هذه المعطيات في إعادة رسم خريطة الاستيطان البشري وتطور الحضارات في المنطقة، بما يعيد الاعتبار للمغرب كحلقة فاعلة ومركزية في التاريخ الإنساني. وفي هذا السياق صرحت الدكتورة عائشة أوجعا، الباحثة بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث بالرباط ل"رسالة24″، إن المعطيات الجينية الجديدة تعزز فرضية وجود تواصل بشري كثيف ومبكر بين مناطق شمال إفريقيا خاصة المغرب، ومناطق الهلال الخصيب مثل بلاد الشام، إلى جانب شبه الجزيرة الإيبيرية. وأوضحت أن نتائج أوضح وأكثر تفصيلا ستكشف عنها قريبا دراسة متقدمة تجريها طالبة متخصصة تركز على سكان موقع "الروازي" بمنطقة الصخيرات. وأشارت أوجعا إلى أن حركة بشرية مكثفة حدثت منذ نحو 7000 سنة قبل الميلاد، حيث انتقل الإنسان عبر مسافات واسعة محملا بمعارفه وأنماط عيشه، ليؤسس شبكة تواصل واسعة في حوض البحر الأبيض المتوسط. وأضافت أن هذه الحركة تعكس تفاعلا مستمرا بين الإنسان وبيئته، وتظهرها أدلة أثرية وجينية متعددة منها تغيرات واضحة في بنية الهيكل العظمي لسكان المنطقة في تلك الفترة، إذ أصبح الإنسان أكثر نحافة ودقة مقارنة بالعصور السابقة. وقالت إن هذا التغير لا يمكن تفسيره كتحول طبيعي محلي فقط بل يشير إلى اختلاط جيني مع مجموعات بشرية قادمة من خارج المنطقة، بما يعزز فرضية التبادل والتفاعل بين سكان شمال إفريقيا ومناطق أخرى من البحر المتوسط. وأكدت الباحثة أن دراسات جينية مقارنة على حفريات من العصر الحجري الحديث في تونس وليبيا ومصر والأردن ولبنان أظهرت تقاربا ملحوظا بين سكان هذه المناطق وسكان شمال إفريقيا، ما يعكس وجود شبكة بشرية وجينية مترابطة على نطاق واسع، داعمة بذلك الفرضيات المتعلقة بتبادل الحضارات في العصر القديم. وفي ما يتعلق بأصول الزراعة وتدجين الحيوانات، أوضحت أوجعا أن هذه المعارف نشأت فعليا في منطقة الهلال الخصيب بين نهري دجلة والفرات، وانتقلت لاحقا إلى الغرب حيث التقت بالمجتمعات المستقرة في المغرب. وأكدت أن الإنسان العاقل "Homo sapien"كان موجودا في المغرب منذ أكثر من 700 ألف سنة، وتطور محليا عبر عصور مختلفة وصولا إلى العصر الحجري الحديث، مستشهدة بمواقع مثل "الهرهورة 2" التي تبرز تطور الإنسان من العصر الحجري الأعلى إلى النيوليتي ما يؤكد الاستيطان المتواصل للمغرب عبر آلاف السنين. كما أشارت إلى أقدم دفن بشري موثق في المغرب، الذي تم اكتشافه في موقع "دار السلطان"، ويعود إلى ما بين 16 ألف و4500 سنة، مؤكدة أن الإنسان في تلك الفترات استقر قرب منابع المياه، سواء أنهارا أو بحيرات أو الساحل، واعتمد على الكهوف في البداية، ثم انتقل تدريجيًا إلى نمط العيش في العراء بعد تبني الزراعة وتدجين الحيوانات. أقدم الدفنات البشرية في المغرب ودلالاتها على نمط العيش القديم
من جانبه، يوضح عالم الآثار المغربي عبد الجليل بوزوكار في تصريح ل"رسالة24″ أيضا، أن موقع "الروازي" بالصخيرات يمثل نقطة مفصلية لفهم تاريخ الاستيطان البشري وتطور الزراعة في شمال إفريقيا. وأكد أن دراسة جينية نشرت في 2023 بمجلة "Nature"، والتي شملت تحليلات الحمض النووي لثلاثة هياكل بشرية من الموقع مؤرخة بحوالي 6400 سنة، سلطت الضوء على أبعاد جديدة لفهم تلك الحقبة. وخلافا لما تقترحه الدراسة من إدخال الزراعة إلى شمال إفريقيا عبر مجموعات بشرية من أيبيريا ومنطقة الشام في العصر الحجري الحديث، يرفض بوزوكار هذا الطرح جملة وتفصيلا، معتمدا على المعطيات الأثرية المحلية التي تثبت أن نمط العيش المستقر الذي مهد لتبني الزراعة وتدجين الحيوانات نشأ في المغرب منذ ما لا يقل عن 15 ألف سنة، كما تؤكد اكتشافات مغارة "تافوغالت"، مما يجعل شمال غرب إفريقيا أحد أقدم المناطق في العالم التي عرفت حياة استقرار دائمة. ويشير بوزوكار إلى أن الأدلة الأثرية في كهف "تحت الغار" قرب تطوان تدعم هذا الطرح، حيث تم العثور على مؤشرات لممارسة زراعة الحبوب تعود إلى حوالي 6300 سنة قبل الحاضر، وهي من أقدم الشواهد الزراعية في شمال إفريقيا وربما في حوض المتوسط بأكمله. ويؤكد التحليل الجيني لموقع "الروازي" وجود تشابه كبير مع مجموعات رعوية كانت تسكن الصحراء الكبرى، كما تظهر الخزفيات المستخرجة من الموقع سمات فنية وثقافية ترتبط بتقاليد تلك المناطق، مما يشير إلى وجود تواصل طويل الأمد بين هذه الفضاءات الجغرافية والثقافية. وتطرق بوزوكار إلى الجدل العلمي القائم حول التشابه الجيني بين سكان موقع "الروازي" و"إنسان النويرات" المصري القديم، موضحا أن المقارنة يجب أن تؤخذ ضمن سياق علمي دقيق لا سيما مع اختلاف حجم العينات، حيث حلل الباحثون ثلاث هياكل من المغرب مقابل هيكل واحد فقط من مصر يعود إلى حوالي 4600 سنة. وأشار إلى أن فحص الجينوم الكامل والميتوكوندريا أظهر أن موقع "الروازي" أقدم زمنيا، مع تطابق جيني بنسبة 80 بالمائة مع إنسان النويرات، مقابل 20 بالمائة من السمات الجينية القادمة من بلاد الرافدين، التي تعود إلى ما بين 9000 و8000 سنة قبل الميلاد. ويعتبر بوزوكار أن هذه النتائج تدحض فكرة استيراد الحضارة فقط، وتبرز وجود موجات هجرة قديمة انطلقت من غرب شمال إفريقيا نحو الشرق، وأن معطيات مغارة "تافوغالت" تظهر تشابها جينيا يصل إلى 65 بالمائة بين سكان المغرب ومنطقة الشام، مما يؤكد أن البحر المتوسط كان فضاء مفتوحا أمام تنقلات بشرية كثيفة ومبكرة. وأضاف أن الصحراء الكبرى كانت مساحة نشطة للهجرات والتبادل البشري، وليست مجرد حاجز طبيعي، حيث شملت الحركات السكانية اتجاهات متعددة ومتنوعة، متأثرة بالتغيرات المناخية، خاصة خلال فترات الجفاف التي أعقبت نهاية الفترة الرطبة الكبرى قبل نحو 5500 سنة. وختم بوزوكار تحليله بالتأكيد على أن شمال إفريقيا لم تكن نقطة عبور هامشية في تاريخ الإنسانية، بل فضاء مركزيا فاعلا، أسهم بشكل واضح في التراكم الحضاري والثقافي العالمي، وأن التمازج البشري والثقافي الذي عرفته المنطقة كان جوهريا في تطور الحضارات المبكرة، مما يستوجب إعادة النظر في السرديات التاريخية العالمية التي تناولت تلك الحقبة.