شكل خروج إذاعات خاصة إلى حيز الوجود في المغرب، انعطافا في المشهد الإعلامي الذي عرف احتكار الدولة لعهد طويل. وفيما علق الديمقراطيون آمالا على التجارب في تحقيق انفراج، يصالح المستمع مع قنوات وإذاعات ويشكل منبرا يجسد القرب، يبدو أن بعضها دخل في مسلسل مكشوف لإعادة إنتاج نفس الخط البائد لقنوات القطب العمومي المتجمد وإن ببهارات لا تنطلي على المستمع الذي يميز بين إذاعة مواطنة هدفها الإنصات لنبض المواطن وإيصال صوته دون تعتيم ولا مواربة ولا إسفاف للذوق العام ولا تهريب للنقاش الحقيقي إلى مناطق ظل يتم فيها تبرئة الدولة وصفها المخزني والاقتصادي في وقت تتعاظم فيه مطالب الشعب وتتعقد. هل نحن إزاء مؤسسات إعلامية تسعى إلى الربح وإلى التغرير وإيهام المستمع بأنها تمارس وظيفتها في الإخبار والتحسيس وإيصال الصوت؟ أم علنا أمام مؤسسات مفتقدة للمشروعية، اعتبارا لكون مؤسسيها تربوا وترعرعوا في حضن المخزن، وظلوا لسنوات يلهجون بصوته ؟ فقد لقننا التاريخ أن أي سلطة كانت، لها أعوان ومؤيدون ومساندون ومريدون، وهناك أيضا عشاق للسلطة، لا يهنأ لهم عيش إلا بقربها والاسترخاء تحت ظلها، حيث لا تجهد نفسها بالبحث عن طامعين في رضاها، وأيضا من يخدمها بطرق كثيرة وبوسائل مختلفة. كما أن التاريخ أبرز خاصية أخرى في قيام المخزن بعقد تحالفات، بما يشبه الشراكة مع بعض القطاعات المهيمنة في المجتمع، لها تأثير كبير عليه وهو يوازي الدور السلطوي الذي يقوم به المخزن. فبعد استقطاب هذا الأخير لأصحاب سلطة رجال المال ورجال الدين، فإن بوصلة السلطة انزاحت هذه المرة على تشكيل داعم جديد بخلق بعض الإذاعات الخاصة، تكون تابعة لها وسط زخم كبير من الترخيصات التي منحتها لبعض الأسماء النزيهة التي وجدت نفسها وسط إذاعات خاصة أخرى، من أجل الترويج والدعاية للمخطط المخزني، باعتبار الدور الكبير في التأثير على الرأي العام وتسييره. لهذا نجد أن السلطة تسعىلتلبيةرغبات بعض مدراء الإذاعات الخاصة المحسوبة عليه، بطريقة غير مباشرة وعملت على استقطاب أخرى. لكنها أخفقت في استقطاب مدراء إذاعات خاصة أخرى بعد أن عملت على تسويق منتوجها الإذاعي باستقلالية، وعملت على الاكتفاء الذاتي بجلب الإشهار، وهو مبدأ الاستقلالية الحقيقي الأول. إننا أمام مشهد إعلامي إذاعي يحتم علينا طرح استنتاجات حول علاقة بعض مديري الإذاعات الخاصة، ممن نموا في حضن المخزن، وكانوا من أبواقه بالأمس القريب، بمدبري الشأن الإعلامي والإشهاري بالمغرب، التي هي علاقة ملتبسة يحكمها التواطؤ المستور، للاستمرار في نزيف يسمى دعم الرداءة وعدم احترام إنسانية الصحفي. وبالتالي، فإننا سنحصل على صورة واحدة لتلك الأسماء التي أصبحت بين ليلة وضحاها تملك إذاعات من لا شيء، بدعم من المخزن الذي يرد الدين لهؤلاء الذين كانوا ينتمون إلى زمن الريع، واليوم ينهجون إلى نوع من السعاية المبطنة دون الاصطدام مع السلطة، التي عوض أن تسحبها هذه الإذاعات ( الخاصة والمستقلة) إلى كشف نواقصها لصالح المواطن، كان العكس هو الحاصل في هذه المعادلة، إذ أصبحت السلطة (المخزن) الجديد، هو من يجرها نحو سياسته لتمريرها عبر الأثير بنحو بالغ في النقاوة الأثيرية. شكلت البدايات الأولى لمنابر إذاعية طفرة من حيث الحدة وطرق بعض المواضيع، وهي بالتحديد لم تكن إلا دهشة البداية التي حاول من خلالها مؤسسوها جلب مستمعين من خلال إعطاء الصوت لهم للتفريج عن المآسي، حيث تحولت هذه القنوات إلى منابر لعرض المآسي والمشاكل دون طرق باب المسؤولين الحقيقيين عن مآل الأوضاع، بل إن بعض هذه الإذاعات انخرطت في موجة تعتيم حقيقي وهروب من تحديد المسؤوليات، فإذا كانت وظيفتها عرض الرأي والرأي الآخر، فإننا لا نجدها تلعب هذا الدور وإن كانت تتبجح به، لتنخرط نهائيا في خط تمييعي للذوق العام يقوي من برامج التنويع والترفيه والمنوعات والإهداءات على حساب البرامج الثقافية وتبرز صوت المواطن والمسؤول في آن واحد. هل نحن فعلا أمام إذاعات خاصة (مستقلة) عن صنابير المخزن الاقتصادي ولوبياته التي تتحكم في الإشهار وفي رسم خط تحريري لهذه الإذاعات؟ وماذا منحهم الوطن؟ وماذا منحوا هم لهذا الوطن؟.