يُشبِه بورخيس "كتاب رَمل". فشخصيتُه اللّانهائية تُناظِرُ شخصيةَ الكِتاب في تلك القِصَّة اللُّغز. بورخيس يَقِفُ على أرض مَتاهية مِن الأفكار والقراءات والكِتابات والنصوص، التي تتوالى صَفحاتُها وتتحوَّلُ، في حيِّز لا يَنضبِط لِزمَن أو مَكان. إنها ميثولوجيا بكاملها أسَّسَها بورخيس، فيما وراء ذلك الغَسَق الشخصي، الذي غارتْ فيه أقدامُه بغير قليل مِن الهُزء والكِبرياء. ولم تكن متاهة الكتابة إلا الامتداد الضوئي لذلك الغسق، الذي عَرف بورخيس، في ليل عُزلته الوجودية، كيف يَخترقُه ببُروقه و اِنفجاراتِه الداخلية. وقدْ تهيَّأ لبورخيس، في هذا الليل العريق، خبرة تحويل الكلمات إلى "كائنات" سحرية، تُلَمِّح إلى مكان وجود "خيط أريان" دون أن تُسعِفنا به تماما. وفي هذا التلميح، يُحَوِّلُ بورخيس هُزءَه إلى قوة عَمَل تتغذَّى على كل شيء (مهما بدا نافلا )، لا لِتسْخَرَ فقط، بل لِتوقِظَ الحُلمَ كذلك. بورخيس لمْ يَكتبْ فقط، بَلْ تكلَّمَ أيضا. بَلْ إنَّ غَسقَهُ الشخصي بَلبلَ الأوضاعَ الاعتبارية للكلام والكتابة، وأسَّسَ هجانة أًصيلة يُمكِن أن نَنْعَتَها بالكلام المَكتوب. لقدْ كان بورخيس يُملي هذا النوعَ من الكلام، المَكتوبِ في ألواحه الداخية، بكثير من الدقة والإثقان. وكانت تحولاتُ هذا الكلام خاضِعةً لكيمياء بورخيس، ولتجربته الطويلة في مُراودة اللغة وإطلاق طاقاتها السِّحرية. آمَنَ بورخيس دائما بأن الكلمات نشأتْ مِن ولادةٍ سِحرية في فضاءات الطبيعة والمُجتمع، وراهنَ على أنْ يُؤمِّن لها هذه الخاصية، في انبعاثٍ يَغتبطُ بِاقتناصِ العَجيب، الذي يُشيع الدَّهشة في وجودٍ إنساني هَش. كلماتُ بورخيس تنبثِقُ فوَّارةً بهذه الميتافيزيقا، التي تعادِلُ بناءَ أرضٍ رمزيَّةٍ طافحة بالسر والرغبة المحمومة في اختراقه، بإيجاد ثغرة صغيرة في جدران المتاهة. بورخيس مُنجِّمُ أدبي كبير. ظِلالٌ وارفة مِن تنجيمِه، تنتشِرُ في تأمُّلاته التي تبدو بلا ضفاف. إن أدَبَه يَنطوي على هَدْمٍ مُبهِج لِلحدود، لإرساء مَعالِم كتابة يتداخلُ فيها السَّردي والفلسفي والتأمُّلي في تناغم، يَجعلُ لِلحقيقة مَدْخلا آخر نحو الجَوهري. إن اختلاقَ بورخيس الأدبي، المُستفيدَ مِن تَبَحُّر ثقافي مَوسُوعِيٍّ، مُولَعٍ بالتفاصيل، يبقى وفِيّا لِحُلم الفراشة: التحويمُ في مَدارات ثقافية ووُجودية وامِضة، تَنفلتُ فيها الحُدودُ الفاصلة بين الواقع والحُلم، بين الوَجه والمِرآة، بين التاريخ والأبدية. الكلامُ البورخيسِيُّ يؤسٍّس نظامَ كتابته على أرض هذا الانفلات الخلاق، الذي أصبحَ علامة مَرَحٍ وطِراز تفكيرٍ في الأدب الانساني. نحن "لسنا في بيتِنا تماما". هذا ما آمَن به بورخيس دائما. لذلك فالأدب يُجسِّدُ لديه، في العُمق، مُغامَرة عَودة. إن "آدمَ الأدب"، إذا صَحَّتْ مثل هذه الأبُوَّة، مَشى على الأرض مأخوذا بهذا الحنين. الفِردَوسُ وراءَنا وأحفاد آدم الأدبيين لا يَكفُّون عَنِ الالتفاتِ إلى ذلك المَكان المأهول بالبراءة والدِّفء والحُلم. عوليس (وليس السندباد)، برأي بورخيس، هو أحد الأبطال الأساسيين لهذه النوستالجيا الأدبية، التي لها، في أرض الأدب، ذرية كاملة مِن الأحفاد. بل لقدْ رُسِمَتْ هذه النوستالجيا كما غَذَّت الالهام الموسيقي والشعري على امتداد تاريخ الفن. العودة، عند بورخيس (واحدٌ من هؤلاء الأحفاد)، اِقترنتْ دائما بالعثور على طريق الخلاص في هذه المتاهة. وقدْ كانت خطواته الهيّابة تقودُه ببطء، في تلك الطرق المُتشعِّبة، التي عاد منها بما يتجاوز "ثلاثة أسطر" ملحمية، كما كان يأمُل تواضعه الماكِر. إنَّ تواضُعا رواقيا، كان يَقودُ بورخيس في طريق الكتابة، بما هي استجلاءٌ بطيءٌ، مُتردِّدٌ لِمَسالك المتاهة. بورخيس يَتحرَّر مِن أعباء الذات والتاريخ لأجلِ كتابتهما على نحو مُختلف، في لحظة أدبية تتجاوز نفسها باستمرار. التاريخ يَسجُن الرؤى ويَجعَل لِخيال الكاتب أو المُحلِّل حُدودا مُصطَنعة. إن الجَمال يَحدثُ باستمرار مع كل تماس مع أشياء الأدب. لذلك لابُد، برأي بورخيس، من التحرر من "حِسِّنا التاريخي" والانتقال من لحظة توقير الأعمال الكلاسيكية، إلى لحظة بناء علاقات ثقافية حُرّة وكاشِفة. إيقاظُ الجَمال، حُلمُ الفراشة الغافي، هو الأكثر أهمية في قراءة الأعمال، بِغَضِّ النظر عَن ظروفها التاريخية، وسِيَر مُؤلفيها. هذا هو الأمل الذي كان يُحرِّك بورخيس قارئا وكاتبا في آن. مِن التاريخ الى الأدب، يَقودُ بورخيس قِراءَته المُستنيرة. إنه غوّاصٌ يَهبط أحيانا أعماقا غير مَطروقة، لِلبحث عن بقايا قصائد وأشلاء استعارات، سامِحا لنفسه بِتذوُّق مَقاطع وصور وتراكيب، يَلوكُها بالتذاذ مِثلما يَلوك حكيمٌ هنديٌّ أعشابا مُبهِجة. ويَقتسِم بورخيس هذه اللذة مع مُخاطَب مُتواطِئ يُدرِك قيمةَ التلميحات البورخيسية، ودورَها في بلورة ذائقة أدبية جديدة. وعبر نوع من التطواف الوثني في متاهة الأدب المترامية، يَجهد بورخيس ليبني نمذجة كونية لقصص التخييل المَلحمي والروائي، وللإستعارات النمطية المتدثرة خلف أنماط مِن الصوغ والحيل الأدبية، التي تتكشف بقليل من إمعان النظر. إنه بورخيس "الشفوي"، ذلك "الرجل غير المرئي"، الذي أنقذ مهنة الأدب مِن أولئك "الفلكيين الذين لم ينظروا قط إلى النجوم". نبيل منصر