قلت لعلم بلادي، وقد خر صريعا في قلب يتيمة المدائن، أمام مبنى عمالة اليوسفية، ماذا دهاك حتى سقطت هذا السقوط المدوي، وأنا الذي ألفتك سامقا، شامخا، مرفرفا، ترفل في حمرتك المضمخة بالخضرة، كأنما أنت جبل يأبى أن يتزحزح عن أنفته، أو يفرط فيها قيد أنملة، وواصلت مرددا: مرت على البلد زخات وأمطار وعراصف وأيام سود شداد لم تنل منك شيئا، واليوم انهزمت أمام ريح ليست بصرصر وليست بعاتية، فأي عار هذا الذي جلبته ليتيمة المدائن ولأبناء يتيمة المدائن؟....وأنا مسترسل في تقريعي، قاطعني علم بلادي قائلا: لا تلوموا الرياح، ولا تأخذوا بناصيتها، ولا تلوموني، ولوموا أنفسكم على ما فرطتم في جنبي، وأنا الذي أختزل الوطن والكرامة والسيادة، ربما لن تفهم كلامي، ولذا سأوضح لك أكثر: لقد عاهدت نفسي ألا أرفرف إلا على أنغام السؤدد والكرامة، وألا أنتصب واقفا إلا على وقع الاحتفال بتحقيق التنمية والانتصار على التهميش والإقصاء، وأنا نصبوني هنا لأكون شاهدا على محرقة مدينة يراد لها أن تكون أسفل سافلين، وعلى مصيبة أبناء وطن جفت دموعهم من البكاء أسى وتحسرا على واقعها وواقعهم، دون أن يحفل بهم أحد، طالما لطمت خدي مع اللاطمين، وسكبت عبرات حب وأدوه، حسبوا حركاتي ضربا من الجنون، فلم يعيروني أدنى اهتمام، توقفت عن الحركة مرارا وتكرارا، عسى أن يحرك صمتي وسكوني ضمائرهم، فلم يلتفت إلي أحد، تعاقبوا على المرور من أمامي، وكولسوا غير بعيد عني، ولم يرقبوا في إلا ولا ذمة، حولوا هذا الجزء من وطني إلى رقعة شطرنج يتبادلون أدوار لعبها، دون أن تأخذهم عزة الإثم بالإساءة إلي، وأنا أرقب وقاحتهم صباح مساء، فعلام أرفرف، ولم أستمر واقفا، وكيف لي أن أقبل أن أكون شاهد زور أنطق بعكس ما في الواقع؟؟؟، اخترت هذا الوطن واختارني عن حب وطواعية فلماذا أخونه فوق هذه الرقعة المقدسة، وأتخلى عن مثاليتي لسواد عيونهم...؟؟؟، آثرت السقوط لأنني لم أتحمل نفاقهم، ولأنني أريدها صرخة مدوية ونعيا بموت مدينة يوهمونكم أنها مدينة مشاريع كبرى، في الوقت الذي تحتضر فيه في صمت مريب، نعم سقوطي استباق بإعلان الوفاة، وأرجو أن يمتلكوا الشجاعة ويبلغوا الرسالة إلى الناس أجمعين، ويعترفوا بما جنوا في حقها وبما اقترفت أيديهم الآثمة في حفل التأمين إن كتب له أن يقام...، سقوط العلم في ساحة المعركة دليل الهزيمة سيدي، وأنا أعلن بسقوطي هزيمتهم المدوية وإخفاقهم المبين في علاج داء الإقصاء العضال الذي تعاني منهم يتيمتكم، وانتهاء مفعول المسكنات التي ما فتئوا يرتقون بها نفوسكم المكلومة. اغرورقت عيناي، وانحنيت محتضنا علم بلادي ومقبلا إياه على روحه الوطنية العالية، وحبه الذي أودى بقيامه وسموقه، وتذكرت حينها قول الشاعر العربي: فما عجبي موت المحبين في الهوى...... ولكن بقاء العاشقين عجيب وقلت له مودعا: سيودعونك حبيبي في مستودع المستعملات، وستحاصر بين أربعة جدران بنوافذ محكمة الإغلاق تأديبا لك على جسارتك، لن تجد هواء، ولا ريحا، وستقضي بقية عمرك في عقوبة حبسية لا يعلم إلا الله متى ستنتهي، فتبسم ضاحكا من قولي وهو يردد: "رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه".