أخنوش يتباحث مع رئيس الحكومة اللبنانية    "حماة المال العام" يستنكرون التضييق على نشاطهم الفاضح للفساد ويطالبون بمحاسبة المفسدين    أسعار الفائدة على القروض ترتفع خلال الفصل الأول من سنة 2024    هلال: دبلوماسية الجزائر تعاني متلازمة التقزم    ذكرى تأسيس الأمن الوطني.. 68 سنة من الحفاظ على النظام العام وحماية المواطنين    هذه العوامل ترفع خطر الإصابة بهشاشة العظام    ارتفاع الودائع البنكية إلى 1.177,8 مليار درهم عند متم مارس الماضي    اعتبروا الحوار "فاشلا".. موظفون بالجماعات الترابية يطالبون بإحداث وزارة خاصة    تصفيات مونديال 2026: الحكم المغربي سمير الكزاز يقود مباراة السنغال وموريتانيا    بعثة نهضة بركان تطير إلى مصر لمواجهة الزمالك    كأس العرش.. مولودية وجدة يضرب موعدًا لمواجهة الرجاء في النصف النهائي    إيقاف مسؤول بفريق نسوي لكرة القدم ثلاث سنوات بسبب ابتزازه لاعباته    إطلاق مجموعة قمصان جديدة لشركة "أديداس" العالمية تحمل اللمسة المغربية    باحثون يعددون دور الدبلوماسية الأكاديمية في إسناد مغربية الصحراء    شرطي يشهر سلاحه على سائق سيارة بطنجة والأمن يدخل على الخط ويوضح    سفارة المغرب ببانكوك توضح بخصوص وضعية المغاربة المحتجزين بميانمار    انطلاق القافلة الثقافية والرياضية لفائدة نزلاء بعض المؤسسات السجنية بجهة طنجة تطوان الحسيمة من داخل السجن المحلي بواد لاو    مصرع شخصين في انقلاب شاحنة بتيفلت    الموت يغيب عميد الطرب الغرناطي أحمد بيرو    السعودية تطلق هوية رقمية للقادمين بتأشيرة الحج    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    قافلة GO سياحة تحط رحالها بجهة العيون – الساقية الحمراء    مانشستر سيتي يهدد مشاركة جيرونا التاريخية في دوري الأبطال    مربو الماشية يؤكدون أن الزيادة في أثمنة الأضاحي حتمية ولا مفر منها    يوفنتوس يتوّج بلقب كأس إيطاليا للمرّة 15 في تاريخه    مطالب لوزارة التربية الوطنية بالتدخل لإنقاذ حياة أستاذ مضرب عن الطعام منذ 10 أيام    المغربي محمد وسيل ينجح في تسلق أصعب جبل تقنيا في سلوفينيا    "أديداس" تطلق قمصانا جديدة بلمسة مغربية    ظاهرة "أسامة المسلم": الجذور والخلفيات...    الاستعادة الخلدونية    رسالة اليمامة لقمة المنامة    صعود أسعار النفط بفضل قوة الطلب وبيانات التضخم الأمريكية    العسري يدخل على خط حملة "تزوجني بدون صداق"    وزارة "الحج والعمرة السعودية" توفر 15 دليلًا توعويًا ب16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    طقس الخميس حار نسبيا مع تشكل سحب وكتل ضبابية    كلاب ضالة تفترس حيوانات وتهدد سلامة السكان بتطوان    من أجل خارطة طريق لهندسة الثقافة بالمغرب    أشجار عتيقة تكشف السر الذي جعل العام الماضي هو الأشد حرارة منذ 2000 عام    هنية: إصرار إسرائيل على عملية رفح يضع المفاوضات في مصير مجهول    مدريد في ورطة بسبب الإمارات والجزائر    نسخة جديدة من برنامج الذكاء الاصطناعي لحل المعادلات الرياضية والتفاعل مع مشاعر البشر    أكاديمية المملكة تُسائل معايير تصنيف الأدباء الأفارقة وتُكرم المؤرخ "هامباتي با"    منتدى عربي أوروبي لمكافحة الكراهية    محكي الطفولة يغري روائيين مغاربة    زيلنسكي يلغي زياراته الخارجية وبوتين يؤكد أن التقدم الروسي يسير كما هو مخطط له    المشروع العملاق بالصحراء المغربية يرى النور قريبا    زعيم المعارضة في إسرائيل: عودة الرهائن أهم من شن عملية في رفح    "تسريب أسرار".. تفاصيل إقالة وزير الدفاع الروسي    الأمم المتحدة تفتح التحقيق في مقتل أول موظف دولي    قطر تستضيف النسخ الثلاث من بطولة كأس العرب لسنوات 2025 و2029 و 2033    ما حاجة البشرية للقرآن في عصر التحولات؟    إلزامية تحرير الجماعات الترابية من « أشرار السياسة »    النقابة الوطنية للتعليم fdt وضوح وشجاعة لاستشراف المستقبل    "الصحة العالمية": أمراض القلب والأوعية الدموية تقتل 10 آلاف شخص يوميا في أوروبا    جمعية علمية تحذر من العواقب الصحية الوخيمة لقلة النوم    دراسة: الحر يؤدي إلى 150 ألف وفاة سنويا على مستوى العالم    السعودية: لاحج بلا تصريح وستطبق الأنظمة بحزم في حق المخالفين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تمجيد اللبس
نشر في العلم يوم 14 - 05 - 2009

في هذا العدد، لا تخطئ العين الفاحصة لمسات وبصمات الناقد خالد بلقاسم (رئيس تحرير المجلة) من حيث طبيعة لغته النقدية التي تمتح من الحقلين الصوفي والفلسفي، ومن حيث اختياراته التي تؤاخي بين الشعر والفكر. ورد في مقدمة العدد أن الحاجة للشعر كالحاجة إلى الفكر. «إنها ضرورة وجودية... وصون هذه الضرورة وتأمين حيويتها تحد متجدد، يقتضي دوما بناء الوعي بهذه الضرورة من موقع مفتوح، وإيقاظ الإحساس بالحاحها، والسعي لتحويلها إلى اشتغال يومي وفي زمن ينبذ الشعر والفكر ويرسخ وهم انتسابهما إلى منطقة الفائض، أو منطقة الملحق والثانوي والهامشي، زمن بوجه تقني، أضحت مفهومات ملساء عديدة تخترق الثقافة الحديثة، وتوجهها بمنأى عن المناعة الفكرية؛ «وتكمن خطورة هذا الاختراق في كونه ينزع بمباركة تكنولوجية، قيمه على حساب مفهومات ذات سلالة شعرية وفكرية باذخة. لهذا «فثمة تمجيد للسطحي ? لا بمعناه الفلسفي الذي يماهيه بالعمق كما لدى بعض المفكرين- وتمجيد للسريع والنفعي.... وهناك نزوع لاستبدال الضحالة بالعمق» يبقى الشعر انطلاقا من مادته الأساس أي اللغة، وبناء على ما تنطوي عليه معرفته، هو موقع لتخصيب الفكر وحماية السؤال.
في الحوار الممتع استدرج كل من حسن نجمي وبلقاسم عبد الفتاح كيليطو للحديث عن زمن البدايات عن الشعر والقراءات وعن المسار التعليمي والأكاديمي وتمفصلات المشروع القرائي عند كيليطو.
جاء في المقدمة التي وضعها المحاوران للحوار أن عبد الفتاح كيليطو «اسم مضيء في المشهد النقدي العربي المعاصر، من خلال إرسائه لآليات جديدة في القراءة. تأسست على مفهوم أساسي في التعامل مع المقروء. وهو مفهوم الإبعاد. إبعاد القراءة عن كل ما يمكن أن يحد من لانهائيتها». وتم التركيز على أن قيمة كيليطو لا تتحدد في وضعيته في المشهد النقدي العربي المعاصر، وحسب، وإنما، من وضعيته في تاريخ القراءة، فنادرون هم الكتاب الذين تدمجهم القراءة في تاريخها»؛ وفي نظري فكوكبة النقاد المبدعين التي ينتمي لها كيلطو تشمل نجوما لامعة في سماء النقد نذكر منها باشلار، وجون بير رتيشار، ورولان بارت، وطودوروف، وبورخيس... وبالرغم من شجرة أنسابه المتشعبة، فقد تمكن كيليطو من أن يؤسس لذاته هوية مختلفة «فلا نعثر له على شبيه».
يجعلنا كيليطو الذي انتبه أحد الالمعيين على أن اسمه يشير إلى الذي يقرأ باكرا كما جاء في الحوار qui lit tôt، ويمكننا أن نقرأ اسمه بطريقة أخرى، ونقول الذي يقرأ كل شيء qui lit-tout ... يجعلنا «ننتبه إلى حيرة خبت فينا، ونعثر على الغرابة نائمة في الألفة وعلى الأسرار محجوبة في العادة. مع كيليطو يكف الجزئي عن أن يبقى جزئيا. فهو يمكن النصوص من بوحها الخاص معولا على المباغتة والإدهاش والالذاذ.
يصعب اختزال الأفكار التي تضمنها الحوار؛ الذي جاء على شكل حكاية؛ ف كيليطو وهو يكتب أو يتحدث لا يغادر الحكاية؛ وقد قدم لنا الحوار صورة شخصية له «بورتريه» رسم بعناية؛ يعكس هدوءه. وصدقه الذي جعل المحاورين يرتابان ويلتبس الأمر عليهما لدرجة أنهما أثناء الحوار عثرا على عنوان له وهو «تمجيد اللبس». ويعكس أيضا قدرته الخارقة على التأمل واقتناص الغرابة من المألوف والعادي.
قدم كيليطو نفسه في بداية الحوار طفلا عاش وسط كتب جده على غرار طودوروف الذي عاش وسط مكتبة وقد سبق لبورخيص في سيرته أن تحدث عن طفولته وسط الكتب. في الكتاب لاحظ غياب الكتب لتحضر فقط القراءة والحفظ، أما في المدرسة العصرية لاحظ في درس الفرنسية الصور على الجدران، فارتبطت لديه الصورة باللغة الفرنسية. وارتبط لديه الشعر بالمحفوظات. فالشعر الذي يصاحبنا هو الذي نحفظه عن ظهر قلب، هو الأبيات التي تسكننا , وتساءل كيليطو إذا ما كان الشعراء المعاصرون يحفظون أم لا؟ في الثانوية اكتشف عالم الأدب من خلال لقائه الحاسم مع المنفلوطي. فلقاء كيليطو بالأدب العربي والأدب الأوربي كان عبر المنفلوطي الذي ترجم عن الفرنسية دون أن يعرفها. يشير كيليطو إلى أن العقوبة بكتابة نص مرات عديدة بالفرنسية كان لها دور كبير في تعلم الفرنسية لأنه كان لا يغش. وقد تعلم الفرنسية في الخزانة الأمريكية عن طريق ترجمات لكتب أمريكية وانجليزية. كان يود متابعة تعليمه في الجامعة بالألمانية غير أن الألمانية لم تكن تدرس بالكلية. فاختار الفرنسية لأنه كان يعتقد أنه يتقن العربية لكن أثناء سنوات الإجازة صدم صدمة غيرت وهم تمكنه من العربية والفرنسية
معا، فقد كان يحصل على نقاط ضعيفة جدا وكان ينجح بأعجوبة. بعد الإجازة قرر العودة إلى دراسة اللغة العربية فسجل نفسه في «شهادة الأدب المقارن» وهي شهادة صعبة للغاية، من موادها النحو والعروض والنقد القديم والفلسفة، كان يدرسهم في مادة النقد القديم الأستاذ المرحوم امجد الطرابلسي وهو من العلماء الكبار بالعربية «كان ينطلق في دروسه من مطالبتنا بقراءة جهرية للنصوص المدروسة ليقوم أخطاءنا اللغوية. ومع أننا كنا حاصلين على الإجازة، فغالبا ما كان يصحح لنا أكثر من خطأ أثناء قراءة كل سطر» هكذا تبخر أيضا وهم كيليطو بمعرفته اللغة العربية، وما تعلمه كيليطو خلال هذه الدروس هو التواضع. أنجز دبلوم الدراسات العليا حول موضوعة القدر في روايات فرانسوا مورياك لكنه يبدو أنه غير مقتنع بما قدم خصوصا بعد قراءته لبارت وطودوروف وجنيت الذين مكنوه بعد فوات الأوان من اكتشاف طرق جديدة في القراءة. استمع كيليطو لمحاضرة ألقاها رولان بارت بجامعة محمد الخامس بالرباط في بداية السبعينيات ولم يستطع أن يفهم حرفا من كلام بارت. فتخيل آنذاك أنه لن يستطيع أبدا أن يستوعب النقد الحديث. لم يتحرر من هذه العقدة إلا بعد أن بدأ يدرس في شعبته
الفرنسية باعتباره أستاذا مساعدا، ويشير كيليطو إلى أن إدخال المناهج الحديثة للجامعة المغربية لم يتم من قبل الأساتذة وإنما من قبل الطلبة «في شعبة الفرنسية» الذين ألزموا الأساتذة بتدريس المناهج الحديثة ، ناقش كيليطو أطروحة الدكتوراه حول المقامات تحت إشراف محمد اركون بفرنسا. بعد إنهائه مساره الاكاديمي ألحت عليه الكتابة، أول نص نقدي احتفظ به يعود إلى سنة 1975 بعنوان مقدمة لدراسة المقامات نشر في STUDIO ISLAMIKA ثم نشر مقالات أخرى في مجلة آفاق عام 1976. أول كتاب له هو «الأدب والغرابة» ويعود فضل إنجازه إلى الحاح محمد برادة عليه ويرى كيليطو أن أجمل ما في هذا الكتاب هو عنوانه لأنه اكتشفه لوحده. فيما باقي عناوينه الأخرى كانت بتواطؤ مع عبد السلام بنعبد العالي، وعبد الكبير الشرقاوي، وعبد الجليل ناظم. هذا الكتاب أصبح اليوم مقررا في المدرسة، و كيليطو يبدي انزعاجه من الكتب المقررة لأنها تصبح مكروهة. وينفر منها المتعلم فقط لأنها جزء من المقرر. ويظهر أن كيليطو يتنكر لهذا الكتاب فهو يقول «لا يمكنني اليوم أن أكتب مثل هذا الكتاب، فهو ينطوي على أشياء لم أعد أفهمها».
كيليطو قارئ للروايات والنصوص السردية وقد ساعدته هذه القراءات في طريقة تناوله لما يدرس، ولديه طريقة في القراءة تتلخص في إمكانية الكتابة عن كتاب دون أن تقرأه كله، فهو حين قرأ المعري والجاحظ ينتبه لسطر أو سطرين أو بيت أو فقرتين ويكفيه هذا للكتابة. وقد تجلى ذلك في القراءة المتأنية العميقة لبيتي أبي تمام المشهورين «نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ، ما الحب إلا للحبيب الأول». وبالمناسبة فقد أعطيت البيتين لطلبتي في المركز التربوي الجهوي فتوصلوا تقريبا للنتائج نفسها لكن بطريقة متفرقة. وقلت في نفسي ان كيليطو يفكر بطريقة عقل جمعي فهو يجمع ما تفرق في غيره. ومن هنا قوة تركيزه وعمق تأملاته.
عرف كيليطو باشتغاله على السرد العربي القديم ولم يهتم بالشعر إلا لماما لكن لو طلب منه أن ينجز أنطولوجيا للشعر العربي فإنه سيقتصر فيها فقط على العظماء والكبار سيبدأ بلامية العرب للشنفرى. ومعلقة امرئ القيس، وقصيدة أبي نواس التي يصف فيها صورة كسرى على كؤوس الخمرة، وسيختار بيتي أبي تمام «وطول مقام المرء في الحي مخلق... لديباجته فاغترب تتجدد». وسيختار المتنبي لأن كل ما قاله جيد، وسيختار أشعار المعري.
في نهاية الحوار أثارتني فكرة حول الصداقة حينما سئل عن الصداقات التي يعتز بها فقال: «عموما عندما يتقدم الإنسان في السن، يغدو إيقاع يومه سريعا، وتنقضي الأيام بعجلة لافتة خلاف الشباب. الملل مرتبط بالشباب، ومع تقدم السن يمحي الإحساس به أو يضعف... وما يبقى لا يتعدى علاقات عابرة مع أشخاص نحبهم ويحبوننا أتذكر قولا مشهورا لأرسطو: «يا أصدقائي ليس هناك أصدقاء» إن الدرس الذي استفدته من هذا الحوار الشيق هو أن التفرد والإبداع في القراءة يستلزم إبعاد أوهام المعرفة والاعتكاف على القراءة بدربة ومراس. لا مكان لموهبة مزعومة تغذيها أوهام أحكام قارة وثابتة.
في الباب الثاني من المجلة الموسوم «أراض شعرية» تلاقت مجموعة من الأسماء من اليونان الشاعر «ميلتاتوكا كاراشاليو» بقصيدة تحت عنوان «اللبس الأقصى للون» ومن إيطاليا دوناتيلابزوتي (شجرة الكلام) ترجمها عن الإيطالية المترجم المقتدر الرداد الشراطي، ومن البرتغال كازيمورذي بريطو (قصائد) ترجمها عن الفرنسية الرداد الشراطي ومن سوريا نوري الجراح (ايقاع بالسرد) ومن ليبيا مفتاح العمري (نساء النثر) ومن فلسطين جهاد هديب (غرباء) ومن السعودية أحمد الملا (أغنية) ومن المغرب كل من لطيفة المسكيني (برازخ الاعراف) ومحمود عبد الغني (أبواب كل شيء) وعبد الدين حمروش (سهران كفوهة بندقية) ومحسن أخريف (الطريق) وعبد اللطيف الوراري (الودائع). أما في باب «مؤانسات الشعري» فقد تناول الناقد خالد بلقاسم بالدراسة والتحليل ديوان ايروتيكا لسعدي يوسف مؤكدا على أن للشعر وشيجة بالايروسية تسوغ له اتخاذها موضوعا للبناء وتمكنه من الاقتراب من هذا الموضوع، خلافا لخطابات أخرى لا تقوم إلا بحجب الموضوع وهي تتجرأ على الحديث عنه من الخارج. وقد توقف الناقد عند لحظات عديدة في الديوان محللا صورة الموج التي لها علاقة وطيدة بالايروسية. فالموجة
أسعفت منظري هذا الموضوع في رصد العلاقة بين جسد الرجل وجسد المرأة لما تتيحه من تداخل بينها أو تلاشي أحدهما في الآخر. فالشعر في ديوان ايروتيكا «هو كتابة على عتبة الحدود لأن البوح يتعارض مع الايروسية. والكتابة في هذا الديوان كما يقول بلقاسم تنتسب إلى سلالة شعرية اشتغلت بالجسد. وهناك وشيجة تشد هذا العمل إلى ديوان بالعنوان نفسه للشاعر يانيس ريتسوس. وأن هذه الوشيجة لا تكشف عن التدخلات النصية فحسب، وإنما تكشف في الآن ذاته عما يميز الكتابة التي تشتغل على الايروسية.
وفي دراسة ثانية بعنوان «شعرية المكان الوثني وكتابة المحو» سعى نبيل منصر إلى تقديم مشروع محمد بنيس التأملي حول الحداثة الشعرية، مبينا أن طريقة محمد بنيس لم تكن هي طريقة ادونيس، وأن سؤال الحداثة لديه، بالرغم من إيحاءاته المتعددة لم يكن سؤالا نهضويا لذلك لم يغرق محمد بنيس في حجج الشعرية العربية القديمة، واتجه بفعل التراكم نحو استخلاص مبدئها الناظم، من خلال فرضية الكبت التي عطلت دراسة الشعرية قديما. وجعلت الشاعر يتقدم بفرضية الشعرية المفتوحة.
«لقد سعى محمد بنيس نحو ترسيخ مفهوم الماضي المتعدد الذي يسمح للكتابة باختراق كل الأزمنة والتأسيس لحداثتها الأخرى في النص والنظرية» فالمكان الوثني يكشف عن برنامج نظري وخصائص كتابة مستدعاة من تجربة شخصية مفتوحة. وهو ما يمكن تكثيفه حسب نبيل مصر ضمن المبادئ النظرية التالية: حرية الإقامة في حدود الخطر وانمحاء الأصل والحقيقة صيرورة، والعودة إلى الأثر والاحتفاء بالعناصر.
أما الدراسة النقدية الثالثة الموسومة «بالكتابة ومواجهة الموت»، قراءة في ديوان «قبر هيلين» للشاعر المهدي اخريف فقد سعى فيها الناقد المحجوب الشوني إلى قراءة هذا الديوان مستحضرا باقي عناصر التجربة الشعرية لدى اخريف الممتدة في الزمن والمتشعبة في المرجعيات مستحضرا فعل الترجمة لدى الشاعر خصوصا علاقته الفريدة بالشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا «فيد الشاعر تكتب أثره الشخصي وهي تترجم آثارا إبداعية لأجساد أخرى. جسده ينتج شعرا بعد أن سكنه مجهول لغات أجنبية، وشعر غريب... من هنا يصطدم قارئ شعره بضفاف غموض لا يدرك حدودها تماما إلا الشاعر. ذلك أنها نابعة من صراع مستمر مع اللغة / اللغات باعتبارها أداة مريحة للتعبير بوضوح ويقين كما هو الأمر في التصور التقليدي بل كمسكن وجودي وأصلي للالتباس والصراع والفراغ».
حاول الشوني أن ينفذ للديوان من عنوانه. فقبر هيلين «قصيدة طويلة يتم بناؤها النصي وتخيلها بأسئلة فنية ومعرفية حاسمة. والعنوان خاصة منه كلمة قبر تضعنا في صلب تقليد كتاب مسيحي عريق، استطاع الرومانسيون وكبار شعراء الحداثة الشعرية في فرنسا (ملارمي) أن يفرغوه من حمولته الدينية ليصير في الإبداع الأدبي أو الموسيقي باب المجهول الأكبر أمام الشاعر ليختبر بالكتابة هشاشته وقوته معا إزاء الأبد. فالقبر الشعري يستقبل حياة الشاعر في إبداعه، روحه الحقيقية أو حياته الثانية. وقد توقف الناقد عند الهوية الملتبسة لاسم هيلين وعن مواجهة الموت في اللغة.
لقد تزامن صدور الديوان مع مرور 90 سنة على ميلاد الطيارة الفرنسية هيلين بوشر التي ماتت في حادث مروع، وإن هذه الأخيرة كانت متيمة بمغني الطانغو كارلوس كارديل (الارجنتيني) الذي أبكى بورخيص وأمه وهما يتابعانه ذات مساء في سهرة أقامها في الولايات المتحدة الأمريكية.
خلص الناقد في قراءته إلى أن «كتابة القبر الشعري» في الشعر العربي المعاصر، لا تزال شكلا فنيا يحتفي بالفراغ. والغياب ويسائله ويمنحه تجليا محدودا فهناك «قبر من أجل نيويورك» لأدونيس وقبر ابن عربي لعبد الوهاب مودب.
أما الشاعر الذي أقام في بيت المجلة فهو الشاعر الإيطالي «ماريو لودسي» (1914-2005) له عدة أعمال شعرية وله اهتمامات ثقافية أخرى ، في شعره احتفاء لافت بأسرار الطبيعة ،احتفاء ينطلق من بناء لغوي يحمل وشوم ذات قلقة وقد اختار هذا الشاعر منطقة الغموض الشعري أقام فيها ، وفيها تضاعفت غربته.
أما يوميات البيت فقد تنوعت وتعددت مما يدل على دينامية وحيوية داخل هذا البيت وقد لفت نظري حضور الجوائز ( عبد الفتاح كيليطو ? محمد بنيس : جائزة العويس) ووفيات الشعراء الكبار ( محمود درويش ?سركون بولس ? علي الحداني ) .
وقد شمل الباب الأخير من المجلة «أعمال من اللانهائي» متابعة نقدية دقيقة لمجموعة من الإصدارات الحديثة ، فقدم المحجوب الشوني كتاب صنعة الشعر لبورخيص بترجمة صالح علماني، وقدم رئيس بيت الشعر الشاعر نجيب خداري كتاب الشعر الحديث في المغرب ليوسف النوري ، كما قدمت مجموعة من الدواوين نشرتها دار النهضة ببيروت لشعراء مغاربة. «هناك تبقى» محمد بنيس، «أجنحة بيضاء...في قدمي» محمد الأشعري، «على انفراد» حسن نجمي، «كم بعيد دونكيشوط» محمود عبد الغني، «لا أكاد أرى» عدنان ياسين، «ليلة سريعة العطب» عائشة البصري. وقدم أيضا الديوان الأخير للشاعر محمد بن طلحة «قليلا أكثر»، و»أعمال المجهول» لنبيل منصر، « وطير الله» للزجال المقتدر مراد القادري.
هذا العدد من المجلة غني بالمواد ومتنوع يمتاز باللغة النقدية الهادئة التي تحاور النصوص بطريقة فعالة معتمدة مرجعيات راسخة في المشهد النقدي الغربي وتوظفها بطريقة منتجة. ويبدو أن المجلة بدأ يتسع صدرها لتصبح مسرحا لتعدد الأصوات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.