لفظت الانتخابات الرئاسية في تونس مساء أمس الأحد أنفاسها الأخيرة بأن وصلت محطة التصويت ، ووحدها بطون الصناديق التي تعلم الآن ما إذا كانت محطة أمس الأخيرة ، أم أنها ستعود في جولة ثانية بين مرشحين تجمع هنا استطلاعات الرأي والأوساط السياسية على أن الأمر يتعلق بالرئيس التونسي المؤقت المرزوقي المرشح باسم حزب المؤتمر والباجي قايد السبسي رئيس حزب نداء تونس ، الظاهرة السياسية التي عرجت بالمسار السياسي في تونس بعد فوزها بالمرتبة الأولى للإنتخابات التشريعية التي جرت أخيرا وبذلك أزاحت حزب النهضة الذي كان لفترة طويلة اللاعب الوحيد في الميدان. ومهما كانت النتيجة النهائية لهذه المحطة التي ستبقى خالدة في ذاكرة شعب تونس و مسجلة بحروف بارزة في تاريخ تونس الحديث ،فإن تونس كسبت الرهان فعلا ،و زادت خطوات كثيرة و بعيدة في مسار سياسي هادئ و منتج وهو ما يعطي للتجربة التونسية تميزها في ربيع عربي تحول إلى جحيم عربي في أقطار أنجزت الإطاحة بأنظمة ديكتاتورية وشمولية،لكنها دخلت مسارات أكثر خطورة تزيد إصرارا على تكثيف الفتن والقتل والحروب الأهلية. كل المؤشرات والمعطيات المتوفرة هنا في تونس تؤكد أن نجاح محطة الانتخابات الرئاسية كان ثمرة جهود بذلتها كل الأطراف، ومن الموضوعية والنزاهة الإقرار في البداية أن رجالات و نساءات حركة النهضة تميزوا في أدائهم السياسي خلال السنتين الفارطتين بمنسوب عال من الذكاء ونجحوا في تقديم صورة مغايرة للإسلاميين في الحكم، إذ قبلوا بشروط اللعبة الجماعية و تجنبوا أثناء المسير الطويل والشاق جميع أشكال التوتر والمواجهة، بل أبدوا كثيرا من التفهم وقدموا في سبيل ذلك تنازلات وصلت حد إقالة الحكومة التي كانوا يرأسونها وإسنادها لتكنوقراطيين امتثالا لخارطة الطريق التي اقترحها الإتحاد العام التونسي للشغل في وقت سابق . أداء حركة النهضة ساهم إلى حد ما في توفير الشروط الأولية لنجاح الانتخابات الرئاسية، وثم هناك أطراف أخرى ساهمت من موقعها في هذا التتويج الديمقراطي ، و هنا تجب الإشارة لقوات الأمن و الحرس والجيش الوطني، وتكفي الإشارة في هذا الصدد إلى أن ثمانين ألف من رجال ونساء أجهزة الأمن انتشروا في سياق تعزيزات أمنية جد مشددة على امتداد خريطة تونس ، في الحواضر كما في القرى، أمام الفنادق والمؤسسات العمومية و المدارس و في الشارع العام و حتى في كثير من الزقاق ، و بدا واضحا من خلال ذلك أن الأجهزة الأمنية استعدت بما يكفي لحسم المنازلة مع الإسلاميين المتطرفين المبدعين في الأشكال الإرهابية والذين اعتقدوا في البداية أن تونس لقمة سائغة تصلح لإقامة دولة الدواعش أو الطالبان في هذه المنطقة. لكن الظن خاب و أصرت تونس على أن تمضي في مسارها رغم الطعنات التي تلقتها في الطريق، والبارحة نجحت الأجهزة الأمنية في أن يبقى الإرهابيون مختبئون في جحورهم ، ولم يسجل خلال الحملة الانتخابية ما من شأنه التشويش على الانتخابات أو تقويضها . ثم يجب أن نعترف للطبقة السياسية التونسية بنضجها الكبير ، وهو معطى مفاجئ -على كل حال - لأن هذه الطبقة حديثة العهد بالممارسة الديمقراطية بسبب عهود الحكم الشامل والمغلق التي سادت منذ الاستقلال إلى أن أطيح ببن علي في 14 يناير 2011 ، وما كان لهذا المسلسل الديمقراطي أن ينجح لولا أداء رزين من طبقة سياسية رجحت كفة الوطن قبل الحزب، وإن احتدم الخلاف حول العديد من القضايا وفي كثير من المحطات إلا أن هؤلاء الفاعلون آثروا وحرصوا على أن يتواجهوا بالأفكار و البدائل والمواقف و ليس بوسائل أخرى. وهناك شعب عظيم إسمه شعب تونس، الحاضن الأكبر لهذا المسار الديمقراطي . هذا الشعب الذي استطاع أن يؤثر في الأوضاع الإقليمية والدولية بما يفوق حجمه بكثير مازال يؤكد أنه قابض بيده على ثورته يسير بها في الطريق السالكة دون حاجة إلى اقتتال ولا إراقة دماء، ودون أن يسمح لأي كان بأن يسرق له ثورته الخالدة ، هذا الشعب هو الذي ساهم فعلا في نجاح المسلسل، شعب يقظ، أعطى ثقته في البداية لثالوث قادته حركة النهضة ولكنه حينما تيقن أن هذا الثالوت لم يكن في المستوى أزاحه وعاقبه في الانتخابات التشريعية الأخيرة وأناط المسؤولية بآخرين. لا ولن يكون مهما من فاز بثقة الناخبين التونسيين أمس ، فالنتيجة وإن لم يعرفها أحد لحد الآن فإنها موجودة في بطون الصناديق التي يجري فرزها ، لكن الأهم أن تونس كسبت الرهان مرة أخرى .