أخنوش يتباحث مع رئيس الحكومة اللبنانية    "حماة المال العام" يستنكرون التضييق على نشاطهم الفاضح للفساد ويطالبون بمحاسبة المفسدين    أسعار الفائدة على القروض ترتفع خلال الفصل الأول من سنة 2024    هلال: دبلوماسية الجزائر تعاني متلازمة التقزم    ذكرى تأسيس الأمن الوطني.. 68 سنة من الحفاظ على النظام العام وحماية المواطنين    هذه العوامل ترفع خطر الإصابة بهشاشة العظام    ارتفاع الودائع البنكية إلى 1.177,8 مليار درهم عند متم مارس الماضي    اعتبروا الحوار "فاشلا".. موظفون بالجماعات الترابية يطالبون بإحداث وزارة خاصة    تصفيات مونديال 2026: الحكم المغربي سمير الكزاز يقود مباراة السنغال وموريتانيا    بعثة نهضة بركان تطير إلى مصر لمواجهة الزمالك    كأس العرش.. مولودية وجدة يضرب موعدًا لمواجهة الرجاء في النصف النهائي    إيقاف مسؤول بفريق نسوي لكرة القدم ثلاث سنوات بسبب ابتزازه لاعباته    إطلاق مجموعة قمصان جديدة لشركة "أديداس" العالمية تحمل اللمسة المغربية    باحثون يعددون دور الدبلوماسية الأكاديمية في إسناد مغربية الصحراء    شرطي يشهر سلاحه على سائق سيارة بطنجة والأمن يدخل على الخط ويوضح    سفارة المغرب ببانكوك توضح بخصوص وضعية المغاربة المحتجزين بميانمار    انطلاق القافلة الثقافية والرياضية لفائدة نزلاء بعض المؤسسات السجنية بجهة طنجة تطوان الحسيمة من داخل السجن المحلي بواد لاو    مصرع شخصين في انقلاب شاحنة بتيفلت    الموت يغيب عميد الطرب الغرناطي أحمد بيرو    السعودية تطلق هوية رقمية للقادمين بتأشيرة الحج    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    قافلة GO سياحة تحط رحالها بجهة العيون – الساقية الحمراء    مانشستر سيتي يهدد مشاركة جيرونا التاريخية في دوري الأبطال    مربو الماشية يؤكدون أن الزيادة في أثمنة الأضاحي حتمية ولا مفر منها    يوفنتوس يتوّج بلقب كأس إيطاليا للمرّة 15 في تاريخه    مطالب لوزارة التربية الوطنية بالتدخل لإنقاذ حياة أستاذ مضرب عن الطعام منذ 10 أيام    المغربي محمد وسيل ينجح في تسلق أصعب جبل تقنيا في سلوفينيا    "أديداس" تطلق قمصانا جديدة بلمسة مغربية    ظاهرة "أسامة المسلم": الجذور والخلفيات...    الاستعادة الخلدونية    رسالة اليمامة لقمة المنامة    صعود أسعار النفط بفضل قوة الطلب وبيانات التضخم الأمريكية    العسري يدخل على خط حملة "تزوجني بدون صداق"    وزارة "الحج والعمرة السعودية" توفر 15 دليلًا توعويًا ب16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    طقس الخميس حار نسبيا مع تشكل سحب وكتل ضبابية    كلاب ضالة تفترس حيوانات وتهدد سلامة السكان بتطوان    من أجل خارطة طريق لهندسة الثقافة بالمغرب    أشجار عتيقة تكشف السر الذي جعل العام الماضي هو الأشد حرارة منذ 2000 عام    هنية: إصرار إسرائيل على عملية رفح يضع المفاوضات في مصير مجهول    مدريد في ورطة بسبب الإمارات والجزائر    نسخة جديدة من برنامج الذكاء الاصطناعي لحل المعادلات الرياضية والتفاعل مع مشاعر البشر    أكاديمية المملكة تُسائل معايير تصنيف الأدباء الأفارقة وتُكرم المؤرخ "هامباتي با"    منتدى عربي أوروبي لمكافحة الكراهية    محكي الطفولة يغري روائيين مغاربة    زيلنسكي يلغي زياراته الخارجية وبوتين يؤكد أن التقدم الروسي يسير كما هو مخطط له    المشروع العملاق بالصحراء المغربية يرى النور قريبا    زعيم المعارضة في إسرائيل: عودة الرهائن أهم من شن عملية في رفح    "تسريب أسرار".. تفاصيل إقالة وزير الدفاع الروسي    الأمم المتحدة تفتح التحقيق في مقتل أول موظف دولي    قطر تستضيف النسخ الثلاث من بطولة كأس العرب لسنوات 2025 و2029 و 2033    ما حاجة البشرية للقرآن في عصر التحولات؟    إلزامية تحرير الجماعات الترابية من « أشرار السياسة »    النقابة الوطنية للتعليم fdt وضوح وشجاعة لاستشراف المستقبل    "الصحة العالمية": أمراض القلب والأوعية الدموية تقتل 10 آلاف شخص يوميا في أوروبا    جمعية علمية تحذر من العواقب الصحية الوخيمة لقلة النوم    دراسة: الحر يؤدي إلى 150 ألف وفاة سنويا على مستوى العالم    السعودية: لاحج بلا تصريح وستطبق الأنظمة بحزم في حق المخالفين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«الطريق إلى السجن»...طفولتنا المنسية بشوارع البيضاء الخلفية!
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 12 - 12 - 2009

فاطمة الزهراء، جنات، أميمة، كوثر، سهام، سكينة، نجوى، إيمان وصابرين وغيرهن كثر من طفولتنا ذكورا وإناثا... قادهن حظهن العاثر وطيشهن المجنح إلى حي النساء بسجن عكاشة. هن صبايا تلفتن النظر، تثرن الانتباه وتستدعين الاهتمام والرعاية...
«ماما أسية» و«ماما جميعة» توفران لهن هذا الاهتمام وتغدقان عليهن من الرعاية والحماية والسند ما يخفف من معاناتهن؛ وذلك من خلال نشاطاتهما المكثفة في إطار «جمعية (ماما أسية) لأصدقاء مراكز الإصلاح وحماية الطفولة»...
في ما يلي واقع حي يصرخ من بين شهادات هؤلاء القاصرات، يعلن معاناة مع اللاانتماء، للأسرة، للمجتمع، للضوابط الاجتماعية... لاانتماء أكيد أنه ليس بمحض إرادتهن وإن بدا عكس ذلك...
[email protected]
دعوة...
ذات ثلاثاء من أيام شهر رمضان الأخير، تحلق الزوار بالمدخل الرئيسي للمؤسسة السجنية عكاشة بالدار البيضاء، في انتظار إتمام الإجراءات الأمنية المعهودة والضرورية للتأكد من هوية الوافدين على هذه المؤسسة. كان الزوار ذلك المساء مدعوين من طرف وزارة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن، لتقاسم وجبة الإفطار مع السجينات نزيلات حي النساء.
عندما وصلت، رفقة زميلي المصور الطيبي أهنودة، لم يكن المدعوون قد توافدوا كلهم، بل قلة قليلة جدا... بينما كنت أنا وزميلي قد سارعنا للحضور.
منع واستحالة...
بعد تسلم «البادج»، رافقنا أحد موظفي المؤسسة السجنية إلى حي النساء. هناك تلقفتنا إحدى الموظفات ببذلة رسمية وتوجهت بنا نحو الداخل. ونحن نسير رفقتها، لفتت انتباهنا مجموعة من النساء من مختلف الأعمار بملابس النوم والموائد من ورائهن مبثوثة، قصدناهن، فاعترضت طريقنا مرافقتنا قائلة: «لا. ممنوع الدخول هنا»! وتوجهت بنا إلى قاعة مجاورة أقيمت فيها الموائد، مجموعة على اليمين اصطفت من وراء سياج، ومجموعة على اليسار بدون سياج. كانت القاعة فارغة إلا من بعض الصحفيين يعدون على رؤوس الأصابع وعدد كبير من موظفي المؤسسة السجنية من الذكور والإناث ببذل رسمية في أعلى درجات الاستنفار...
حاولت وزميلي المصور استغلال الفرصة، قبل حضور باقي المدعوين، توجهت، مرة أخرى، إلى حيث كانت السجينات واقفات في انتظار الأمر بدخول القاعة المجاورة المحتضنة للقاء. لكن كل محاولة لنا أو لغيرنا كانت تجد من يصدها والكل يردد جملة واحدة: «ممنوع الاقتراب من السجينات أو الحديث إليهن إلا بأمر من مديرة حي النساء أو من مدير المؤسسة السجنية»!
غافلنا الحراس، فنجحت إحدى المحاولات، وتمكنا من الحديث إلى بعض السجينات، لكن كان الرفض جوابنا من السجينات أنفسهن... بل حتى من مديرة حي النساء ومدير المؤسسة السجنية كذلك! وكأن الكل عبارة عن روبوهات مبرمجة على الرفض والتزام الصمت، الوجوه رسمت على صفحاتها علامة ممنوع! والعيون مبثوثة مترصدة والآذان متنصتة! وقد نالت إحدى السجينات حظها من الإهانة والنهر من طرف مديرة حي النساء، لأنها «ضبطتها» تتحدث إلى أحد الصحافيين...
لم أفقد الأمل، ومنيت النفس بفرصة على مائدة الإفطار بعد أن بدأت أفواج السجينات تدخل صفا صفا، واحدة وراء الأخرى وقد أمسكت كل واحدة منهن بيدي زميلتين لها واحدة أمامها والأخرى وراءها كسلسلة متماسكة تحيط بهن موظفات السجن من كل جانب وتحذرهن بحزم من الاقتراب أو الحديث إلى الحضور. وسريعا ما تأكدت خيبة الأمل! عندما قادتهن حارسات السجن يمينا نحو الموائد المسيجة، بينما فرض على باقي الحضور التوجه إلى اليسار.
هذا الإجراء استفزني شخصيا... لكني لم أيأس، بل حفز لدي روح المغامرة والتحدي! فقررت تدبر الأمر.
رب صدفة...
هل هي الصدفة أم الحظ الحسن أم هي الجرأة والمغامرة أم هي كل هذا؟... المهم تحقق المراد، حيث حضرت لقاء بأحد مكاتب إدارة حي النساء لكل من فاطمة الزهراء، جنات، أميمة، كوثر، سهام، سكينة، نجوى، إيمان وصابرين... مع «ماما أسية» المكلفة بالأحداث بوزارة العدل و«ماما جميعة» المحامية بهيأة الدار البيضاء، عضوان نشيطان ب «جمعية أصدقاء مراكز الإصلاح وحماية الطفولة».
هذا اللقاء الذي ساعدني الحظ والفضول لحضور فصوله بدون سابق تنسيق ولا تدبير، خلال حفل الإفطار، كانت غاية «ماما أسية» و«ماما جميعة» منه التعرف على السجينات الجديدات والتكفل بملفاتهن أمام القضاء ومتابعة ظروف محاكمة السجينات السابقات بمؤسسة عبد السلام بناني واللواتي قادهن طيشهن إلى حي النساء بسجن عكاشة.
«ماما أسية»
بعد انتهاء وجبة الفطور، انشغل الحضور بحفل توزيع الهدايا على السجينات وبالحفل الموسيقي، أما أنا فقد كنت أفكر في طريقة للتحدث إلى بعض السجينات... كنت أمشط الفضاء بعيني يمينا ويسارا، فلمحت الأستاذة أسية الوديع، عضوة بالمجلس الإستشاري لحقوق الإنسان، مؤسسة «جمعية (ماما أسية) لأصدقاء مراكز الإصلاح وحماية الطفولة»، تغادر القاعة وتتوجه إلى البهو، حيث تقف مديرة حي النساء. كانتا تتحدثان وتشيران إلى مجموعة من السجينات القاصرات، حوالي 12 طفلة، اللواتي كانت إحدى الحارسات قد جمعتهن بأمر من المديرة وقادتهن إليها. قمت من مكاني وتوجهت نحو الجمع، انضممت إليهن ووقفت قرب الأستاذة أسية الوديع، فسمعت المديرة تعطي تعليماتها باقتياد النزيلات القاصرات إلى إحدى القاعات بالرواق المجاور، رفقة «ماما أسية»، للاجتماع بهن... ثم توجهت المديرة إلى قاعة الحفل.
عندما أحاطت بنا الحارسات، كنت أحدث هؤلاء الطفلات وأنظم سيرهن... ظنت الحارسات أني أرافق «ماما أسية»، فتوجهن بنا نحو إحدى القاعات، بالرواق الخاص بإدارة حي النساء والمجاور لقاعة الحفل، والواقع مباشرة عند المدخل الرئيسي لهذا الحي. عند باب القاعة، تلقفتنا حارستان ومساعدة اجتماعية مكلفة بمرافقة القاصرات بالسجن. دخلنا قاعة مستطيلة، اصطفت على جدرانها الخزانات، بينما انتصب بصدرها مكتب بسيط رمادي اللون. أما في وسطها، فقد مدت مائدة كبيرة أحاطت بها الكراسي. أخذت كل واحدة منا مقعدا. في البداية، كان الارتباك والخجل باديين على بعض السجينات، اللواتي جلسن منكمشات مطأطئات الرؤوس، أو مشيحات بوجوههن وقد اتكأن على أكفهن مغطيات بها جانبا من وجوههن الصغيرة رهبة وإجلالا لتلك السيدة المهيبة ذات العقود الست المربوعة القد، والمستديرة الوجه بملامح صارمة توحي بامتلاك صاحبتها حزما وعزما غير مشكوك فيهما، وبقصة شعر قصيرة وقد زادها الشيب المشتعل برأسها والشحرجة المميزة لصوتها هيبة وقارا. بينما كانت أخريات تجلسن لامباليات مطمئنات، فقد عرفن تلك السيدة من قبل ولمسن رقتها وليونتها، بل خبرن إنسانيتها التي لم تخفها صرامة الحديث وصلابة الحركة والتي إن دلت على شيء إنما تدل على شدة حزم وقوة عزيمة وشكيمة صاحبتها وإنسانيتها الأشد قوة... وكلها صفات جعلتها تستميت لإنقاذ طفولتها المحروسة وتنذر نفسها للتخفيف من معاناتها ومن تقصير المجتمع في حق هذه الطفولة القاصرة...
بادرت «ماما أسية» بتحية هؤلاء القاصرات في محاولة منها لإضفاء جو من الدفء والارتياح بينهن، ثم بدأت تتعرف على كل واحدة منهن...فجأة رن هاتفها، فتحت الخط ثم استمعت إلى مخاطبها على الطرف الثاني من الخط باهتمام. وقبل أن ترد عليه، قامت من مقعدها وأجابت مخاطبها بأنها قادمة... اعتذرت للحضور، وتوجهت لإحدى الحارسات قائلة إن موكب الوزيرة سيغادر السجن وهم يطلبون حضورها وأنها ستبعث الأستاذة جميعة حداد، محامية بهيأة الدار البيضاء، لإتمام اللقاء مع السجينات القاصرات، ثم غادرت القاعة.
«ماما جميعة»
ما إن دخلت الأستاذة جميعة حداد القاعة التي تجمعت بها هؤلاء القاصرات رفقة مساعدة اجتماعية ومجموعة من الحارسات حتى انقلبت الأجواء داخل هذه القاعة المتوسطة المستطيلة والباردة... فقد قفزت مجموعة منهن من مقاعدهن وهن يمدن أيديهن نحوها لاتخضانها وتقبيلها فرحات بلقائها وهن يهتفن: «ماما جميعة، ماما جميعة، ماما جميعة»... بينما ظلت مجموعة أخرى تنظر إليهن بدهشة، وقد ارتسمت علامة استفهام كبيرة على وجوههن. أخرجهن تصرف زميلاتهن هذا من جو الارتباك والخجل إلى جو الفضول والتساؤل: من تكون هذه السيدة ذات العقود الخمس والقامة المتوسطة والقد المكتنز والوجه المستدير والسموح والشعر المقصوص القصير وهالة الشيب التي زادتها وقارا؟... كن يتطلعن إليها خلسة، ثم ينظرن إلى زميلاتهن اللواتي فتحت كل واحدة منهن ذراعيها ومدت يديها واشرأبت بعنقها لاحتضان هذه السيدة بشكلها المتواضع وحركتها البطيئة. نظرت «ماما جميعة» إلى مخاطباتها بعد أن تعرفت إليهن وقالت باستغراب وبعتاب وألم أم حنون «عَوْتاني نْتوما هْنايا»؟!...
بعد عناقها وتقبيلها، جلست هؤلاء القاصرات وجلست «ماما جميعة» التي توالت عليها الأسئلة... كن يسألنها عن أخبار مؤسسة عبد السلام بناني ومديرها وطاقمها وعن الجديد فيها... وعن صديقاتهن بها، خصوصا زميلتهن في محنة الاعتقال «سليمة»، فأخبرتهن «ماما جميعة»، بفخر، أنها حصلت على النقطة الأولى على صعيد الجهة، وأنها تدرس الآن في القسم السابع، وأن إدارة المؤسسة أقامت لها حفلا بهذه المناسبة.
فرحة جنات بنجاح زميلتها سابقا بمؤسسة عبد السلام بناني لم تدم إلا ثوان معدودة، أوقفها، فجأة، ندمها وأسفها على مآلها هي نفسها، تقول «جنات» بنبرة حزينة كلها ندم وحسرة: «أنا أيضا كنت أدرس بعبد السلام بناني ونجحت، لكنني فررت، ليتني لم أفعل... أنا جد نادمة على ذلك». وانهالت الأسئلة، مرة أخرى، على «ماما جميعة»، فسألتها السجينات القاصرات عن وضع بناية مؤسسة عبد السلام بناني، فأخبرتهن أن كل شيء تغير فيها... فقد بني بها حمام... عقبت «جنات» بسرعة «خليتهم كايبنيو فيه»، وأضافت «ماما جميعة»: «ومدرسة ومخبزة أيضا».
طفولة مجنحة...
فاطمة الزهراء، جنات، أميمة، كوثر، سهام، سكينة، نجوى، إيمان وصابرين... براعم في طور التفتح، وجوه جميلة بملامح طفولية توحي بالبراءة، لكن الأحكام السابقة الصادرة في حقهن صادمة، والتهم المنسوبة إليهن والمعلومات المضمنة في محاضر قضاياهن بالمحكمة الابتدائية بالدار البيضاء مكذبة تشي بغير ذلك... فملفاتهن المعروضة، حاليا، على القضاء والتي ساقتهن، هذه المرة، إلى حي النساء بسجن عكاشة بالدار البيضاء تحطم صورهن الطفولية وتضرب ببراءتهن عرض شوارع البيضاء الخلفية...
المتصفح لوثائق هذه الملفات يلاحظ أن السرقة تكون القاسم المشترك في جل ملفات هؤلاء الطفلات القاصرات اللواتي تتراوح أعمارهن مابين 14 و17 سنة فقط! أما باقي التهم، فهي متنوعة ومتعددة: تكوين عصابة، اختطاف طفلة، ممارسة الدعارة وتعاطي المخدرات وفي أحسن الأحوال التشرد...
برفقتهن سجينات أخريات ألحقن بالسجن بسبب ارتكابهن جنحا وهن قاصرات بالكاد بلغن سن الرشد داخل السجن كحالة كل من: (سعاد، حفيظة، ضحى وخديجة)... أربعتهن أفراد عصابة تتكون من 6 أشخاص، ضمنهن أختان وذكران راشدان، «جنات» القاصر أحد أهم أفراد هذه العصابة التي لم تصدر بعد في حق عناصرها أي أحكام...
أغلب هؤلاء السجينات قضين فترة بمؤسسة عبد السلام بناني بسبب جنح ليعدن إلى سجن عكاشة، وهذه المرة، بسبب جنايات مختلفة ومتفاوتة الخطورة.
«جنات» و«فاطمة الزهراء»، كانتا نجمتان تلمعان في فضاء هذا اللقاء... صبيتان تلفتان النظر، تثيران الانتباه، بل تشدان الناظر إليهما وتخلقان لديه فضولا كبيرا...هما نزيلتان سابقتان بمؤسسة عبد السلام بناني، هربتا من هذه المؤسسة ليقودهما حظهما العاثر وطيشهما المجنح إلى حي النساء بسجن عكاشة. ولم تكن هذه المرة التهمة بسيطة مجرد جنحة، بل جناية.
«فاطمة الزهراء»...
«فاطمة الزهراء» صبية من مواليد 1992، قدها المكتنز ووجهها المستدير وكتفاها العريضان وصدرها الممتلئ يجعلها تبدو أكبر من سنها، وجه طفولي على جسد راشد ينكب عليك كأنه يستعد لاحتضانك... جميلة بعيون ساحرة ذات غنج ونظرات دافئة تشتعل حيوية ونشاطا، وثقة زائدة في النفس، ممثلة بارعة، نجمة واعدة تنتظر مخرجا يكتشف مواهبها الكامنة وراء شغبها الطفولي الجامح، مخرجا يغير مجرى حياتها، بل ويجعل من حياتها وحياة صديقاتها سينايو طويل لحياة قصيرة حافلة بالأحداث الخطيرة والوقائع المثيرة... فصول حكاياتهن، تفاصيل حياتهن الصغيرة المهولة والحافلة بالمغامرات الخطرة... تذكرني بفيلم «علي زاوا» للمخرج «نور الدين عيوش» وبطله الصغير آنذاك «هشام موسون».
فرت «فاطمة الزهراء» من مؤسسة عبد السلام بناني لتقع في شباك صاحب مقهى يشغل القاصرات في مثل ظروفها، تقول عن ذلك: «كل الفتيات اللواتي يهربن من مؤسسة عبد السلام بناني يلتحقن بثلاث مقاهي معروفة بالمدينة القديمة أو بأوكار الدعارة بدار بوعزة وبالأحياء المهمشة لمدينة الدار البيضاء، حيث يمارسن الدعارة وتعاطي المخدرات والسجائر والخمر، أنا عشت ورأيت ذلك». «فاطمة الزهراء» مرت من كل هذه الأماكن... تقول نادمة: «هربت من عبد السلام بناني رغم أنني كنت أعيش هناك في ظروف أحسن وكنت أدرس ونجحت. ليتني لم أهرب».
بعد فرارها من المؤسسة، تلقفت شوارع الدار البيضاء «فاطمة الزهراء»، التي تنقلت بين مقاهي وأوكار هذه المدينة الكبيرة، المتوحشة، الموحشة والمتعطشة إلى اللحم البشري الغض، إلى فرائس ضعيفة من أمثال «فاطمة الزهراء» و«جنات» وزميلات لهما في مثل سنهما وظروفهما.
بعد فرار المراهقات الصغيرات، يتمركز نشاطهن بالمدينة القديمة ودار بوعزة. كن يقمن بكل شيء يطلب منهن: غسل الأواني، تنظيف المقهى وخدمة الزبائن... خدمات من كل الأنواع مقابل لقمة تسد الرمق وتسكت الجوع وفراش دافئ يحضن أجسادهن الغضة المهدودة بفعل ممارسة أشياء وأشياء تتجاوز سنهن وطاقتهن بدون احتياطات، سواء من الحمل السفاح أو العدوى والإصابة بأمراض فتاكة تدمر أجسادهن وتعصف بأعمارهن...
دخلت «فاطمة الزهراء» سجن عكاشة منذ 19 يناير 2009، بتهمة الدعارة، ملفها مازال لم يحكم بعد، ليس لها محامي يدافع عنها، فتكفلت «ماما جميعة» بمتابعة قضيتها. عاشت «فاطمة الزهراء» حياتها القصيرة بالعرض، فعاشت تجربة كثيفة، ثقيلة ومرعبة، والداها نبذاها، فهما يقاطعانها ويرفضان زيارتها، فلم تكن تزورها إلا جدتها العجوز...
«جنات»...
«جنات»، بقسمات وجهها الرقيقة وشفتيها الرفيعتين المزمومتين، وبعينيها اليقظتين المتقدتين اللتين تشعان ذكاء شيطانيا قادها إلى الرذيلة ثم الجريمة، وبنظرتها الثاقبة والحادة التي تحاول، بمكر طفولي، اختراق رأسك، دماغك، بل قلبك وروحك كمبضع طبيب جراح متمرن يحاول تشريح أعماقك، لمعرفة كنهك والوصول إلى نقط ضعفك، ثم الالتفاف عليك لكسب تعاطفك وثقتك ببراءة في الحديث وسلاسة في الحكي وباندفاع طفولي متحمس أحيانا، عفوي أحيانا أخرى وحذر متوجس مرارا... كل هذا يجعل المستمع إليها مشدوها، مخدرا، فتنطلي عليه حيلها وتلفه خيوط شباكها بلين حتى تحكم اللف ثم توقع به دون أن يشعر بذلك، فينقاد لها، يتعاطف معها، يتأثر لقصتها حتى درجة البكاء... وفجأة تقطع «ماما جميعة»، خيوط هذه الشباك التي كادت تتحكم بي، حيث أخرجني صوتها الرزين والدافئ من دوامة المشاعر التي اجتاحتني وارتسمت على صفحة وجهي حتى اغرورقت عيناي بالدموع، محذرة ومتداركة: «عنداك ثيقي فيهم راهم ممثلات بارعات!»، عندها تدخلت «ليلى الكرد»، المساعدة الاجتماعية بحي النساء بسجن عكاشة، معلنة حيرتها وهي مأخوذة أيضا بكلام «جنات» وحركاتها وإشاراتها وإيحاءات وجهها الصغير: «أنا حيروني، ما بقيت نعرف آش نصدق، واش اللي كيكولوا ليَّ ولا لي جا في محاضر الضابطة القضائية وما قالوه لقاضي التحقيق؟!»...
وعن تجربة «جنات»، تقول «ليلى»: «ما حكته لي «جنات» يبعث على الخوف! عمرها صغير، لكنها عاشت تجربة عريضة حافلة بالمواقف الخطيرة... لقد حضرت وقائع جريمة قتل منذ سنوات... ما حكته لي يشيب الرأس إذا كان صحيحا، ممثلة بارعة... لقد أبكتنا جميعا في إحدى المناسبات، تقمصت الدور بشكل واقعي جيد». وتؤكد ذلك «ماما جميعة»: «أنا لا أصدقهن، بل أنطلق في ذلك من محاضر الضابطة القضائية وقاضي التحقيق، ثم أستمع إليهن... فلديهن في كل لقاء حكاية تكاد تكون أصدق من سابقتها، خيالهن واسع وخصب»... وعقبت، وهي تنظر إلى «فاطمة الزهراء» و«جنات» اللتين كانتا تجلسان متجاورتين قبالتي وعلى يسار «ماما جميعة»: «إلا تبعتيهم ايحمقوك...».
عود غير محمود!
تقول الأستاذة جميعة حداد: «ما يؤلمني هو العمل والمجهود الذي كنا نبذله معهن في مؤسسة عبد السلام بناني للطفولة المحروسة والذي يذهب سدى». وبغصة تعلن حزنها العميق على مآل ومستقبل هؤلاء القاصرات، فتضيف متأسفة وبنبرة متألمة: «المصيبة العظمى أن كل بنات عبد السلام بناني مصيرهن واحد... فمن لم تدخل السجن، هي، إذن، في الشارع! فبأي شارع مررت من شوارع الدار البيضاء المعروفة بالدعارة، أجد واحدة منهن، لأنني أعرفهن كلهن. وهذا يؤلمني كثيرا ويوجع قلبي...نعمل معهن لكي ننقذهن، لكنهن يعدن إلى السجن بسرعة... وبدل الجنحة، يعدن بجناية. عند استجوابهن، كل من فرت أو خرجت من أي مركز للإصلاح أو من السجن، تصرح لي أو للمساعدة الاجتماعية أنها تلتحق بثلاث مقاهي معروفة بالدار البيضاء... لقد ذهبت إلى هذه المقاهي بنفسي ودخلتها. وبمجرد دخولي تهرب الفتيات أو يختبئن حتى لا أعثر عليهن. كلهن خريجات عبد السلام بناني... أغلبيتهن تمارسن السرقة والدعارة أيضا، وتتعاطين الحشيش والسجائر والخمر».
توضح «ليلى» المساعدة الاجتماعية: «بدأت العمل منذ شهر أكتوبر من سنة 2007، كان عدد النزيلات القاصرات، آنذاك، قليلا جدا. لكن مع بداية سنة 2008 و2009، ارتفع العدد وأصبحن يعدن للسجن ليس بسبب جنح، بل جنايات! إنهن صعبات المراس، كلهن سجلن في التكوين بسجن عكاشة... تتوفر لديهن عدة مواهب، لكن لا يتم استثمارها وتطويرها لديهن، منها موهبة المسرح. للأسف، ليس لنا ورشات مسرحية، فتضيع مواهب الفتيات».
ذاكرة مشحونة
بعد أن تعرفت «ماما جميعة» على ظروف سجن كل واحدة منهن، وسجلت بمذكرتها أسماءهن وأرقام ملفاتهن وبعض الملاحظات حول أوضاعهن، فضت اللقاء... ودعنا السجينات القاصرات وودعنا الحارستين والمساعدة الاجتماعية التي تبادلنا وإياها أرقام هواتفنا المحمولة. وغادرت القاعة تاركة ورائي «ماما جميعة» التي أحاطت بها، مرة أخرى، السجينات السابقات بمؤسسة عبد السلام بناني يعانقنها ويحملنها رسائل إلى زميلاتهن بهذه المؤسسة وإلى طاقمها.
مر الوقت سريعا رفقة هؤلاء القاصرات، لكن ما حملنني، خلال ساعتين، هما عمر هذا اللقاء، من صور وأحداث وتفاصيل مثيرة وخطيرة، جعل ذاكرتي ورأسي، روحي وقلبي، بل كل جوارحي مثقلة ومثخنة بالجراح يعتصرها الألم... فقد خرجت من هذا اللقاء القصير بذاكرة مشحونة تتراقص داخلها الصور والوقائع والأحداث بليلها ونهارها، بشتائها وصيفها... أحداث كأني عشت تفاصيلها بالدقائق والساعات، بالأيام والأسابيع، بل الأشهر والأعوام... تنقلت أثناءها، من خلال حكي هؤلاء القاصرات، بين أحياء وبيوت وغرف ومقاهي وأوكار مدينة الدار البيضاء السفلى... وفي الفضاءات المعتمة لمدننا القديمة والعتيقة التي عشن فيها كالخفافيش والجردان...
ودعتهن وأنا أفكر في تعميق البحث والنبش في تفاصيل حياة وتجربة هؤلاء القاصرات وولوج الأوكار والمقاهي التي عشن داخلها لأتعرف على أصحابها وزبنائها، أرى وجوههم وأجسادهم وأتلمس ملامح شخصيات هذه الذئاب والوحوش البشرية...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.