الدراسة الطبوغرافية لأنبوب الغاز بين المغرب ونيجيريا تترجم فلسفة إفريقيا للأفارقة    قرار أمريكي يستهدف صادرات المغرب    رسميا.. "مبابي" يعلن رحيله عن باريس سان جيرمان ويتفق مع ريال مدريد    ثنائية الكعبي تقود أولمبياكوس إلى نهائي "كونفرنس ليغ"    توقع تسجيل هبات رياح قوية نوعا ما فوق منطقة طنجة    أمن طنجة يوقف خمسة أشخاص ينشطون ضمن عصابة إجرامية لترويج المخدرات والمؤثرات العقلية    الأمثال العامية بتطوان... (595)    الأمم المتحدة تتبنى قرارا يدعم طلب العضوية الكاملة لفلسطين    الطاس تصفع الاتحاد الجزائري لكرة القدم    المغرب يعلن حزمة جديدة من مشاريع الترميم والإعمار في المدينة المقدسة    وزارة الحج والعمرة السعودية تعلن عدم السماح بدخول المشاعر المقدسة لغير حاملي بطاقة "نسك"    امرأة مسنة تضع حدا لحياتها شنقا بالجديدة    نائب البكوري يعترف بالنصب ويتخلص من علبة أسراره بإسبانيا بتكسير هاتفه الشخصي    المالكي: لا ينبغي التسرع في إصدار الأحكام بشأن إصلاح التعليم    نزاع الصحراء المغربية في مرآة البحث التاريخي موضوع كتاب جديد يعزز قضية الوحدة الترابية الوطنية    حصيلة "كوفيد-19" خلال أسبوع: 26 إصابة جديدة دون وفيات إضافية    مزور: الاتفاقية مع شركة (أوراكل) تعزز مكانة المغرب باعتباره قطبا للتكنولوجيات الرقمية    البحرية الملكية تعترض مهاجرين سريين جنوب غرب طانطان    شفشاون على موعد مع النسخة الثانية من المهرجان الدولي لفن الطبخ المتوسطي    الاستعداد لأولمبياد باريس 2024 .. بنموسى يترأس جلسة عمل مع اللجنة الوطنية الأولمبية المغربية    بعد أن أفرغت الحكومة 55 اجتماعا تنسيقيا ومحضر الاتفاق الموقع بين الوزارة والنقابات من محتواها    بتعليمات ملكية.. تنظيم حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية لحج موسم 1445 ه    نقابة "البيجيدي": آن الأوان لإيقاف التطبيع وإغلاق مكتب الاتصال الإسرائيلي بالرباط    القطاع السياحي يسجل رقما قياسيا تجاوز 1.3 مليون سائح خلال أبريل الماضي    العثماني يلتقي إسماعيل هنية في قطر    غوتيريش يحذر من أن هجوما بريا إسرائيليا على رفح سيؤدي إلى "كارثة إنسانية"    بيع كتب ألفت عبر "تشات جي بي تي"… ظاهرة في "أمازون" تتيح تحقيق أرباح عالية        تنديد حقوقي بالحكم الصادر بحق الحيرش ومطالب بإطلاق سراحه واحترام حرية التعبير    الفيدرالية الوطنية للشبيبة التجمعية تستقبل شبيبة حزب مؤتمر التقدميين النيجيري    تأشيرة الخليج الموحدة تدخل حيز التنفيذ مطلع 2025    2900 مظاهرة بالمغرب دعما لفلسطين    قرار جديد من القضاء المصري في قضية اعتداء الشحات على الشيبي    نقابة تنبه لوجود شبهات فساد بالمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير    أخنوش يرد بقوة على تقرير مجلس الشامي: الحكومة تبدع الحلول ولا تكتفي فقط بالتشخيص    تصفيات المونديال.. المنتخب المغربي النسوي لأقل من 17 سنة يواجه نظيره الجزائري    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولات الجمعة على وقع الارتفاع    إحداث منصة رقمية لتلقي طلبات الحصول على "بطاقة شخص في وضعية إعاقة"    أخصائية التغذية ل"رسالة24″… أسباب عديدة يمكن أن تؤدي لتسمم الغذائي    أزْهَر المُعْجم على يَد أبي العزْم!    هل يجوز الاقتراض لاقتناء أضحية العيد؟.. بنحمزة يجيب    المدرب المخضرم بيليغريني يحسم الجدل حول مستقبل المغربي الزلزولي    خبير في النظم الصحية يحسم الجدل حول لقاح أسترازينيكا    معرض تلاميذي يحاكي أعمال رواد مغاربة    المعرض الدولي للأركان في دورته الثالثة يفتتح فعالياته وسط موجة غلاء زيته واحتكار المنتوج    ارتفاع أسعار النفط بفضل بيانات صينية قوية وصراع الشرق الأوسط    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    هل باتت إمدادات القمح بالعالم مهددة؟    الدمليج يقدم "بوريوس" في المهرجان الوطني الرابع لهواة المسرح بمراكش    الحسين حنين رئيس الغرفة المغربية لمنتجي الأفلام: يتعهد بالدفاع عن المهنيين وتعزيز الإنتاج الوطني    سابقة بالمغرب .. حكم قضائي يلزم الدولة بتعويض متضررة من لقاح كورونا    النادي الثقافي ينظم ورشة في الكتابة القصصية بثانوية الشريف الرضي الإعدادية/ عرباوة    ندوة دولية حول السيرة النبوية برحاب كلية الآداب ببنمسيك    أصالة نصري تنفي الشائعات    بركان تؤمن بالحظوظ في "كأس الكاف" .. ورئيس الزمالك يؤكد صعوبة المقابلة    السعودية تختار المغرب باعتباره الدولة العربية الوحيدة في مبادرة "الطريق إلى مكة المكرمة"    سبع دول من ضمنها المغرب تنخرط في مبادرة "طريق مكة" خدمة لضيوف الرحمن    السعودية تفرض عقوبات على مخالفي أنظمة وتعليمات الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد الكبير الخطيبي وجاك دريدا... أو الخطوط الناعمة بين الصداقة الإنسانية والصداقة الفكرية


إلى جاك دريدا في الذكرى الحادية عشر على غيابه
عندما نتحدث عن فكر الاختلاف، لابد في هذا الإطار أن نذكر رموزا فكرية أسست له، تبنته أو قامت بنقده بغاية تطويره، نذكر مثلا نيتشه، هايدغر، جيل دولوز، جان فرانسوا ليوتار، فوكو، جوليا كريستيفا، جاك دريدا وأيضا عبد الكبير الخطيبي. هؤلاء جميعا وغيرهم كون معهم الخطيبي صداقة فكرية وخلق معهم تواصلا غير مباشر مهم إلا أن جاك دريدا يظل المفكر والفيلسوف الوحيد من بين الذين وردت أسماؤهم الذي أنشأ معه الخطيبي صداقة إنسانية وفكرية في نفس الآن امتدت لسنين طويلة. هذا لا ينسينا بطبيعة الحال صداقات الخطيبي الإنسانية والفكرية مع كتاب ومفكرين آخرين من ذوي صيت عالي مثل: رولان بارث، جاك حسون، إدوارد سعيد، جان جينيه، صمويل فييبر وكذا كتاب ومبدعين عرب لا يقلون أهمية هم أيضا مثل محمود درويش، كاظم جهاد، أدونيس، عبد الوهاب مؤدب والقائمة طويلة بطبيعة الحال.
الصداقة الإنسانية والفكرية
بين الخطيبي ودريدا
لا بد من التأكيد في البداية أن العلاقة بين مفكرين من طينة عبد الكبير الخطيبي وجاك دريدا لا يمكن في الحقيقة التفريق فيها بين الصداقة الإنسانية والفكرية. ويظل الخيط الرابط بينهما هو الود والمحبة والاحترام المتبادل رغم الاختلاف في الرؤى والتصورات والأفكار في بعض الأحيان.
يقول الخطيبي :
"التقينا أنا وجاك دريدا بباريس في شهر شتنبر من سنة 1974 وتحديدا بمقهى بساحة سان سولبيس. أهداني مؤلفه "Glas " الذي كان قد صدر لتوه. وأنا بدوري كنت قد أرسلت له قبل لقائنا هذا عبر البريد، مؤلفين صدرا لي في وقت واحد بمناسبة افتتاح السنة الأدبية. ويتعلق الأمر بكتابي: (سفر الدم) و(الحمى البيضاء).
منذ تلك الفترة وإلى غاية وفاته في شهر أكتوبر من سنة 2004 أسسنا، بشكل أو بآخر لعلاقة متواصلة. علاقة يسودها الود و الوفاء مثل نقطة تتأسس عليها حياتنا. كنا أصدقاء يعيشون عن بعد، يعيش هو قرب باريس وأنا بالقرب من الرباط".(1) (ترجمتي )
هي صداقة إنسانية وفكرية تؤمن بقيم الحوار البناء والاختلاف الخلاق. على ذكر فلسفة الاختلاف، يبقى تأثر الخطيبي بفكر أو فلسفة الاختلاف واضحا وهو ما يفسر إذن مدى انجذابه إلى فكر صديقه جاك دريدا. وفي هذا الصدد يقول الباحث المتميز رشيد بوطيب في حديثه عن فكر أو فلسفة الاختلاف:
"أن نفكر في الاختلاف، يعني أن لا نفكر بمنطق الهوية، وان لا نرجع الآخر والمتعدد إلى المثل والشبيه، لهذا فإنه من غير المعقول أن نفهم تيار الاختلاف، كتيار واحدي ومحدد المعالم. فكر الاختلاف لا يمكنه إلا أن يكون مختلفا ومخالفا وليس واحديا. ويمكن للمرء أن يعتبر مقالة هايدجر "الهوية والاختلاف" الوثيقة الأصلية لهذا العمل الفكري، هذه المقالة التي تظهر كيف طغى مفهوم الهوية على الفلسفة الغربية منذ أفلاطون، وكيف أن الكثير والمتعدد لا يمكن إدراكه إلا من خلال هذا المفهوم. طبعا، إن هذا التقليد الفلسفي يحتوي على أنظمة ثنائية وأخرى تعددية وثالثة ضد كل نظام ولكن "الاتجاه نحو الواحد" يمثل التيار الطاغي، وإذا ما دعت الضرورة إلى تدميره، فسيترتب عن ذلك توديع عادات فكرية كثيرة. إن التصورات الفلسفية تبدو متأثرة بعمق، بفكر الهوية، ولا يمكنها والحال هذه، أن تدرك الاختلاف. لهذا فإن إطلاق صفة فلسفة الاختلاف هو في حد ذاته إشكال. ولقد لاحظ ذلك أدورلو بوضوح، حين قال بأن مفهوم التفكير هو مفهوم مطابق لذاته. فالتفكير بواسطة المفاهيم، يعني التعميم وتمييز المشترك، والخاص وغير المتطابق، يجب حسب منطق هذا الفكر أن يسقط. ولأننا وحسب أدورنو لا نملك فكرا آخر، يظل هناك طريق واحد أمامنا، أن "نخرج عبر المفهوم من المفهوم"، الخروج من الفلسفة يظل في حد ذاته فلسفة، لكنه خروج يحمل معنى القطيعة النهائية مع التقاليد." (2)
اعترف الخطيبي منذ البداية بتشابه رؤية جاك دريدا المتمثلة في نقد الميتافيزيقا الغربية مع منهجه الفكري القائم، ليس فقط على نقد الفكر الغربي، بل وأيضا الفكر العربي والإسلامي .وجدد الاعتراف بهذه الحقيقة بعد أكثر من عقدين من الزمن من خلال "رسالته المفتوحة إلى جاك دريدا"(3. )
يؤكد الخطيبي من خلال هذه الرسالة المفتوحة إلى صديقه أنه اعتقد دائما أن "التفكيك" (وهو منهج تبناه جاك دريدا) شكل من الأشكال الراديكالية لتحرير الفكر الغربي من النزعة الاستعمارية(4).
رغم اقتناع الخطيبي بفعالية منهج التفكيك الدريدي إلا أنه اختلق آلية أخرى وهي "النقد المزدوج" وهي آلية مكنته ليس فقط من نقد الفكر الغربي، بل وأيضا الفكر الميتافيزيقي العربي والإسلامي كما أسلفنا الذكر. (5)
ومكن هذا المنهج من خلخلة العديد من المواضيع التي كانت إما طابوهات أو مسكوت عنها أو غير مفكر فيها بتاتا لأسباب قد تكون إيديولوجية، ثقافية، سياسية، اجتماعية أو غيرها و كان لا ينبغي بالتالي التطرق إليها من قبيل الجنس، التراث، الجسد، الوشم وغيرها. اجتهاد الخطيبي وبحثه المتجدد جعل دريدا يعترف به كواحد من أهم الكتاب والمفكرين العرب. ففي حوار أجراه الإعلامي والكاتب العراقي شاكر نوري مع جاك دريدا ونشر ضمن مقال حول الراحل بجريدة المدى، سأله عن رأيه في الكتاب العرب فأجابه كالتالي :
"أعتقد أن ما يكتب في هذا الميدان هام للغاية. لابد من ذكر صديقي عبد الكبير الخطيبي الذي أكن لأعماله احتراما كبيرا، إنه نموذج للمثقف العربي الذي يجمع بين التقاليد والمعاصرة. إنها ظاهرة امتلاك اللغات العديدة.. والثقافات العديدة... وعندما يستطيع المثقف أن يعطي للجانبين، فعمله آنذاك يصبح ثمينا. ليس هناك محو لهويته.. ولا اندماج في ثقافة الآخر. وأعتقد أن هذا النمط من المثقف هو المحرك"(6).
وسبق أيضا لجاك دريدا أن قدم شهادة هامة ودالة في حق صديقه عبد الكبير الخطيبي، اعترافا له بمكانته المعرفية والفكرية العالية واجتهاده الدؤوب في مجال البحث العلمي أعادت نشرها دار "الاختلاف La diff?rence" الباريسية لتفتتح بها أعمال الخطيبي الروائية والسردية الكاملة، والتي بالمناسبة صدرت عام 2007 في شكل مجلد:
"مثل كثيرين، أعتبرُ عبد الكبير الخطيبي كأحد أكبر كتّاب عصرنا وشعرائه ومفكّريه الناطقين باللغة الفرنسية، وآسف لأنه لم ينل الدراسة التي يستحقها في البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية. يهمّني أن أشير إلى أن أعماله، المعترف بقيمتها بشكلٍ واسع في العالمين العربي والفرانكفوني، هي ابتكارٌ شعري هائل، وفي الوقت ذاته، تأمّلٌ نظري متين يرتبط، من بين موضوعات كثيرة، بإشكالية ازدواجية اللغة وازدواجية الثقافة.
ما يصنعه الخطيبي باللغة الفرنسية، ما يمنحه إياها بترك بصمته فيها، يتعذّر فصله عما يحلله من هذه الحالة، في أبعادها اللغوية، طبعاً، ولكن أيضاً الثقافية، والدينية، والأنتروبولوجية، والسياسية. حسّاسٌ بنوعٍ خاص لمسعاه (خصوصاً، لكن ليس فقط، بسبب أصولي المغاربية)، حاولتُ أن أقول ذلك، بطريقة تعبّر عن امتناني وقرابتي، خلال ندوة جمعتنا منذ بضع سنوات في "جامعة لويزيانا" (نظّمها الشاعران إدوار غليسان ودايفيد ويلس)، وخلال ندوات دولية أخرى.
عبد الكبير الخطيبي ليس فقط كاتباً "يتعذّر تجنّبه"، كما يقال، لمَن يهتم بالأدب الفرنكفوني لهذا القرن، بهذا الأدب حيثما يفيض، ويفكّر، ويحوّل الثقافة الفرنسية، وحيثما يشهد على التاريخ السياسي، والاستعماري، وما بعد الاستعماري، الذي يربط فرنسا بمستعمراتها ومحميّاتها السابقة. فأعماله هي أيضاً "قدوة"، من جهة أخرى، لمَن يهتم بمشاكل "التعددية الثقافية" و"حالة ما بعد الاستعمار" كما يشغف بها اليوم، بشكلٍ مبرَّر، كمٌّ من المثقفين والجامعيين والمواطنين من جميع الأصول." (7)
بالإضافة إلى الشهادات التي سبق ذكرها والتي خصت المفكرين معا جاك دريدا والخطيبي، فيمكن أيضا ، ولتوصيف أكبر، أن نعرض لمؤلفين اثنين ساهما بشكل أساسي في تجسيد الصداقة الإنسانية والصداقة الفكرية اللتين تجمعان الاثنين. الأول أصدره جاك دريدا تحت عنوان: "أحادية لغة الآخر Le monolinguisme de l?autre" والثاني أصدره عبد الكبير الخطيبي تحت عنوان: "Jacques Derrida,en effet" جاك دريدا، طبعا".
كتاب جاك دريدا :
"أحادية الآخر اللغوية "(8) :
هو مؤلف في شكل حوار غير مباشر مع صديقه عبد الكبير الخطيبي يعود فيه بذاكرته إلى أشغال الملتقى الدولي الذي انعقد بلويزيانا بالولايات المتحدة الامريكية سنة 1992 ، والذي التأم فيه ثلة من الباحثين الذين يشتغلون باللغة الفرنسية والذين ينتمون إلى ثقافات متباينة وأمم مختلفة ليتدارسوا فيه أعمال جاك دريدا. لكن دريدا يؤكد على وجود واحد من أهم المشاركين في هذا الملتقى العلمي، ألا وهو صديقه عبد الكبير الخطيبي.
في هذا الكتاب، يؤكد دريدا بأنه يمتلك فقط لغة واحدة وهي اللغة الفرنسية التي هي لغة الآخر أي لغة الاستعمار والثقافة، علما بأن دريدا ازداد في الجزائر وينتمي إلى أسرة يهودية. ورغم إتقانه لعدة لغات أخرى إلا أنه يعتبر نفسه أحادي اللغة، لا يستطيع التكلم إلا بهذه اللغة وفي نفس الآن فإنه يحتاج إلى أكثر من لغة (9).
وركز دريدا اهتمامه أساسا بمؤلف عبد الكبير الخطيبي الصادر سنة 1983 تحت عنوان:"Amour bilingue (حب مزدوج اللغة ) والذي يتأسس حول مفهوم الخطيبي الخاص للغة، لغة يستعملها ويعي أنها ليست لغته ولغة يعشقها بشدة لكنها عصية عليه. يقول دريدا وهو مختلف مع صديقه في مفهومه لإشكالية اللغة تحديدا وفي علاقتها أيضا مع إشكالية الهوية:
".. في ما يخص عبد الكبير الخطيبي فيتخذ من جهته عما يسميه "لغته الأم" ( الأصلية)، اللغة الفرنسية تحديدا، مع أنه يتحدث عنها بلغة أخرى هي اللغة الفرنسية أيضاّ، وهذا ما سارع إلى إفشائه علنا عبر مقاله المخطوط باللغة الفرنسية، ما يجعل من "لغته الأم" (الأصلية) سرا لم يحسن الحفاظ عليه. نعم، إن صديقي عبد الكبير الخطيبي لا يتردد في استخدام "لغتي الأم" (الأصلية) مع أن قشعريرة واضحة تصاحب نطقه لها، قشعريرة يمكن تبنيها بعيدا عن ذلك الزلزال اللغوي الخفي الذي يؤسس لتلك الرتابة الشعرية (الترجمة الأقرب ربما هي: الاهتزاز أو الارتجاج الشعري vibration po?tique ( التي تطبع كل أعماله، مع ذلك يبدو أنه لا يتوانى في استعمال تعبيره السابق "اللغة الأم" (الأصلية)".(10)
ويضيف دريدا قائلا:
".. فالخطبيي يحمل في أذنيه طنين لغة مضاعفة. مع ذلك، فإننا ما إن نفتح هذا السفر الكبير الذي يحمل عنوان "حب مزدوج اللغة "، حتى نجد أن الخطيبي قد اتخذ أما له، أما واحدة وأي أم. فهذا الذي كان يتحدث بصيغة المتكلم بدا يجهر بصوته انطلاقا من لغة أمه. إنه يعود بذاكرته إلى لغة أصلية يكون قد "فقدها"، لكن دون أن يفتقدها. إنه مازال يحتفظ بما فقده، في الوقت ذاته الذي مازال يحتفظ فيه بما لم يفقده أيضا، كما لو أنه كان في مقدوره ضمان خلاصه حتى وإن تم ذلك عبر خسارته الذاتية. لقد كانت لديه أم واحدة وأكثر من أم دون شك، لكن مع ذلك فقد أصبحت له لغته الأم ( الأصلية)، اللغة الأم (الأصلية)، لغة أم (الأصلية) واحدة بزيادة لغة أخرى. هنا يمكنه أن يقول بأن له "لغته الأم" (الأصلية) دون أن يطفو إلى السطح أي أثر لأدنى اضطراب من اي نوع كان." (11)
2- مؤلف عبد الكبير الخطيبي: جاك دريدا، طبعا" :
صدر الكتاب سنة 2007 عن دار المنار بباريس ويتضمن رسوما للفنان الإيطالي فاليريو أدامي.
يندرج هذا المؤلف ضمن ما يسمى بالصداقة الفكرية القائمة على مبدأ القبول بالاختلاف والمحبة، والجدال المثمر والحجاج البناء وضمن ما يصطلح عليه برد الجميل ولكن في إطار عال من المقارعة الفكرية المتميزة والتواصل المعرفي الرصين.
ضم عبد الكبير الخطيبي في مؤلفه هذا، والمخصص لتوجيه التحية إلى صديقه، أربعة نصوص، اثنان سبق أن ألقيا بحضور دريدا . وكل هذه النصوص وإن كانت عبارة عن سجالات فكرية حول مواضيع شتى يتقاسمها الصديقان ،إلا أنها تعبير واضح عن مدى المحبة التي يكنها الخطيبي لصديقه:
نقطة عدم الرجوع
Le point de non retour
هذا النص خصصه الخطيبي أساسا لإعطاء تصوره الخاص بصفة غير مباشرة حول ما جاء به صديقه دريدا من طروحات وأفكار حول اللغة، الآخر والهوية والتي تضمنها مؤلفه الذي سبق ذكره والموسوم ب : "أحادية لغة الآخر "، المرتكز على الافتراضين التاليين:
1- لا يمكننا أن نتكلم إلا لغة واحدة فقط On ne parle jamais qu?une seule langue
2- لا يمكننا أن نتكلم لغة واحدة فقط On ne parle jamais une seule langue
دريدا يتكلم هنا بطبيعة الحال عن اللغة الفرنسية. الخطيبي يضيف هنا بأنها لغة الاستعمار بمعنى لغة الآخر وهذا مهم في إطار تحليل هذه الإشكالية، وربطها بسياقها السياسي والاجتماعي الصحيح. هي رؤية تنتمي بشكل ضمني إلى الدراسات ما بعد الكولونيالية والتي تميز عموما كتابات عبد الكبير الخطيبي منذ "الذاكرة الموشومة" (1971).(12)
يؤكد الخطيبي أن دريدا يتكلم فعلا عن اللغة الفرنسية التي فرضها الاستعمار في الجزائر تحديدا (دريدا ازداد في الجزائر كما نعلم) مقصيا بذلك اللغات المحلية مثل اللغة العربية، اللغة الأمازيغية (تامازيغت) والتي تضم أيضا اللغة التركية وغيرها. (13)
بالنسبة للخطيبي، فاللغة الفرنسية موضوع الإشكالية طرأت عليها تغييرات كثيرة وأصبحت تضم مفردات من اللغات الإسبانية، الإيطالية بفعل عامل الهجرة. يضع الخطيبي مجموعة من الأسئلة أهمها مدى التأثير الإيجابي ربما لعملية تهجين اللغة على الابتكار في مجال اللغة عموما ،والأسلوب بشكل خاص وأيضا كيف تمت عملية محو الصفات مميزات وخصائص اللغات المحلية.(14)
النصوص الثلاثة الأخرى والتي لا تقل أهمية عن النص الأول وتكتسي طابع الاحتفاء بجاك دريدا و يتخذ فيها الخطيبي أسلوب السجال الفكري الغير المباشر مع طروحات صديقه ورؤيته. وهذه النصوص هي :
- "رسالة مفتوحة إلى جاك دريدا lettre ouverte ? Jacques Derrida ":
والتي سبق أن تحدثنا عنها سابقا وسبق نشرها في مجلة. وهذه الرسالة عبارة عن قراءة في كتاب جاك دريدا السالف الذكر: "أحادية الآخر اللغوية ". استهل الخطيبي هذه "الرسالة" بهذا الاستفهام الغارق في الرمزية المشعة :
"كيف يمكن قراءة نصوصك؟ ربما مثل ضرب من القوة في البداية، فكر يفتح طريقاً للتمرد مع اللغة وضدها، اللغة الفرنسية. هذا الفكر يتفرع، هنا، انطلاقاً من عبارة ما، أو تناقض، ربما حنث باليمين، أنت تقول: "لا أمتلك إلا لغة واحدة، وهي ليست لغتي". لكن، من المعتاد التأكيد على أن اللغة الأم هي ملكية أصيلة لأمناء هذا الإرث، كيف السبيل إلى مقارعة إحساسهم بالانتماء لهذه الرابطة ؟ هل نكتفي بالقول بأن اللغة لا تنتمي لأحد؟
لقد أعدت قراءة مؤلفك، أليست رغبة الكاتب أو المفكر هي أن ينقل إلى القارئ حياة مادية وغير مادية، مرقعة بعلاقة انفصال يتعذر هدمها، تنسجها اللغة ويسندها الإٍنسان! لعبة الحياة، لعبة الموت، ولعبة الميراث، مسؤولية راديكالية. غالبا، لا نقبض إلا على الجانب المشرق منها، احتفال واستمتاع بالقراءة، بينما يخمد فعل الكتابة تحت أنقاضها، يتوهج من الداخل بأكبر أناقة ممكنة.
أتصور أن فن القراءة (علاوة على ذلك، كيف يمكن قراءة نص مغري لصديق لا يزال على قيد الحياة؟) يقوم باستضافة هبة الرغبة والنقل الفوري و يمنحها دون مقابل إلى قارئ مجهول. تخلد هذه الرغبة، تتجسد كل مرة في حياة القارئ الروحية، ليس لإغرائه، ولكن من أجل لفت الانتباه إليه. إنه انتقال لا هو طبيعي ولا هو مصطنع. هو انتقال في شكل ابتلاء، تقصي، بل هو بحث عن اللا متوقع إن لم نقل بحث عن اللا مسموع. ما إن يُكتب الكتاب حتى يسقط ضمن ماضي صاحبه، وأنا كقارئ، تشدني القوة الأخرى للماضي التي تتفجر في حاضري. ماضي أنا مسؤول عنه (ولكن تحت قانون أي وصاية؟) وتقع على عاتقي مسؤولية تسلم هذا الإرث من أجل صيانته وتشكيله. هي وصية لا تنتمي لأحد مثلها مثل اللغة الأم. ألا يعتبر هذا من قبيل عقد بإعادة التملك، بتوقيع على بياض، وبدون فائدة، عرضً غير مقنع، هل هذا ممكن؟. ستكون إذن وضعية مثالية من أجل قراءة نصك بثقة". 15 (ترجمتي)
"الاسم والاسم المستعار
Le nom et le pseudonyme"
يتكلم الخطيبي في هذا النص عن إشكالية اللغة ولغة الكتابة تحديدا، مذكرا مرة أخرى بتجربته الخاصة مع الكتابة. هو نص أوتوبيوغرافي أبرز الخطيبي فيه بداياته الأولى مع مغامرة الكتابة وهو لا يزال لم يتجاوز عمره 12 سنة وكانت محاولاته الأولى باللغة العربية. الكتابة باللغة الفرنسية في نظر الخطيبي وكما جاء في هذا النص هي عملية ترجمة في حد ذاتها، وفي إطار هذا التقسيم تتم عملية الكتابة إذن. هي ترجمة فورية كما يؤكد الخطيبي يقوم من خلالها بالتقاط الإشارات والعلامات ونقل دلالاتها من اللغة العربية إلى لغة الكتابة التي هي اللغة الفرنسية. وربما تكون الترجمة حرفية في بعض الأحيان(16).
"صيغ حول الصداقة
يتحدث الخطيبي في هذا النص عن مفهومه للصداقة ودائما في إطار تقديم التحية إلى صديقه الأبدي جاك دريدا. هذه الصداقة التي يتكلم عنها الخطيبي تأخذ عدة أشكال وصيغ. صداقة قد تكون فردية وجماعية. صداقة قد يصل مداها إلى مستوى التحاب . ويعرف الخطيبي التحاب كالتالي: "أن تحب وأنت تفكر". '17)
هذا المستوى الراقي من التواصل الوجداني والفكري يحيل إلى ما يسميه الخطيبي"بالصداقة الثقافية".
خاتمة
ما يشد الانتباه في موضوع صداقة الخطيبي ودريدا هو أن الحدود الفاصلة بين صداقتهما الفكرية والإنسانية ليست سميكة. صداقة تنبني على الصدق، على المكاشفة، على الحوار البناء والمتجدد. صداقة تتأسس على مقارعة الفكر بالفكر دون تجريح مع تكرار العبارة التالية في كل جدال معرفي أو تواصل فكري بين هذين الرمزين الفكريين: "كما يقول صديقي عبد الكبير أو كما يؤكد صديقي دريدا.."
هي صداقة أبدية وإن غاب الرجلان عنا لأن عبر هذه الصداقة تأسست فرضيات، وطرحت إشكاليات ما زالت تغري بالكشف والبحث والتحليل العلمي الرصين. يقول الخطيبي: " الصداقة الفكرية لا تنقضي بموت صديق من الأصدقاء. على العكس من ذلك تستمر وتتناسخ بشكل متفرد من خلال التأبين وأيضا عبر محنة طرد الأرواح الشريرة."(18)
** مراجع وهوامش
1 Khatibi,Abdelk?bir.2007.Jacques Derrida,eneffet.Dessins par Valerio Adami.Paris :Editions Al Manar,p.7.
2 رشيد بوطيببوطيب،"ماذا تعني فلسفة الاختلاف"، جريدة الشرق الأوسط،عدد 8360 ،18أكتوبر 2001.
3 Khatibi, Abdelk?bir.2007.Jacques Derrida,eneffet.Dessins par Valerio Adami.Paris :Editions Al Manar,p.34
.4 Ibid,p.34.
5 Abdelk?bir Khatibi, ? Double Criticism: The Decolonization of Arab Sociology ?, in Halim Brakat,ed.,Contemporary North Africa: Issues of Development and Integration (Washington,D.C.:Center for Contemporary Arab Studies, Georgetown University,1958),p.10.
6 شاكر نوري، "رحيل الفيلسوف الشهير جاك دريدا"،جريدة المدى .
7 جاك دريدا،"ليس فقط كاتبا يصعب تجنبه" ،ترجمة أنطوان جوكي،جريدة العربي الجديد،16 مارس 2015.
8 Jacques ,Derrida.1996. Le Monolinguisme de l 'autre. Paris: Galil?e.
9Ibid,p.25.
10 جاك دريدا،أحادية الآخر اللغوية، ترجمة عمر مهيبل، الجزائر: منشورات الاختلاف،2008، ص69 .
11 نفسه، ص 71.
12 La M?moire tatou?e, roman, Paris, Deno?l, coll. Lettres Nouvelles, 1971 et PocheColl.18/18, 1979.
13Jacques ,Derrida.1996. Le Monolinguisme de l 'autre. Paris: Galil?e,p.24.
14 Ibid,p.24.
15Ibid,pp.33-34.
15Ibid,pp.51-52.
16Ibid,p.69
17Ibid,p.7.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.