خلال الندوة التي نظّمها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أوّل أمس السبت، حول موضوع «الدين والمجتمع»، كان الأستاذ أحمد الخمليشي، مدير دار الحديث الحسنية، واضحا في وضع الأصبع على ما يتهدّد ديننا الإسلامي الحنيف من مخاطر في ظل ما يتعرّض له اليوم من استغلال بشع على يد المنتسبين إليه. لنْ أستعرض هنا كلّ ما جاء من أفكار هامة جدا في مداخلة الأستاذ الخمليشي، وهو ما سنقرؤه مفصّلا في مداخلته التي ستنشرها جريدة «الاتحاد الاشتراكي»، بقدر ما سأقف عند نقطة واحدة وهي علاقة الدين بالسياسة، والتي عرفت بعض أحزابنا السياسية، وعلى رأسها حزب العدالة والتنمية، كيْف تستثمرها في حملاتها ودعاياتها. لقد وظف هذا الحزب الديني كرأسمال سياسي، مثلما هو الشأن في بلدان عربية أخرى، ونجح في ذلك نسبيّا لعدّة أسباب. منها استغلاله ل»الثقافة الدينية» البسيطة للمواطنين، الذين لا يكادون يميّزون، فيما يسمعونه يوميا من فتاوى وتحريم، بيْن ما ينتمي حقّا إلى التشريع، والمقصود به بكلّ وضوح النصّ القرآني والحديث النبوي (وليس اجتهادات الفقهاء)، وبين الآراء التي تكون في معظم الأحيان نتيجة اجتهاد شخصي يدّعي الكلام باسم الله، وبالتالي يصل إلى المواطن باعتباره رسالة مباشرة من الله إليه، مهما تكنْ تفاهة ما يسمع. وبالفعل، لقد سمعنا، خلال الحملة الانتخابية السابقة كلاما وصل إلى حدّ أنّ مَنْ صوّت على رمز المصباح دخل الجنّة، وأنّ ما تدعو ّإليه أحزاب أخرى هرطقة وخروج عن الدين. ثاني الأسباب هو أنّ مشكلة الدين الإسلامي، خلافا للمسيحيّة مثلا، مزدوجة: من جهة، لا وجود لتراتبية دينية داخلية تحدّد بوضوح وبصورة رسمية قطْعية من هو المُجتهد والمُفتي، وبالمقابل هناك كثرة مروعة للمجتهدين الذي لا همّ لهم سوى تحريم ما أحلّه الله. والنتيجة هي هذه الفوضى التفسيرية والتأويلية التي نعيشها اليوم، والتي ليس أقلّها هو أنّ الجميع ينصّب نفسه وسيطا بين الله وبين الناس، مع أننا نعرف بأن الوسيط الوحيد والنهائي هم الأنبياء والرسل. السبب الثالث هو أنّ معظم الناطقين باسم الإسلام، والمستغلّين له على وجه الخصوص، يجهلونه. وأنا شخصيّا أعرف عددا من المتأسلمين الذين لمْ يقرآوا تفسيرا واحدا من أوّله إلى آخره، للرازي أو الطبري أو الزمخشري، وحاشا أنْ يكونوا سمعوا بتفسير القرآن لابن عربي، ولا همْ اطلعوا على ما كتبه الغزالي عن الاجتهاد والتقليد، ولا ابن رشد ولا المعتزلة، ولا حتى ابن تيمية الذين يردّدون اسمه بمناسبة وبغيْر مناسبة. لا يعرفون مثلا أنّ فقهاءنا، قديما، في فقه النوازل وأصول الأحكام، كانوا في غالب الأحيان يميلون إلى تحليل ما لم يردْ فيه نصّ تحريميّ قطعيّ، فيما بتْنا اليوم لا نسمع من الصباح إلى المساء سوى كلام تحريميّ لكلّ شيء حتى وإنْ تعلق الأمْر بجلوس المرأة على الكرسيّ. أمّا السبب الرابع، فهو عدم انخراط أصحاب المعرفة الدينية الحقيقّية في الرّد على كلّ من يستغلّ الدّين لأهداف سياسيّة وشخصيّة، سواء بالكتابة أو بالمواجهة الإعلامية والفضْح العمومي. لقد آنَ الأوان لكيْ تنتصر المعرفة الدينية على الثقافة السائدة التي يزيد في مأساتها الأمّية الدينيّة السائدة. إننا كمواطنين اليوم نعاني، في ظل هذه الأمية والجهْل والفوضى التفسيرية، من تحرّش دينيّ حقيقيّ لا قِبَلَ لبلادنا به. فلا يمكنُ لحزب سياسي مدنيّ له أهداف سياسية واضحة، يمكن أنْ نعتبرها مشروعة، أنْ يضلّل مجتمعا بكامله بمشاريع دينية لا هي بالواقعية ولا بالحقيقية ولنْ تجديَ المواطن البسيط في حياته اليومية التي عرف الجميع اليوم كيْف أنزلها الحزب الحاكم إلى الدَّرك الأسفل، ولمْ يجد في تبرير تراجعها سوى التبرير الأسطوري والغيبيّ بالعفاريت والتماسيح. أما مسؤولية الدولة، فلا داعيَ لتكرار أنها تتجلى في تحصين الشأن الديني بمؤسسات حقيقة وقويّة.