نحن الان في حضرة فضاء المقام، يتطلب منا الأمر أن نُمرِّن أعيننا على كيفية النظر الى لوحة تشكيلية، أو قطعة منحوتة، أو ذلك التنوع النباتي.. نحن الآن في حضرة فضاء المقام، نقف أمام مساحة فنية مقتطعة من منطقة مهمشة اسمها تحناوت، فضاء يسمو بمقامك الى سدرة منتهى الإبداع حيث المرابطي ابن درعة الذي ترعرع في البيضاء ليفرَّ من البحر نحو الجبل، ليطاول شموخ الأطلس بشموخ إبداعٍ نقي، في مخياله امتدادُ الواحة عبر الوادي، ونخيلٌ يناجي أبراجَ قصباتٍ لإبداعٍ هندسي ممتد عبر تاريخ فني يحكي الف حكاية عن مجتمع يكاد يكون الإبداع بالنسبة له كالهواء والماء بل هو خُبزه اليومي.. هو الآن بين مدينة زاخرة بثراث كوني إنساني، وبين شموخ جبالٍ لا يُناجي طُهْرَ شموخها إلا من يعشق الجمال ويدرك أن الحياة بدون فن هي موت.. وهكذا هو محمد المرابطي التشكيلي الذي أدرك ان الوقوف فقط أمام لوحة مهما علا إبداعها لن ترقى إلّا بفضاءٍ بمقامٍ عالٍ، هو مشتلٌ لكل الإبداعات واللوحات، ومحجٌ لكل المبدعين من مختلف صنوف الإبداع.. في ليلة من ليالي شهر ماي 2014 هربتُ من مهرجان مخزني بتحناوت، ودون أن أفكر كثيراً وجدتني أمام باب فضاء المقام، وجدت محمد المرابطي قد عاد من تونس قبل ساعات معدودة فقط ، ما إن اقتحمت عليه المكان حتى عبّر عن تِرحابه بابتسامةٍ لم يخفيها شاربُهُ ولحيته، وكعادته، لابد أن يكون إلى جانبه مبدعٌ، كان معه معلم كناوي بطاقيته المراكشية، فكانت لحظةً لإبداعٍ مغربي أصيل.. وكان معهما أيضا صديقٌ ليس ببعيد عن الإبداع والعشق والجمال.. قلت للمرابطي لقد هربت من مهرجان مللت رتابته وفَلْكلَرَتُه.. ابتسم، وقال : الواقع أنني بعيد عن هذا المهرجان الذي لو كان مهندسوه يصغون للمبدعين لخلقوا منه محجا سنويا متميزا وبخصوصية الإقليم.. هنا يوجد أُناسٌ لهم القُدرة على الإبداع، وهناك مواهب متعددة، لكن في غياب البنيات التحتية وفي غياب الإرادة السياسية تموت كل هذه المواهب حيث تصطدم بصخرة التهميش.. قلت للمرابطي: فضاء المقام تجربةٌ لفعلٍ فني ثقافي في مدينة على هوامش مراكش، فلماذا تحناوت بالضبط؟ أجاب قائلا: هنا كنت أقضي عطلتي في الجبل، فكما تعلم رغم أنني من الجنوب غير أنني عِشت في البيضاء مجاورا البحر، فكانت الفضاءات البعيدة من البحر تستهويني أكثر، اولاً لتغيير الرتابة، وثانيا لاكتشاف عوالم هذا الفضاء الفسيح والممتد في فضاءات العلو والشموخ والجمال.. قلت : فضاء المقام مأوى ثقافي استقطب اسماء لامعة في عالم الآداب من شعراء وقصاصين وروائيين وفي عالم الفن من تشكيليين ونحاتين ومسرحيين وسنمائيين وإعلاميين ومفكرين، حتى ان قاعة مهمة في هذا الفضاء تحمل اسم عمران إدمون المليح.. قاطعني المرابطي قبل ان ابني علامة استفهامي لأن الرسالة وصلته من نصف الجملة فقال: الرأس مال الذي لا ينتهي ولا ينضب بئره هو هذا الذي قلت، فلم أكن لأجري وراء المال لأنني لو أردت ذلك لاستثمرت في مجال آخر، لكن أن يكون هنا المبدع الراحل أدمون عمران المليح فهذه ألماسة نفيسة لا تقدر بثمن حتى انني جئت بحجرة قبره التي غيروها لتكون بالمقام على مقربة من القاعة التي تحمل اسمه، وأن نحتفي في هذا الفضاء بإدريس الخوري فهي لحظة لا يمكن نسيانها، فكأنك في عالم لا متناهي، يتدفق عِشْقا وجمالا وإبداعا، قد لا تكفي كل صفحات الجريدة لأعد أسماء الكتاب والمبدعين، مغاربة وعرب وأجانب ممن أقاموا في هذا المقام.. هنا كان عبد الكريم الخطيبي، ادريس الخوري، حسن نجمي، أحمد التوفيق، محمد الرحماني بن شارف، الكاتب الفرنسي الكبير ميشيل سيتور، الكاتب الإسباني المقيم في مراكش خوان كويتسولو ، دانيال بلغات، الرسام الفرنسي جاك لور ،إليزابيت كيكو، دون ان أنسى السنمائي سعيد الشرايبي والفنان الدرهم ومولاي عبد العزيز الطاهري، ولن أنسى الإعلامي والناقد مصطفى النحال، وصديقي وعزيزي المصور والتشكيلي المبدع أحمد بن اسماعيل الذي اعتبره داهية ويتميز بالثقة والأمانة والصراحة والصدق.. الواقع يقول المرابطي انني كنت أفكر في فعل ثقافي يخلد للجمال والإبداع ويؤسس لثقافة الاعتراف باعتبارها أس النبل الإنساني وخلق تقليد ثقافي حتى يكون الفعل الثقافي في صلب المجتمع.. سنة 2000 فكرت في مقهى ادبي، وفي سنة 2002 أسست هذا المأوى الثقافي والذي أصبح وجهة وقبلة لعدد من المثقفين والفنانين ورجال الإعلام والسياسة . ومنذ افتتاحه قبل حوالي اثني عشر سنة احتضن هذا الفضاء العديد من الفعاليات الثقافية إما على شكل معارض فنية في التشكيل والنحت والفوتوغرافية، واستضاف ملتقيات وندوات، ونظمنا حفلات تكريم لأدباء مغاربة وفنانين من داخل المغرب وخارجه اخر هذه التكريمات كرم المقام المغربية اليهودية إيزة جينيني . وهي منتجة سينمائية أنتجت العديد من الأفلام الوثائقية عن المغرب أشهرها .فيلم الحال عن مجموعة ناس الغيوان .. الفضاء يضم قاعة للعروض ومكتبة ومراسم، إضافة إلى مطعم وغرف للإقامة ،وهي أول إقامة ثقافية من نوعها في المغرب. قلت للمرابطي: كان لي الشرف ان أدلي بشهادة في حق الأديب المبدع ادريس الخوري خلال الحفل التكريمي الذي أقمتموه على شرفه ، عندها اكتشفت أكثر الإشعاع الثقافي لهذا الفضاء. لكن ورغم هذا الدور الكبير في إشعاع هذه المنطقة ثقافيا تعرضتَ إلى مضايقات جعلتك تتخذ قرارا خطيرا بأغلاق هذا الفضاء.. قال المرابطي : كان ذلك قبل سنتين، حينها عمِدت عناصر من الدرك وبدون سند قانوني إلى مضايقتي ومضايقة العاملين ورواد المقام بدعوى الحفاظ على الأمن والسلامة. بل بلغ بهم الأمر، إلى حدّ الهجوم على المقام واعتقال أحد العاملين به وابتزازه بحجج واهية لم تعهدها المنطقة من قبل. وأمام هذا الوضع قررت عندها إغلاق الفضاء، لكن الذي أفرحني اكثر هو المساندة الكاملة لكل الفعاليات الثقافية والإعلامية، بل تم فتح توقيعات ضد هذا التصرف الذي يهدف الى قتل الفعل الثقافي بأسلوب سنوات اعتقدنا انها انمحت من البلاد.. لكن اليوم عادت الأمور الى نصابها وفضاء المقام مستمر في فعله الثقافي بجد وله صيت كبير خارج الوطن.. قلت له من خلال هذا الصيت ونظرا للدور الكبير الذي يلعبه فضاء المقام ثقافيا كنت مؤخراً في ضيافة تونس، قال: بالفعل دعاني الفنان التونسي كمال الأزعر، وهو فنان مجتهد و لديه مؤسسة، ويؤسس لمتحف المغرب العربي للفن التشكيلي، وهو من المعجبين بتجربة فضاء المقام، وبالطبع دعاني للحديث عن هذه التجربة التي اصبح لها صيت وتعد نموذجا يمكن الاقتداء به في أقطارنا المغاربية.. قلت له، بعض المبدعين أعجبتهم لعبة السلطة وتحملوا المسؤولية؟. صمت قليلا، تأملني وكأنه انتظر هذا السؤال الذي خطر في بالي حين تحدثنا عن بعض المثقفين ممن تحملوا مسؤوليات إدارية ووزارية فقال: أنا ضد ان يكون الفنان وزيرا أو إداريا، ان يعطي النصيحة،نعم، ان ينتقد،نعم، ان تتم استشارته، نعم، لكن أن يتحمل المسؤولية فأنا ضد ذلك لان الفنان حين يتحمل مسؤولية إدارية يفقد حريته، والحرية هي الأوكسجين الحقيقي للمبدع.. طال بنا الحديث في ليلة منسومة بإيقاع كناوي هاديء تحت ظلال ضوء خافت، وضيوف المقام من بعض الأجانب سرقوا منا المرابطي للحظة قبل أن يجلس بعضهم الى جانبنا بعد ما استقطبهم هجهوج المعلم الكناوي.. لم أستطع مقاومة الانغماس ومناجاة هذا الإبداع، لكن صخب مراكش ومناداة الطريق جعلتني أودع صديقنا المبدع محمد المرابطي لأجدني وراء المقود والتهام الكليومترات وتلبية نداء النوم وكل تلك الصور الجميلة تؤنسني في طريقي تم بعدها في نومي..