مفاجآت الحياة دوما غريبة، تباغتنا بأشياء غير منتظرة.. تتركنا ننتظر الأمل أمام الأفق فإذا بالمصائب تترصدنا من الخلف. هكذا هو واقعنا المريض، سخيف ومستفز ومثير للغثيان.. ففي الوقت الذي كان فيه المغاربة ينتظرون أن يروا من أثبت المجلس الأعلى للحسابات اختلاساتهم وسرقاتهم وسطوهم على المال العام، في الوقت الذي كنا ننتظر فيه أن يطبق مبدأ العقاب والحساب ضد المرتشين والخونة، في الوقت الذي كنا ننتظر فيه أن نتنفس هواء المغرب الجديد ونلمس واقع الاستثناء الذي خلقه خطاب الملك للتاسع من مارس.. أمام كل هذه الانتظارات، وغيرها كثير، يتم اعتقال رشيد نيني الذي لم يجف قلمه سنين طوالا وهو يتعقب هؤلاء المفسدين الذين يعيشون فوق القانون وفوق الحق وفوق مصلحة البلاد كلها. سنوات طوال، تعب الكثيرون ورشيد لم يتعب ولم يخف ولم يستسلم لكل أشكال المضايقات والمساومات لإخراس صوته ووأد كلمته والإجهاز على حلم هو مبتغى كل المغاربة، صحافة حرة مستقلة وخبر يقين. الرسالة وصلت وشبابنا استوعبها جيدا، كن لصا ومختلسا ومحتالا ومدمرا لمُثل البلاد وقيمها، كن مرتشيا ومستغلا وناهبا.. كن ما تريد، لكن لا تكن حرا ولا وطنيا ولا حالما ولا ثائرا.. هكذا هي رسالة العهد الجديد التي يريدنا أعداء التغيير أن نفهمها ونتبعها، وإلا فما تفسير هذا الاعتقال المثير للسخرية الذي يطال قلما قويا جريئا صارخا مربكا كقلم رشيد، وهل يشكل هذا الصحفي خطرا على البلاد والعباد حتى نحتجزه ونترك مجرمي الوطن الحقيقيين الذين أصبح كل الناس يعرفونهم؟ هل هو انتقام أم تنكيل برجل حر رفض أن ينحني وأن يسبح مع التيار؟ هل هي سلطة الغاب حيث الغلبة للقوي الذي يلتهم الأضعف منه حيلة وسلاحا؟ لم يكن الصحفي يوما مجرما، ولم تكن الصحافة يوما أداء لتلميع نجوم السلطة، إنها السلطة في كامل تجلياتها، وقلم الصحفي سلاح عابر للقارات يخبر ويفضح ويروي ويسائل ويناقش ويسخر ويعبث طبعا في حدود ما يسمح به قانون الصحافة الوطني والدولي، وإن أخطأ الصحفي فقانون الصحافة، وليس قانون الإرهاب أو القانون الجنائي، هو ما يطبق في حقه. هناك جو مضطرب من عدم الفهم، ولفحات من الشك وخيبة أمل تراها وتحسها في وجوه الناس عقب اعتقال رشيد نيني والزج به تعسفيا في السجن ومعاملته كمجرم لم يقدم يوما شيئا إلى الوطن، فيما شباب كثيرون مدينون لرشيد بعمود يومي يتقاسمون فيه الهموم والمعاناة والأمل، قراء كثر ربطوا جسر ود مع ما يرويه رشيد في عمود «شوف تشوف» لأنه كان يتكلم بالنيابة عنهم، يقول ما يعجزون عن قوله، خوفا أو خجلا أو شكا أو خنوعا، يقول ما لا يتجرأ على قوله إلا صحفي جعل حياته وقلمه وفكره في خدمة المنسيين والمهمشين والمظلومين، جعل قلمه مدفعا صوّب فوهته نحو المفسدين والخونة والمرتزقة والظالمين.. نحو جلادينا الذين لا يترددون في تذكيرنا، كلما رغبنا في الفرح، بأنهم هنا، يحيون ويكبرون ويسيطرون على حاضر ومستقبل البلد كما كان لهم ماضيه. حبس رشيد نيني هو حبس لنا جميعا، فلا حديث ولا سؤال إلا عنه وعن صحته ومعنوياته ومآله.. كل الناس تندد بهذا الاعتقال الجائر الظالم، والكل يرفع كفيه بالدعاء لرشيد كأن من اعتقلوه لا ينتمون إلى هذا الوطن، كأنهم أعداء قادمون من بعيد، وليسوا أبناء له، يشربون ماءه ويستنشقون هواءه. لقد طالت المهزلة.. وليس حرمان رشيد وهو وحيد في زنزانته الانفرادية من ورقة وقلم إلا دليل على ما شكله قلم رشيد كل هاته السنين من إزعاج وإرباك لمن يتلذذون الآن بحرمانه القلم. وفي الحقيقة، اكتشفت أنهم بسلوكهم المخجل لا يعرفون رشيد، ذاك الغائب الحاضر الذي يكتب في صمت، ويصرخ في صمت ويتألم في صمت حبا لوطن يسكنه ويؤرقه ومستعد للموت من أجله. أطلقوا سراح رشيد، كي نوقف النزيف.. أما الجرح فسيظل كالوشم على جبين الوطن.