إفريقيا لم تكن دائما سيدة قراراتها،صحيح أنها حصلت على استقلالها السياسي، لكن استقلال المؤسسات والشخصيات التي تتعاقب على حكم البلدان المشكلة للقارة يبدو أنه مازال بعيد المنال في ظل التطاحنات العسكرية والمطامع التي تحرك الرغبة في الاستيلاء على الحكم. الإعلام، بدوره، له نصيب من التأثير الممارس على حكام إفريقيا. فغياب الديمقراطية الحقيقية يجعل حكام القارة السمراء في تبعية دائمة لإعلام يلمع صورتهم مقابل عطايا مادية هائلة. كل مقال له ثمنه. «جون أفريك»، الأسبوعية التي أسسها الوزير التونسي الأسبق البشير بن ياحمد، واحدة من هذا «اللوبي» الإعلامي الذي يعرف كيف تؤكل كتف إفريقيا. حتى سنة 2004، كانت موريطانيا هي البلد الوحيد الذي دفع كل مستحقاته للصحيفة، والبالغة 500 ألف أورو، بينما تأخر الآخرون بعض الشيء في دفع ما بذمتهم لها. 994 ألف أورو في ذمة المغرب، 950 ألف أورو للجزائر، 850 ألف دولار أمريكي لرواندا. ثلاثة عقود أخرى تضاف إلى بقية العقود، وتوجد وراءها شركة «جاد»، المتخصصة في الديكور والأثاث، التي تدور في فلك بن ياحمد. أحد هذه العقود ينص على أن يؤدي الغابون، في ما بين يوليوز 2003 ويناير 2006، المبلغ الضخم الذي يعادل 2.9 مليون أورو على ست دفعات، والذي يفوق بكثير قيمة الدين المستحق على الكاميرون ل «جون أفريك» والبالغ مليون أورو، والدين المستحق على جزر القمر البالغ 250 ألف أورو. ولا يمكن للمرء إلا أن يندهش أمام ضخامة المبلغ الإجمالي الذي يفوق 8 ملايين أورو. هنا كذلك، وحتى إن كانت هذه المبالغ تثير الدهشة، فإن طريقة تدبرها لا تشوبها غرابة. فهل من صحيفة يمكنها الادعاء بأنها يمكنها أن تعتمد على مبيعاتها فقط؟ أما الخط التحريري، فالذين يعاتبون سي البشير على غيابه يرد عليهم بأن المقابر مملوءة بالصحف التي كانت لها خطوط تحرير واضحة. تحليل بسيط لمضمون «جون أفريك» يكفي للوقوف على مرونة الأسبوعية التي لا يجادل فيها أحد، لاسيما عندما يتحول العنوان إلى إحالة إلى إعلان عن طلب عروض. بشرى، إذن، للذين يدفعون بسخاء ويحافظون على سخائهم. لقد خصصت الأسبوعية «ملحقها الإضافي» الصادر بتاريخ 26 مارس 2006 لما سمته ب«تغيير الحقبة» في موريطانيا، وتضمن الملحق 15 صفحة إعلانية، لكن الأدهى من ذلك ما كتبه فرانسوا سودان في تقديمه الافتتاحي. في مقدمة مقاله، امتدح سودان انقلاب 3 غشت 2005، الذي «اعتبره جزء كبير من الموريطانيين مفاجأة إلهية»، قبل أن ينخرط في محاكمة بعدية ل«الانحرافات الأمنية على عهد نظام معاوية ولد سيدي الطايع»، الذي جاء هو الآخر إلى الحكم بعد انقلاب. لقد كان تحليلا رائعا بقلم صحافي لم نقرأ له من قبل مثل هذه الحدة النقدية تجاه النظام الموريطاني السابق. كان المقال تكريما ل«موريطانيا التي أصبحت أحسن حالا وفي قطيعة تامة مع ردود الفعل القديمة وعللها الداخلية». وهل يجب الإيمان بالعهود التي قدمها الكولونيل ولد محمد فال ولجنته العسكرية؟ «الجواب واضح، وهو نعم.» وماذا عن الإعلان عن تنظيم الانتخابات العامة سنة 2007؟ هو «إشارة قوية للانفتاح الديمقراطي». وماذا عن الرغبة التي أفصح عنها الضابط الجديد بعدم المشاركة في اقتراع الناخبين؟ هو «قرار يستحق التنويه لاسيما أن الجميع في موريطانيا، بدءا من المعني نفسه، يعرف أن المرشح فال لن يحتاج إلى حملة انتخابية للفوز في الدور الأول». وعندما يدعو سودان في بقية مقاله إلى «إعادة تنظيم قطاع الصيد» فإن القارئ الفاطن مدعو إلى توجيه تحية خاصة للكاتب على حسه العالي في الإيحاءات المبطنة. فمدير «جون أفريك» يعرف أكثر من غيره الإشاعة الرائجة في نواكشوط وأروقة الصحيفة التي تقول إنه يملك تراخيص في المجال والتي هي بمثابة هدية ورثها عن عهد ولد الطايع. أما مسك ختام المقال فعندما يتحدث مرة أخرى عن الانقلابي المبعوث من السماء للشعب الموريطاني، ويصفه ب«الديمقراطي المثالي»... قبل ذلك، ومنذ شتنبر 2005، كانت الأسبوعية بدأت انعراجها المفاجئ التمهيدي. ففي مقال تحليلي طويل بعنوان «ربيع نواكشوط»، نجد فرانسوا سودان يخيط صك اتهام للرئيس المهزوم. إذ يكتب أن معاوية ولد سيدي الطايع «انقطع شيئا فشيئا عن حقائق بلاده إلى حد أنه أصبح يعجز عن الانتباه لعلامات الضجر عند أقرب المقربين منه، ولبوادر الطلاق الذي كان يبدو وشيكا». فهل هو الشخص نفسه الذي كان، قبل أقل من سنتين، يرسم صورة، منبها قراءه إلى أن «لا يقللوا من شأن (معاوية)»؟ وأنه «الرئيس الموريطاني، وهو في سن الثانية والستين من العمر، يبدو أكثر صرامة، وحنكة وأكثر إصرارا من أي وقت مضى.» سيتساءل القارئ كيف تستر طويلا على رئيس مستبد قبل أن يكتشف سنة 2005 أنه «خجول ومتحفظ» ومنغلق على نفسه في «رؤية أمنية صرفة»، ومتهم بتدبيره «بضبابية» الوعود بوجود ثروات بترولية هائلة في بلد «يجري في مسيرة مجنونة نحو النفق المسدود». أما المقارنة بينه وبين الحاكم الجديد الذي أطاح به فصارخة. إذ يقول عن هذا الأخير إنه «نبيه ومنفتح» وإنه ظل دائما يولي أهمية كبيرة ل«القضية الاجتماعية والفقر والفوارق الصارخة التي تميز المجتمع الموريطاني». لكن هل كان هذا المديح، وحده، كافيا للتأثير على قادة النظام الجديد من أجل رد الجميل للصحيفة؟ ربما، إلا أنه سيكون من الأفضل الرفع من حظوظ الاستمالة بدل الاكتفاء ببعض الحظوظ..