لم يكتب لحركة القائد أحمد النقسيس أن تحقق كل أهدافها، فمع أنه تمكن من دخول سبتة والنكاية بالمحتل الإسباني فيها، إلا أن رجاله سرعان ما عادوا أدراجهم وغادروا المدينة بعد وصول النجدات الإسبانية إليها، وقد علل بعض المؤرخين تأخر أحمد المنصور السعدي عن القيام بعمل عسكري حاسم في سبتة إلى رغبته في الدخول في حرب طويلة الأمد ضد إسبانيا، وذلك لا يتم من خلال مناوشات معزولة، فإسبانيا في ذلك الحين كانت قوة عسكرية لا يستهان بها وجنودها وصلوا إلى أمريكا وأنشؤوا فيها مجموعة من المستعمرات، مما هيأ لدولتهم موارد إضافية تجعلهم في وضع اقتصادي مريح. وهكذا، فإنه من المنطقي أن يفكر المنصور في إعداد العدة قبل الدخول في أي معركة مع الإسبان، إذ سيبدأ أولا بوضع خطة لحسم معارك الجنوب الإفريقي ثم سينتقل لانتزاع بقية الثغور المغربية من أيدي المحتلين ووضع خطة محكمة لمحاصرة الجيوش الإسبانية في قلب القارة الأمريكية لقطع كل أشكال المدد عن دولتهم، وهذا ما كشفت عنه الرسائل المتبادلة بين المنصور وملكة إنجلترا ويبدو أن طموح العاهل المغربي لم يقف عند هذا الحد، فقد فكر في استعادة الأندلس وشرع في الإعداد لذلك لولا أن عاجلته المنية. المنصور يحرر أصيلا تحولت أصيلا خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلادي، بسبب موقعها المطل على المحيط الأطلسي، إلى مدينة استراتيجية بامتياز، مما سيجعلها محط أطماع مجموعة من الإمبراطوريات الاستعمارية التي كانت ترغب في تحويلها إلى قاعدة بحرية تنطلق منها السفن المتجهة إلى أمريكا، وقد احتلتها دولة البرتغال أولا ثم خرجت عن سيطرتها بعد هزيمتها في وادي المخازن، واحتلها الإسبان بعد ذلك، وفي 30 من شتنبر سنة 1589م هاجم الملك المنصور أصيلا ويصف المؤرخ الفشتالي صاحب «مناهل الصفا « تفاصيل الهجوم الذي استهدف المدينة فيقول: «لقد جرد أمير المؤمنين صارم عزمه لاستخلاص هذه المدينة التي هي في الإسلام كاسمها (أصيلة) 000ولما أراد الله إنجاز وعده، بعثوا بعثة الخداع في مستقر الإسبان ليلا وأجهضوهم مجفلين من الذعر، فركبوا البحر ليلا وطاروا بأجنحة الغربان إلى منجاتهم وخرست ألسن النواقيس وارتفع صوت الأذان بالمآذن»، وقد عمت البشرى كل أرجاء المغرب حين تناقل الناس أنباء تحرير أصيلا، ودبج الشعراء بتلك المناسبة أجمل القصائد، ومن بين تلك القصائد التي احتفت بتحرير أصيلة رائية أبي فارس عبد العزيز الفشتالي التي يقول فيها: بكر الفتوح لكم تهلل بشرها \ وافتر عن شنب المسرة ثغرها وعقيلة الأمصار وهي أصيلة \ أنت العزيز أطاعك مصرها خضعت لكم بخضوعها الدنيا وقد \ لباك من بطحاء مكة صخرها والظاهر أن تحرير أصيلة لم يكن غير نقطة انطلاق لسلسلة من الجهود العسكرية والديبلوماسية الهادفة لاستعادة النفوذ المغربي على الصعيد الدولي، خاصة بعد احتدام الصراع بين القوى العظمى التي كانت تحاول تقسيم العالم وفق مصالحها. لقد تحول العالم يومئذ إلى حلبة سباق وتحولت الدول العظمى إلى أفراس رهان وكان من البديهي أن يعقد المغرب تحالفات على غرار كل الدول، وأن يميل بسبب رابطة الدين إلى العثمانيين، وقد توجه إليهم رأسا بعد انتصار أصيلة للتباحث حول سبل تطوير العلاقة الثنائية بين البلدين، ولتدارس المستجدات في حوض البحر الأبيض المتوسط الذي كان يمثل حينها مركز ثقل العالم. الاستعداد لتحرير الأندلس كشفت سلسلة من الرسائل المتبادلة بين العثمانيين والمغاربة أن المنصور بذل جهدا كبيرا من أجل إقناع الأتراك بضرورة توحيد الصفوف لمواجهة التحديات التي كان يعرفها العالم آنئذ، وقد أثار العاهل المغربي قضية المورسكيين، الذين تعرضوا للتهجير والإبادة داخل إسبانيا، وشدد على أهمية تقديم الدعم لهم. كان العاهل المغربي على علم بالاتفاق الحاصل بين فرنسا والعثمانيين لضرب إسبانيا، ولهذا سيستغل الوضع لتأليب الأتراك على إسبانيا. وتشير المصادر التاريخية إلى أنه في الوقت الذي كان المغرب يستقبل سفراء الإسبان الذين حملوا إليه رسالة من الملك فيليب، يدعوه فيها إلى الوقوف على الحياد فيما يتعلق بتنصيب أنطونيو ملكا على البرتغال، بعدما ألحق فيليب دولته بالعرش الإسباني، كان المنصور يجهز أسطوله وآلاته الحربية استعدادا للعبور إلى الأندلس، غير أن فيليب تفطن لمخططاته وأوعز إلى الأمير الناصر بن الغالب بالله كي يتحرك ضد إخوانه السعديين، وأمده بالمال والرجال والعتاد فنزل بجيوش جرارة عام 1595م بمليلية، لكن حركته منيت بفشل ذريع، مما سيدفع الملك فيليب للتملص من مسؤوليته عن الحادث في رسالة بعثها على جناح السرعة للمنصور. إن حركة الأمير الناصر حتى وإن أخفقت في بلوغ هدفها، إلا أنها كبدت المغرب خسائر فادحة كان من البديهي أن تعطل مشروع فتح بلاد الأندلس، وأن تستنزف خزينة الدولة. تصمت المصادر التاريخية عن بقية أخبار الاستعدادات العسكرية التي أشرف عليها المنصور لغزو الإسبان في عقر دارهم، لكن الوثائق الدبلوماسية تكشف أن التباحث مع إنجلترا حول ضربهم في قلب المستعمرات الأمريكية ظل مستمرا ولم يتوقف إلا بعد موت ملكة أنجلترا وملك المغرب .