أمير الكويت يقرر حل مجلس الأمة ووقف بعض مواد الدستور لمدة لا تزيد عن 4 سنوات    هلال: المبادرة الأطلسية مقاربة متبصرة    اضطرابات في حركة سير القطارات ما بين 12 و26 ماي نتيجة أشغال تأهيل منشآت التشوير بين الدار البيضاء والقنيطرة    صرخة مغربية نصرة لفلسطين وغزة ورفضا لاجتياح رفح    المغرب يحدد موعد النسخة ال 20 لمناورات الأسد الافريقي    أمير الكويت يعلن حل مجلس الأمة وتعليق العمل ببعض مواد الدستور ويقول:"لن أسمح بأن تستغل الديمقراطية لتحطيم الدولة"    أمريكا تمنح 2.5 مليون دولار لثلاث منظمات أممية بالمغرب لدعم جهود مكافحة الاتجار بالبشر    بنسعيد: المغرب منخرط في خلق صناعات ثقافية وإبداعية قوية وتنافسية    فرقة كانديلا ارت الفنيدق- تطوان تترافع عن التراث الوطني في المهرجان الوطني لهواة المسرح بمراكش    القضاء المغربي يصدر اول حكم لصالح مواطنة اصيبت بمضاعفات صحية بسبب لقاح كورونا    الفيضانات أفغانستان تودي بأكثر من 200 شخص    الإمارات تستنكر تصريحات نتنياهو حول دعوتها للمشاركة في إدارة غزة    مدرب عالمي يهاجم بقوة المغربي حكيمي    المغرب يُؤيد منح فلسطين عضوية كاملة في الأمم المتحدة    طقس حار وضباب اليوم السبت بهذه المناطق    فيديو لمعلمة تصفع طفلاً من ذوي الإعاقة يثير موجة استياء في الأردن    اسبانيا تدرس طلبا تقدمت به المغرب لتسليمه مجرم خطير    تزايد أعطاب أسطول النقل الحضري يسائل البكوري    معلومات استخباراتية مغربية تطيح بمهرب مخدرات مشهور بإسبانيا    الخطايا العشر لحكومة أخنوش!    القنصل العام للسنغال بالداخلة ينفي وجود مهاجرين سنغاليين عالقين بالصحراء المغربية    المغرب يشيد بطلب حصول فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة    سحب 317 "رخصة ثقة" من "سيارات الأجرة في مدينة واحدة بسبب ممارسات مخالفة للقوانين    هل تدق بريطانيا اخر المسامير في نعش "البوليساريو"؟    طقس السبت.. أجواء حارة ونزول قطرات مطرية بهذه المناطق    أطروحة نورالدين أحميان تكشف كيف استخدم فرانكو رحلات الحج لاستقطاب سكان الريف    الصين: 39,2 مليار دولار فائض الحساب الجاري في الربع الأول    بأگادير : وبحضور الاستاذ عزيز الرباح انتخاب السيدة سميرة وكريم رئيسة فرع جهة سوس ماسة لجمعية المبادرة "الوطن أولا ودائما"    مزور تستقطب شركة عالمية رائدة للمغرب    تصفيات كأس العالم لكرة القدم النسوية لأقل من 17 سنة .. المنتخب المغربي يفوز على نظيره الجزائري    "الطاس" ترفض الطلب الاستعجالي للاتحاد الجزائري لكرة القدم    خبراء يناقشون حكامة منظومات التربية    منتخب "لبؤات الأطلس" يكتسح الجزائريات    هكذا ساهمت دبلوماسية روسيا والصين في مقاومة "طالبان" للضغوط الغربية    143 دولة تدعم عضوية فلسطين بالأمم    اللعبي: القضية الفلسطينية وراء تشكل وعيي الإنساني.. ولم أكن يوما ضحية    لحجمري ينصب 3 أعضاء جدد في الأكاديمية    القطاع السياحي يسجل رقما قياسيا بالمغرب    المغرب يسجل 26 إصابة جديدة ب"كورونا"    تفاصيل قاعدة عسكرية مغربية جديدة لإيواء الدرونات والصواريخ    مدرب الجيش مطلوب في جنوب إفريقيا    جديد موسم الحج.. تاكسيات طائرة لنقل الحجاج من المطارات إلى الفنادق    صدمة جمهور الرجاء قبل مواجهة حسنية أكادير    الشركات الفرنسية تضع يدها على كهرباء المغرب    "طاس" ترفض الطلب الاستعجالي للاتحاد الجزائري لكرة القدم    المغرب..بلد عريق لا يبالي بالاستفزازات الرخيصة    الأمثال العامية بتطوان... (595)    شفشاون على موعد مع النسخة الثانية من المهرجان الدولي لفن الطبخ المتوسطي    بتعليمات ملكية.. تنظيم حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية لحج موسم 1445 ه        بورصة الدار البيضاء تستهل تداولات الجمعة على وقع الارتفاع    هل يجوز الاقتراض لاقتناء أضحية العيد؟.. بنحمزة يجيب    خبير في النظم الصحية يحسم الجدل حول لقاح أسترازينيكا    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    سابقة بالمغرب .. حكم قضائي يلزم الدولة بتعويض متضررة من لقاح كورونا    ندوة دولية حول السيرة النبوية برحاب كلية الآداب ببنمسيك    أصالة نصري تنفي الشائعات    سبع دول من ضمنها المغرب تنخرط في مبادرة "طريق مكة" خدمة لضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مضيق جبل طارق.. عبور على مر الأزمنة
نشر في المساء يوم 21 - 04 - 2008

مضيق جبل طارق يمكن تشبيهه باتحاد إفريقي حقيقي، إنه البحر الذي جمع في أحشائه جنسيات كل البلدان الإفريقية، بدءا بالمغرب والجزائر، ومرورا بالسنغال وموريتانيا ومالي، وانتهاء بليبيريا ورواندا والغابون وتنزانيا والكامرون وبلدان أخرى كثيرة.
الإحصائيات التي تتوفر عليها هيئات ومنظمات إنسانية تقول إن مضيق جبل طارق ابتلع حتى الآن أزيد من 15 ألف إنسان، وهم طبعا من المهاجرين السريين الذين جربوا محاولة الهرب من الفقر إلى الغنى، فانتهوا في قعر البحر في مصير لم يكن أحد منهم يتمناه أو يتوقعه.
مضيق جبل طارق يمكن تشبيهه باتحاد إفريقي حقيقي، إنه البحر الذي جمع في أحشائه جنسيات كل البلدان الإفريقية، بدءا بالمغرب والجزائر، ومرورا بالسنغال وموريتانيا ومالي، وانتهاء بليبيريا ورواندا والغابون وتنزانيا والكامرون وبلدان أخرى كثيرة.
ومنذ بداية تسعينيات القرن الماضي، تحول هذا المضيق إلى مقبرة كبيرة، كبيرة جدا إلى درجة أنه مستعد لاستيعاب آلاف الغرقى الجدد من دون أن يرف له جفن.
ومنذ أن زعمت الأساطير أن هرقل العظيم فصل إفريقيا عن أوروبا بعضلاته القوية، فإن هذا المضيق ظل دائما مثيرا للحيرة والاستغراب. إنه بمثابة نهر صغير يفصل بين قارتين مختلفتين جدا.
أساطير الأولين
قبل حوالي مائة ألف عام، عبر الإنسان الإفريقي الأول من المغرب نحو القارة الأوروبية عبر المضيق. لم يكن هذا البحر وقتها يسمى مضيق جبل طارق أو جيبرالتار، كان فقط مجرد مجال مائي صغير لا معنى له، لذلك فإن الهجرات البشرية الأولى مرت عبره من دون مشاكل ومن دون فيزا.
وحسب الكثير من المؤرخين، فإن الإنسان الحديث، المعروف باسم إنسان النياندرتال، عبر من الشواطئ الشمالية الحالية للمغرب نحو أوروبا، وتحول بعد ذلك إلى الإنسان الأوروبي.
ومنذ ذلك التاريخ، تاريخ عبور الإنسان البدائي الأول ما بين إفريقيا وأوروبا، فإن العبور لم يتوقف بين الضفتين، وهو مستمر حتى الآن في أحد فصوله الأكثر تراجيدية في التاريخ.
الأسطورة الأكثر قوة وتداولا هي التي تقول إن هرقل، وهو شخصية أسطورية يونانية، فصل إفريقيا عن أوروبا بعضلاته القوية، وللجميع أن يتصوروا كيف كان هرقل قويا إلى درجة أنه سيدفع بيده اليمنى القارة الإفريقية نحو الجنوب، والقارة الأوروبية نحو الشمال، وسيجلس في الوسط يستحم بتلك الشلالات الخرافية المتدفقة التي كانت تملأ المضيق من جهتين، من البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي.
لكن الأسطورة لم تبين جيدا ماذا فعل هرقل بعد ذلك، وكثيرون يقولون إنه عاد إلى مغارته التي توجد حاليا في كاب سبارطيل في طنجة، وهي مغارة يجب على الناس العاديين أن يدخلوها وينتبهوا جيدا حتى لا ترتطم رؤوسهم مع السقف، فكيف عاد إليها هرقل العظيم الذي فصل قارتين عن بعضهما البعض؟
عبور «الثورة الإسلامية»
في سنة 711 ميلادية شهد المضيق أول عبور حقيقي وواقعي، حين اجتازت عدد من المراكب المسافة البحرية القريبة بين طنجة وجنوب أوروبا. وهناك، حسبما تقوله الروايات التاريخية، أشعل القائد طارق بن زياد النار في المراكب وخطب في جنده خطبته الشهيرة «أين المفر.. البحر من ورائكم والعدو أمامكم.. وليس لكم والله إلا الصبر أو الموت».
كانت هذه الخطبة بداية ثمانية قرون من الحكم الإسلامي للأندلس، ومرحلة تاريخية غنية بكل المقاييس. لكن الكثير من المؤرخين يشككون في رواية الغزو الإسلامي للأندلس، ويقولون إن حفنة صغيرة من المقاتلين البربر والعرب توجهوا إلى الجنوب الإسباني واستقروا في تلك المنطقة، ومع مرور السنوات تحولت شبه الجزيرة الإيبيرية كلها إلى الإسلام، في وقت كان سكان المنطقة يعانون الأمرّين مع الغزاة القوط، فوجدوا في الإسلام خير من يحميهم من الجبروت القوطي، فاعتنق السكان الإسلام، باستثناء قلة قليلة تحصنت في بعض مناطق الشمال المعزولة.
ويقول المؤرخ الإسباني إيناسيو أولاغ في كتابه «العرب لم يغزوا إسبانيا»، إن قصة الغزو العربي أو الإسلامي لشبه الجزيرة الإيبيرية، اخترعته الكنيسة والمؤرخون الذين يدورون في فلكها، وأن الحقيقة المرة للكثيرين هي أن الأندلس كانت عبارة عن «ثورة إسلامية» من السكان الأصليين الذين تحولوا إلى الإسلام بفعل تأثير عدد من المسلمين الذين استقروا جنوبا، ولذلك فإن ما يسمى حروب الاسترداد وطرد المسلمين من الأندلس كانت حربا أهلية وتصفية عرقية من جانب الإيبيريين المسيحيين ضد الإيبيريين المسلمين، يعني بالمصطلحات العصرية، فإن الإسبان المسلمين تعرضوا للطرد والتهجير والتنكيل من طرف الإسبان المسيحيين. ويتساءل أولاغ كيف يعقل أن حفنة من البربر والعرب عبروا مضيق جبل طارق وأخضعوا جيوش القوط الجرارة وتحكموا في رقاب 20 مليون إيبيري (إسباني) لمدة ثمانية قرون. ويقول أولاغ إن هذه هي الحقيقة المرة التي يحاول المؤرخون والكنيسة التستر عليها من أجل أن يبرروا جرائم محاكم التفتيش وإحراق آلاف الأندلسيين أحياء، وأن يُظهروا أن الذين تم طردهم هم العرب، بينما الحقيقة أن مئات الآلاف أو الملايين من الإسبان المسلمين تم طردهم من بلادهم بفعل حرب دينية ومدمرة وحاقدة.
عبور المأساة
منذ ذلك التاريخ، أي عبور طارق بن زياد مع مجموعة صغيرة من مقاتليه، أصبح مضيق جبل طارق واحدا من أنشط المضائق البحرية في العالم. وبعد سنوات قليلة من طرد المسلمين الأندلسيين أو الإسبان، سيبدأ المسيحيون في تعقب المسلمين جنوبا، وهكذا بدأت عمليات عبور المضيق جنوبا بحثا عن الثروات وعن الأعداء وعن المستعمرات.
بدأت محاولات الإسبان والبرتغاليين عبور مضيق جبل طارق في وقت مبكر بعد سقوط الأندلس. وفي عام 1578 سيعبر جيش إيبيري جرار مضيق جبل طارق يقوده الملك سباستيان، الذي كان يحلم بتحويل المغرب إلى إقطاعية تابعة لسلالته على الضفة الأخرى من المضيق، غير أن تلك الحرب التي جرت في منطقة قريبة من القصر الكبير، ستكون نهاية أحلام الملوك الكاثوليك والكنيسة بالتوسع في المغرب. والمثير أن هذه المعركة لعب فيها الجنود الأندلسيون المطرودون من بلادهم دورا حاسما في النصر، وكانوا يعتقدون أن انتصارهم سيدفع إلى اكتساح للأندلس واستعادة مجدهم الضائع، لكن انتصارهم أُقبر في نفس النهر الذي ابتلع أجساد الملوك الثلاثة، فكانت معركة الملوك الثلاثة والحلم الموؤود.
الإسبان والبرتغاليون لم يتوقفوا في كل الأحوال عن تجريب عبور المضيق في كل مرة يحسون بأنهم الأقوى. لذلك فإنهم احتلوا قبل ذلك مدينة مليلية، ثم سبتة، ثم احتلوا عددا من المناطق البحرية المغربية على البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي. ولم يطل بهم الوقت كثيرا لكي يجربوا عبورهم الكبير عندما احتلوا شمال المغرب وعددا من مناطق الجنوب بدءا من سنة 1912.
كان عبور 1912 بالنسبة إلى الإسبان يشبه في بعض تفاصيله عبور المسلمين للمضيق سنة 711، لكن الفرق بين العبورين كان كبيرا في الزمن وفي الهدف وفي الحضارة. فعندما انهارت دولة الأندلس تركت كنوزا حقيقية في العلم والأدب والطب والهندسة والشعر والآثار، وهي كلها آثار لاتزال إسبانيا اليوم تجني من ورائها ملايير الدولارات. وعندما خرج الإسبان من شمال المغرب عام 1956 فإنهم لم يتركوا فيه غير التخلف والفقر والطرق المحفرة والبنايات المتآكلة والسقايات العمومية العتيقة والبطالة المنتشرة في كل مكان.
العبور الدرامي
في منتصف عقد الثلاثينات.. سيبدأ عشرات الآلاف من المغاربة عبور مضيق جبل طارق من جديد، لكن هؤلاء لم يكن هدفهم استعادة الأندلس، ولا حتى محاربة الإسبان من أجل هدف ما، بل إنهم بكل بساطة كانوا حطبا في محرقة الحرب الأهلية التي اشتعل أوارها ما بين الإسبان أنفسهم.
في سنة 1936 بدأت بشكل فعلي الحرب الأهلية الطاحنة بين أنصار الجمهورية، التي كانت قائمة آنذاك، وبين مجموعة من كبار العسكريين الذين حشدوا إلى جانبهم كل الذين كانوا يرون في الجمهورية خيانة لمبادئ إسبانيا الملكية والكاثوليكية. ولأن صفوف الجمهوريين كانت مدعمة بكثير من المقاتلين من داخل إسبانيا وخارجها، فإن الجنرالات المتمردين على شرعية الجمهورية، جندوا أزيد من 150 ألف مقاتل مغربي، وكان الجنرال فرانسيسكو فرانكو صاحب الدور الأساسي في تجنيد هؤلاء المقاتلين البؤساء الذين سيحاربون بشراسة قل نظيرها في حرب أهلية لا ناقة لهم فيها ولا خروف.
خلال الحرب الأهلية الإسبانية ستصبح للمقاتلين المغاربة سمعة رهيبة في الشجاعة والإقدام، وأيضا في التنكيل بأعدائهم. والذين أمكنهم الجلوس إلى جانب عدد من أولئك المقاتلين بعد أن وصلوا اليوم من العمر عتيا، يرون مدى الندم الذي ظل ملتصقا بضمائرهم من تلك الحرب التي لم تكن حربهم، والدماء التي لم تكن لهم حاجة في إراقتها، ولا دماؤهم التي سالت انهارا من أجل غرباء لا يشاركونهم دينا ولا ملة.
ويحكي قدماء تلك الحرب، كيف أن الجنرالات الإسبان، ومعهم عدد من السياسيين المغاربة، كانوا يقنعون المقاتلين المغاربة بأنهم يحاربون في معارك عادلة ضد الملحدين، في إشارة إلى الشيوعيين الذين يساندون الجمهورية، وكانوا يسمعون إشاعات تقول إن فرانكو اعتنق الإسلام، وإن الكثيرين شاهدوه يؤدي مناسك الحج، وإن الأندلس ستعود قريبا إلى المسلمين بعد الانتصار في هذه الحرب.
وبعد أن انتهت الحرب سنة 1939 بانتصار الفرانكاويين، التي ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من المقاتلين المغاربة، بدأت مرحلة عبور أخرى للإسبان نحو المغرب، وذلك عندما ركب الآلاف من الجمهوريين الإسبان قوارب الموت نحو شواطئ طنجة هربا من الانتقام والموت والجوع والبطالة والفقر، وهي هجرة نادرا ما يتذكرها الإسبان حاليا وهم يشتمون المهاجرين السريين الذين يعبرون المضيق بقوارب موت أخرى.
عبور حسب الظروف..
اليوم.. أصبح العبور في مضيق جبل طارق لا علاقة له بعبور القرون الماضية. لقد تحول هذا المضيق إلى نهر صغير وخطير تعبره الزوارق السريعة في أقل من نصف ساعة. لكن رياح الشرقي القوية التي كانت تعصف به منذ الأزل مازالت هي نفسها التي تغضب بقوة في كثير من الأحيان وتوقف حركة الملاحة البحرية لأيام. في الماضي كانت هذه الرياح تغرق المراكب الشراعية وتتلاعب بالزوارق الصغيرة وتدفعها إلى القعر، واليوم كل ما تستطيع فعله هذه الرياح هو أنها تدفع كل السفن والقوارب إلى الاختباء في الموانئ في انتظار الهدوء. رياح الشرقي حافظت على رهبتها على مر القرون.
الطرق الجديدة لعبور مضيق جبل طارق بدأت تظهر نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، عندما أصبحت العشرات من الزوارق الخفيفة تحمل مئات الكيلوغرامات من الحشيش منطلقة من السواحل المغربية نحو إسبانيا، وهناك تفرغ حمولتها وتعود إلى قواعدها سالمة.
وبعد ذلك بوقت قصير، أصبحت هذه القوارب تحمل عشرات من المهاجرين السريين المغاربة والأفارقة نحو إسبانيا، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.. وما بدلوا طريقهم تبديلا.
بعد بضع سنوات من ذلك، اكتشفت عصابات أمريكا اللاتينية لتهريب الكوكايين والمخدرات الصلبة هذا الطريق الذهبي عبر مضيق جبل طارق، فقررت أن تستغله لمصلحتها أيضا. هكذا تقربت عصابات الكوكايين من عصابات الحشيش وعقدت معها اتفاقيات توأمة وتعاون مشترك لما فيه مصلحة الطرفين الشقيين، وأصبحت القوارب التي كانت تحمل الحشيش هي نفسها التي تحمل كميات كبيرة من الكوكايين إلى الضفة الجنوبية الإسبانية.
مضيق جبل طارق هو اليوم من أخطر القنوات البحرية في العالم، ليس فقط بسبب الكثافة الملاحية وآلاف البواخر والسفن التي تعبره كل يوم، بل أيضا لأنه أصبح ممرا ضروريا لكثير من الغواصات النووية من كل الجنسيات، والتي أصبحت تهدد بالفعل هذه المنطقة، ليس لأنها يمكن أن تنفجر في أية لحظة، بل لأنها تفرغ نفاياتها من الطاقة النووية في مياه المنطقة، خصوصا عندما تتوقف في ميناء صخرة جبل طارق، فتصبح الأسماك نووية أيضا، وتنفجر في بطون آكليها.
مضيق جبل طارق هو أيضا معبر لكثير من أنواع السمك التي تعبر المنطقة من أجل التوالد، والملايين من أسماك التن تمر باستمرار من المحيط الأطلسي نحو البحر الأبيض المتوسط بحثا عن المياه الدافئة من أجل وضع بيضها، فتعترضها مئات من شباك الصيد لتحولها إلى الأسواق هي وبيضها. الصيادون لا وقت لديهم للانتظار حتى يلد سمك التن.
في مضيق جبل طارق اليوم توجد موانئ عملاقة على الضفتين، وتفكير في ربط إفريقيا بأوروبا بخط قار يعبره القطار أو السيارات. كل شيء تغير في هذا المضيق، وبقيت رياح الشرقي وحدها كما كانت دائما تزمجر بلا هوادة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.