تحوّلت مسودّة مشروع القانون الجنائي إلى نقاش كبير حول الدين ومكانته في التشريع، لماذا برأيك؟ هذا الموضوع له حمولة أكثر من قانونية، بل حضارية لأننا نعيش حاليا نوعا من الشرخ المجتمعي وليس الاجتماعي فقط، وعندما تطرح أزمة بسبب صراع طرفين اثنين، تجمع الحضارة البشرية على ضرورة حضور طرف ثالث للفصل بينهما، وهذا الطرف الثالث بالنسبة إليّ هو التاريخ، حيث نرى المجتمعات المتحضرة، والتي تجاوزت تناقضات من هذا القبيل التي يمكن أن تؤدي إلى الحرب الأهلية، وهو ما يقع حاليا في العالم الإسلامي. والمقصود هنا هو الاتفاق على القيم الأساسية التي تحظى بالإجماع، وإيجاد حدّ أدنى من الإجماع الذي تكمن قيمته السياسية في ضمّ بعض القيم التي تتجاوز «التناوبات» السياسية وتتجاوز الأحزاب والحكومات، أي العامل المشترك الذي يجعل شعبا يرغب في العيش المشترك والانتماء إلى الوطن. ما يقع بالمغرب، حاليا، هو أن القانون الجنائي موضوع النقاش، ينتمي إلى عمق القيم التي يجب أن يتفق حولها المجتمع، فهو يجمع أخطر القيم التي تتم حمايتها جنائيا، لأن هناك قيما أخرى تتم حمايتها بالقانون المدني والقانون التجاري… لكنها قيم ليس لها طابع درامي مثل الإجهاض والإعدام… وهذه الأمور ليست نقاش قانون يتم بين الأحزاب، بل ترتبط بمرجعية يجب مناقشتها بشكل سابق عن طرح مشروع قانون. البعض يقول إن هذا النقاش حُسم بخصوص المرجعية ويستدلون على ذلك بالدستور والنقاش الذي رافقه وانتهى بتكريس إسلامية الدولة؟ يمكننا أن نبسّط النقاش حول هذا الموضوع عبر ما يعرف ب l'hauberge espagnol، فهو عبارة عن سكن تجد فيه ما تحمله معك، أي أن الدستور فيه مقتضيات يمكن استعمالها بنوع من الانتهازية السياسية لتزكية أطروحة سياسية، وهذا هو المشكل عندما نكون أمام دستور يحاول أن يكون جامعا للآراء. الأطروحة الدينية تجد نفسها والأطروحة الحداثية تجد نفسها، أيضا، وهذا هو المشكل الكبير الذي نعاني منه، علما أن الدساتير عادة ما تتسم بالشجاعة السياسية من خلال جانب بيداغوجي يحسم في بعض الخيارات الأساسية. فشخصية «دوغول» مثلا طبعت دستور 1958، بينما اللجنة التي تولّت إعداد دستور 2011 غلّبت جانب التوفيق بين جميع الآراء على حساب البعد البيداغوجي الذي يسمح بلعب دور القاطرة نحو الرقي والتطلّع للمستقبل. بعض المقتضيات تتضمن هذا البعد البيداغوجي، لكنه لم يصل إلى عمق الإشكال ولم يحسم الأمور الأساسية. والخطير في الأمر أن الشباب المثقف الممسك بزمام الأمور أصبح ينفر العلماء ويرى فيهم أناسا تجاوزهم الزمن، ولهذا نحتاج إلى العمل على إنهاء هذا الشرخ الموجود لدى الشباب بين من يريدون الالتحاق ب»داعش» وبين من يعتبرون الدين مجرّد طقوس شكلية دون أي بعد وجداني عقائدي. أليس المشكل في المغرب هو أننا لم نحسم هذا الجانب الخاص بالثوابت، ذلك لأن كلا منا يعتبر الثوابت هي ما يفهمه من الدستور وطريقة تأويله له؟ المخرج الوحيد هو أن يستعمل الملك سلطته في الفصل وإنهاء الصراعات، بما أن الحسم غير ممكن بسبب اختلاف مرجعيات الأحزاب. أجل، هناك شعار: «الله الوطن الملك» الذي يوحّدها، وحتى اليسار الراديكالي لم يعد له مشكل مع الملكية، وهذا في حد ذاته مكسب إيجابي وكبير، لكن الدين مازال محط تأويلات، والعالم الإسلامي لم يعد يعرف سلطة دينية منذ سقوط الخلافة العثمانية، وبقدر ما يعتبر غياب وساطة بين الإنسان وبين الله مسألة إيجابية من الناحية الفردية، فإنه يطرح إشكالا كبيرا عندما يعرض بشكل جماعي أي أن «كل واحد كيلغي بلغاه». والحل هو الفصل بين الدين بما هو عبادات يجب تركها ضمن الحرية الشخصية، وبين الدين بما هو معاملات يجب إخضاعها للمصلحة وللنقاش، هذه هي الفتوى الأصلية التي نحتاج إليها. ألا يعاني المغرب من ازدواجية في التشريع على غرار ازدواجية في السلوك الاجتماعي، أي هناك قوانين «وضعية» تحكم التجارة والبنوك وجلّ المعاملات، وقانون ديني يحكم ما هو جنائي وأحوال شخصية…؟ هذا يعكس الانتهازية السياسية، وهنا نجد الانتقائية التي نتناول بها الإشكاليات، فعندما يتعلق الأمر بحزب يفتقد للمصداقية في ما هو عصري وحداثي يلجأ إلى القيم، يهرب من النقاش إلى الأمام، وفي القيم يجد الفرصة لاستعراض العضلات بكل سهولة عكس الإكراه الذي يفرضه الاقتصاد والمنطق العلمي والتجريبي. هذا عموما هو سلوك الأحزاب اليمينية، ففي العمق يتم الانتباه الدراماتيكي للقيم، والقانون الجنائي هو أول القوانين من حيث الارتباط بما هو وجداني لأنه يتعلّق بالعلاقات الجنسية وبرمضان والقيم الدينية والتصوّر للعلاقات الاجتماعية وهل ستحتكم لمنطق السلطة أم للتفاوض وعلاقة المواطن بالدولة، أي أن أمن الدولة يمر عبر القانون الجنائي وهو مدخل أساسي للتصوّر الأمني أو تأمين المجتمع من ناحية القيم، ولهذا نجد جميع الأحزاب اليمينية كلما تعلق الأمر بتعديل جنائي تعبّئ كل قدراتها لخوض المواجهة لأنه مجالها الأصلي. * عز الدين بنّيس: أستاذ القانون الجنائي وعلم الإجرام