تزامن تعييني بسلك القضاء، مع حصول قريب لي على مهنة سائق بإدارة الدرك الملكي. وعندما جاء ليودعنا بمناسبة انتقاله إلى سكنه الوظيفي وسط العاصمة «الرباط» همست والدتي في أذني: «لو فعلت مِثله لأعطاك «المَخْزَن» سَكَنًا! « وفي سياق آخر، قال أحد وزراء العدل في معرض جوابه عن مطلبنا بِرَفع أجور القضاة: «إن الراتب الحالي يفوق ما تتقاضاه بَعْضُ المهن. وقام بتعدادها! « في المثالين معاً نموذج واضح عن الزاوية التي يُنظر بها إلى القاضي في بلادنا، فإذا كان المثال الأول يتضمن نظرة واقعية بريئة لِمَن آثرت أن يزاول ابنها مهنة سائق كي يحصل على سكن وظيفي، ففي المثال الثاني تَجاهُل عن قصد لما تَعْنِيه كلمة «قاض». على أن فريقا آخر يرى أن مبدأ الزيادة في أجور القضاة معمول به فِعلا بين القضاة دونما حاجة إلى أسلاك وظيفية! ومن عبث الأقدار أن يكون من أعضاء هذا الفريق قضاة يتكلمون بذات المفردات !! ويبدو أن لهذا الفريق تأثِير بالغ المفعول، والكلمة المسموعة. وهو ما يُثْنِي جهة الاختصاص عن التقدم ولو بخطوة خجولة للاستجابة إلى مطالب القضاة سواء تعلقت بالأجور أو الامتيازات العينية أو تكافؤ الفرص! للقضاة المَرجعية الكونية في مبدأ الزيادة في أجورهم: «فأجر القاضي في أنجلترا في غير متناول البرلمان، ولا يخضع الأجر لأي مناقشة برلمانية تقليدية». وللقضاة المرجعية الإسلامية أيضا: يقول الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمعاذ بن جبل وأبي عبيدة الجراح: «أن انظروا رجالا من أهل العلم من الصالحين من قبلكم فاستعملوهم على القضاء وأوسعوا عليهم في الرزق واكفوهم من مال الله ليكون لهم قوة وعَليهم حجة». والمجتمع المدني بدوره يريد أن يكبر في عينيه القاضي، لا يريد أن ينظر إليه صغيرا متهافتا يجري لتحسين وضعه المادي بأي سبيل، أو حائراً لا حول له ولا قوة، مؤمنا برسالة القضاء، يسعى جاهدا إلى تكريسها على أرض الواقع. القضاة أنفسهم في حيرة تامة من أمرهم، يرون زملاء لهم في أحسن حال ولم يكونوا، كذلك، بالمرة عندما درسوا بالمعهد العالي للقضاء، ومنهم من يخاطبهم من قصره المنيف ويحثهم على التقشف والعدل والنزاهة. والأدهى والأمرّ أن الذي يُمَثلُّ هذه الشخصية الورعة خَيْر تمثيل، ويعتقد أنه بمعزل عن الرقابة وتلصص الأعين، والقيل والقال، يحمل القلم الأحمر ليبدي ملاحظاته بخانات نشرات تنْقِيطِ القضاة، وهو نفسه ذلك المسؤول القضائي الذي لا هِنْدَامَ له، ويلاحظ على القُضَاة سُوء الهِنْدام. نشتغل مع قضاة وقاضيات يحملون ضميرا نَقيَّا، ويجتهدون ما في وسعهم الاجتهاد، مواظبون ولو في حالة المرض، لم ينصفهم أحد، تُعَبِّرُ نظراتهم عن حزنٍ دفين، وشماتة لمّا يُعاينون أوضاعا وظيفية شاذة تمرُق أمامهم تزكية أو إنعاما، ثُم لمَّا يُعاينون سياسة العصا والجزرة التي تمارسُ بانتظام، يلوذون إلى الصمت المُعَبَّر خشية عرقلة مسيرتهم الوظيفية. ولأنهم أمهات وآباء، مرضى وعاجزون، يُفوِّضون أمرهم إلى الله. المكانة الأولى للاعتناء ماديا ومعنويا يجب أن تكون للقضاة، ولا يَنْتَقِصُ من ذلك أن تكون هناك فئة ضالة أساءت أداء رسالتها، فهناك الجزاء. أمّا أن نقول إن القضاة يملكون مبدأ الزيادة في أجورهم تلقائيا، فلا حاجة بنا إلى تحمل عبئ ميزانية الدولة، فهذا منتهى الظلم والإحباط ! وَمِمَّا يزيد الطين بِلَّةً أنْ يُجِيب أحد القضاة، الذي كان في فترة ما يَشتغل كاتباً عاماً بوزارة العدل، عندما سُئِل عن الزيادة في أجور القضاة قائلا: «القضاة يرغبون في أجرة «جِنْرَال»». وهي عبارة تُشْبِه ما قالته والدتي عن طِيبة وبراءة، مع الفَارِقِ طبْعاً! رئيس المنتدى المغربي للقضاة الباحثين [email protected]