بنكيران ظاهرة سياسية، وآلة تواصلية، وقوة خطابية، وزعامة فرضت نفسها اليوم.. هذه حقائق لا يختلف حولها خصوم بنكيران كما أصدقاؤه.. هو رجل مثير للجدل طبع مرحلة سياسية بأكملها، بما له وما عليه. هو رئيس أول حكومة بعد الدستور الجديد والربيع الجديد والوعود الجديدة بالإصلاح والتغيير… عندما يفرح يطلق نكتا وضحكات لا تخلو من رسائل سياسية. عندما يغضب يخرج أسلحته الثقيلة في وجه خصومه، ويبدأ في إطلاق النار، يتحدث بأكثر من لغة إلا لغة الخشب.. سيرة بنكيران صارت اليوم على كل لسان، فهناك من يحبه وهناك من يكرهه، وهناك من يقف في الوسط بين الحب والكره، يتفق معه ويختلف حسب الظروف والأحوال، لكن الجميع يتابع خطبه، قراراته، معاركه، خرجاته، وحتى صمته صار يؤول اليوم في الساحة السياسية، وتعطى له مبررات ودلالات… للاقتراب أكثر من بنكيران الإنسان، نخصص هذه السلسلة الرمضانية للحديث مع الرجل الثاني في الدولة على لسانه، وبالرجوع إلى ذاكرته هو دون وساطة أو توسط.. بعيدا عن السياسة، قريبا من بنكيران المواطن، والغرض أن نفهم زعيم العدالة والتنمية أكثر، أن نعيد قراءة سيرته، ومراحل تشكل وعيه، وتضاريس الواقع الذي أحاط به. إنها سلسلة للاقتراب أكثر من هذا الذي صار سيرة على كل لسان.. لنتابع…
إحدى أبرز محطات حياته التي يتطرّق إليها بين الفينة والأخرى، تتمثل في دراسته بالمدرسة المحمدية للمهندسين، والتي أعلن بنفسه في نشاط تعليمي احتضنته حديثا ثانوية الليمون، أنه طُرد منها بسبب نشاطه الطلابي. «حصلت في السنة الأولى على المعدل ونجحت، لكنني لم أنجح في السنة الثانية لأنني كنت الكاتب العام للجمعية»، يقول بنكيران، موضحا أنه في السنة الأولى تولى مهمة مسؤول الدراسات، «وهو ما جعل السنة الأولى تكون ممتازة، حيث لم يرسب إلا 6 أو 7 طلاب، ونجحت في تجنّب المشاكل التي يتسبب فيها طلبة ‘‘إلى الإمام''، بينما كانت نتائج السنة الثانية التي كانوا يسيطرون عليها كارثية، إذ رسب نحو ستين طالبا من أصل مائة، ونجح عشرون فيما كرر السنة عشرون آخرون». عندما لاحظ الطلبة الفرق بين المستويين، أصروا في السنة الموالية على انتخاب بنكيران ممثلا لهم، رغم أنه قرر منذ تجربته المريرة في الثانوية الابتعاد عن الشأن العام. «اختاروني في العام الموالي لأكون الكاتب العام للجمعية، فمرّت السنة بخير وخالية من الإضرابات، حتى إن طلبة إلى الأمام لقّبوني بكيسنجر لكثرة تنقلاتي بين الإدارة والطلبة، حيث كنت أحاول حلّ المشاكل». ومن بين المشاكل التي واجهها بنكيران وقام بحلّها، «أنني فوجئت يوما بإضراب في المطعم، وحين سألت عن السبب قيل لي إن اللحم نتن، فتوجهت إلى الإدارة واتفقت مع المدير على أن أجلب طباخة تتولى إعداد طعام الطلبة، وكانت صديقة لنا في حي العكاري، وعندما جاءت تلك السيدة أصبح الطعام مشابها لما يقدم في الحفلات والأعراس، ففرح الطلبة بذلك وتم حل المشكل». خلف هذا النجاح التدبيري كان التعثر الدراسي يترصّد بنكيران، «ربما لأنني لم أدرس جيدا، بالإضافة إلى هذا الانشغال بالجمعية، رسبت في تلك السنة، حيث كنت شديد الانشغال، فقررت مجددا أن أتفرغ للدراسة، فحصلت على نقطة 11.90 في آخر السنة، وهو ما يعني أنني يجب أن أنجح، لكن بعض الأساتذة استهدفوني بسبب تدخلاتي في اجتماعات مجلس المدرسة وانتقاداتي لهم باسم الطلبة، وكان المدير سي إدريس عمور، رحمه الله، يدافع عني، ورغم ذلك كنت مطالبا باجتياز مرحلة استدراكية لم أنجح فيها، فقرروا إخراجي من المدرسة، وعندها ذهبت إلى كلية العلوم في السنة الثالثة… حياتي كانت في جميع مراحلها متسمة بنوع من الغليان، ولم تكن قط هادئة». من نماذج المشاكل التي واجهها الطالب بنكيران وهو يتولى الدفاع عن الطلبة بالمدرسة المحمدية للمهندسين، يوم شنّ طلبة «إلى الأمام» إضرابا عن الطعام، «فذهبت إلى المدير وقلت له: ‘‘نحن عاد جينا، فما ذنبنا لتعاقبنا بما يفعله الآخرون؟''، وهنا رآني الطلبة واختاروني لتمثيلهم. قررت عدم الترشح، لكنهم ألحوا علي في ذلك، فأدرجوا اسمي ضمن المرشحين، إلى جانب شاب اسمه بنيس نال 7 أصوات، وآخر يساري اسمه مرجان نال 16 أو 17 صوتا، فيما نلت أنا 60 أو 70 صوتا، فكانت تلك أول انتخابات أفوز بها، رغم أنني انتخبت في القسم الرابع ابتدائي ممثلا للقسم». هذا الانتخاب أعاد بنكيران إلى الحياة العامة، «فكان من بين ما أشرفت عليه حفلا ساهر، وكان بين فقراته الغناء، فأخذت الميكروفون وغنّيت لأم كلثوم أمام الجمهور، وأذكر أنني غنيت ‘‘على بلدي المحبوب وديني'' رفقة جوق موسيقي».