رحل إلى دار البقاء صاحب "دفنا الماضي"، و"لم ندفن الماضي"، و"المعلم علي"، والقائمة طويلة من ثمرات ما تركت تجربته الطويلة والغنية من إبداعات أدبية، ونصوص فكرية وسياسية، ومقالات صحفية غزيرة.. إنه المشمول برحمته الأستاذ "عبدالكريم غلاب" )1919 2017(. لست أدري لماذا كلما كنت أرى الراحل مباشرة، أو عبر صوره المبثوثة هنا وهناك، تحضرني صورة "توفيق الحكيم"، صاحب "عصفور من الشرق"، ربما لأن التقدم في السن جعل الرجلين المتقاربين في الإبداع، يتشابهان في بعض قسمات وجهيهما، وفي كل الأحوال "للسنين والأعمار أحكام"، كما يُقال. ثم إن طول عمره (98 سنة(، ذكرني هو الآخر بشيخ المؤرخين العرب "نيقولا زيادة"، الذي رحل هو الآخر ولا يفصله عن مئة سنة سوى شهور قليلة جدا، عاشها عرضا وطولا، وترك بصمات لا تقدر بثمن، هذا الرجل القادم من عكا في فلسطين صبيا، وجال العالم شرقا وغربا، لكن ظل عاشقا إلى حد الثمل دائرته العربية، بالتعريف بها، والكتابة عنها، والدفاع عن حقها في أن يكون لها مكان تحت الشمس. ربما برحيل الأستاذ عبدالكريم غلاب، نكون قد ودعنا آخر رجالات مغرب بداية القرن العشرين، فقد حمل معه ذاكرة حقبتين من أهم وأخطر الحقب في تاريخ المغرب: حقبة النضال من أجل الاستقلال وجلاء الاستعمار، وحقبة إعادة بناء الدولة الوطنية الحديثة، بإنجازاتها، وإخفاقاتها. وتكمن قيمة الراحل في كونه لم يكن شخصا عاديا، يأكل قوتَه وينتظر موته، بل كان فاعلا بالمعنى الشامل للكلمة، في الفكر، والإبداع، والسياسة، والإعلام والصحافة، ومع الناس وفي قلب مشاغلهم. وفي التعاطي مع كل هذه المجالات ظل وفيا للمدرسة الوطنية التي تلقى في كنفها سُبل الاشتغال بالسياسة، وآليات توظيف الفكر والثقافة والإبداع لفهم السياسة وترشيد مزالقها. ثم إن الراحل مثّل جانبا من النخبة المغربية التي اختارت التوجه إلى الشرق، والشرق العربي تحديدا، خلافا لمن أدار ظهره لهذا الشرق في اتجاه الغرب، وأوروبا تحديدا. لذلك، التحق بجامعة القاهرة (فؤاد الأول( عام 1940 ليتخرج منها سنة 1944، وخلال هذه المدة، لم يكن شغله التحصيل فقط، على أهميته، بل كان حرصه نضاليا أيضا للتعريف بواقع الاستعمار في بلده، والتعبئة من أجل مقاومته، فكان عضوا مؤسسا ل"جمعية الطلبة العرب" في كلية الآداب عام 1942 برئاسة المرحوم "عبدالوهاب عزام"، وكان عضوا في جمعية "الأمناء" بقيادة "أمين الخولي". وفي سنة 1947، أصبح أمينا عاما ل"مؤتمر المغرب العربي"، الذي ضم نخبة أبناء الدول المغاربية الثلاث: الجزائر، المغرب وتونس"، والذي شكل أحد الإطارات الجماعية للتعريف بقضية الاستعمار ومخاطره في بلاد المغرب، والتعبئة من أجل إخراجه، يُذكر أن في هذه السنة بالذات، ومن خلال "مكتب المغرب العربي" في القاهرة تم تحرير "عبدالكريم الخطابي"، إبان مروره من منفاه في جزيرة "لاريونيون" إلى فرنسا، عبر ميناء "بور سعيد". وفي عام 1948 شارك في مؤتمر الثقافة العربية الأول الملتئم تحت إشراف اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية في لبنان، ليعود بعدها مباشرة إلى المغرب. لا يسمح حيز هذا العمود باستحضار غنى تجربة الراحل عبدالكريم غلاب، لكن أود الإشارة إلى أمرين اثنين، هما: حين أصدرت مؤلفي الموسوم: "القانون الدستوري والمؤسسات السياسية/ المفاهيم الأساسية"، ووزعت الكثير من النسخ على المتخصصين والأصدقاء، كان أول رد توصلت به، ولازلت أحتفظ برسالة خطية عنه هو رد الراحل عبدالكريم غلاب، يثُني على الكتاب، وأفادني بالكثير من ملاحظاته. أما الأمر الثاني، فيتعلق بالمشاركة إلى جانبه في ندوة بالرباط، نظمتها وزارة الثقافة، بمناسبة أربعينية المرحوم "عبدالله إبراهيم" (2006)، إذ شارك الراحل على كبر سنه، وظل صابرا ومستميتا حتى نهاية الندوة.. رحمة الله عليه وأسكنه فسيح جنانه.