تعتبر التحولات التي تعرفها وضعية محكمة العدل العسكرية من أهم ما نتج عن دستور 2011، بحيث أن هذه المحكمة التي كانت توصف بكونها محكمة استثنائية، يحاول المشرع من خلال مشروع القانون المنظم لهذه المحكمة المعروض حاليا على البرلمان، تحويلها إلى محكمة متخصصة بعد أن منع الدستور إنشاء المحاكم الاستثنائية، وتنصيصه على أن إحداث المحاكم العادية والمتخصصة وفقا للفصل 127 منه. و بغض النظر عن المناقشات التي همت طبيعة المسطرة التي نص عليها المشروع ونظامها القضائي، ثم التحولات التي عرفتها طبيعة الجرائم والعقوبات المقررة لها وغيرها من باقي العناصر، ورغم النقاش القوي الذي يدور حولها، لا يمكن أن نغيب أن هناك خطوات إيجابية أنجزت في البناء القانوني لهذه المؤسسة، والتي سعى من خلالها المشروع تحويلها إلى محكمة متخصصة. و من أهم النقط التي عرفت نقاشا بين أطراف التشريع، موضوع رئاسة المحكمة، فالمشروع غيب منصب رئيس المحكمة وجعل من الوكيل العام المسؤول الإداري عنها، ويبقي السؤال المطروح هو، هل يتعين أن نحدث منصب رئيسا للمحكمة العسكرية؟. فهناك تيار يرى أن إدارة المحكمة لا تحتاج إلى رئيس مادام أن تسييرها الإداري يمكن القيام به من طرف الوكيل العام. أي نفس الوضعية التي عليها حاليا إذ أن وكيل الملك بها هو المسؤول الإداري على إدارة المحكمة، فجمع الاختصاصات الإدارية في مواجهة جميع الأطراف باختصاصاته كوكيل للملك، أما المشروع الحالي فإنه سعى إلى منح الاختصاص القضائي الذي من المفروض أن يقوم به رئيس المحكمة إلى هيئة الغرفة الجنحية التي أنشئها المشروع الحالي، والتي منح لها المشرع عدة اختصاصات تعفي من إنشاء منصب رئيسا للمحكمة العسكرية، ومن ضمن الأسباب _يتساءل أصحاب المشروع_ أنه في افتراض قبول هذا المنصب، هل الرئيس يجب أن يكون مدنيا أم عسكريا؟. غير أن هذه المبررات نفسها كانت موضوع نقاش وللرد عليها يتعين طرح أسئلة متفرعة عنها، وأول سؤال يتبادر إلى الذهن في هذا الاتجاه، لماذا رئيسا للمحكمة؟. إن العمل القضائي يقتضي توحيد المساطر والإجراءات أمام جميع المحاكم حتى نكون فعلا أمام محكمة متخصصة وليس أمام محكمة استثنائية، وإذا كانت محاكم المملكة تنص في تنظيمها القضائي على وجود ثلاثة أطراف في الدعوى هي أولا: المتقاضين مع دفاعهم، وثانيا: النيابة العامة ومسؤوليتها في الدفاع عن القانون والحق العام، وثالثا: القضاء الذي يشرف على تطبيق القانون وحسن سير العدالة، وبالتالي هذا الوضع هو من أهم المنطلقات التي تؤسس فكرة شروط المحاكمة العادلة التي تحاول أن تطبق هذه المعايير على المحكمة العسكرية. وهنا يتعين أن نشير إلى سمة أساسية تهم المحكمة العسكرية، بحيث أنها قضاء يبث بشكل محدود في المجال الجنائي، وهذا المجال له حساسية مطلقة، لأنه يهم حريات الناس وحقوقهم ويتعين توفير جميع الوسائل البشرية و المسطرية لحماية الماثلين أمامها، وأهم هذه الوسائل هي المساواة في الإمكانيات المسطرية والمادية، والذي يشرف على مدى توفر هذه الإمكانيات ويسهر على مساواتها هو رئيس المحكمة بالنسبة للوسائل المادية، والقضاء يسهر على مدى احترام الشكليات القانونية التي توفر هذه الوسائل، وبالتالي غياب رئيس المحكمة يسمح للنيابة العامة الاستفراد بمجموعة من السلطات قد تهدر حقوق الدفاع بشكل خاص او حقوق المتقاضين بشكل عام، بل إن عمل المحكمة سيفتقد إلى ذلك الحكم الذي يضبط التوازن ويضمن سيرها لفائدة حسن تطبيق القانون وإعمال العدالة. أما السؤال الثاني الذي أثير أثناء مناقشة هذا القانون هو أن هذا الرئيس إذ افترضنا وجوده هل يكون مدنيا أم عسكريا؟ وأعتقد أن هذا السؤال يتسم بنوع من الهروب إلى الأمام ورغم ذلك يمكننا أن نعقب كما يلي : أولا : أن القضاء مهمة مدنية والإشراف عليه مسألة مدنية، وحضور العسكري في هيئة الحكم، مبرره انه يمكن الرجوع إليه فيما يهم بعض المجالات التقنية العسكرية، وكذلك لكون المستشار أو القاضي العسكري له إلمام بالمجال العسكري وتقنياته ومكونات وتفاصيل محيطه، والقول بأن رئيس المحكمة المدني يعوقه الإلمام بالمجال العسكري وتقنياته، هو قول مردود لكون رئيس المحكمة المدني له دائما الحق في أن يستعين بالقضاء والمستشارين العسكريين المشتغلون داخل المحكمة، أو يعين خبراء من المجال العسكري لطلب رأيهم. ثانيا : أن رئيس المحكمة المدني لا يقلل في شيء من الاحترام الواجب للمحكمة العسكرية، كما أن المدني لا يمكنه أن يشتغل في إدارة الشأن العسكري على مستوى القيادة، أي الإدارة أثناء الحرب، لذلك هذا الحكم يمكن أن ينطبق على القاضي التجاري الذي لا يعرف في التجارة شيئا، وعلى القاضي البنكي الذي لا يعرف في عالم الأموال شيئا، وغير ذلك من الاختصاصات القضائية التي أصبحت تنهال علينا بتطور البشرية وتعقد مشاكلها، وإلا فماذا يفهم القاضي المدني في مجال المعلوميات، وهذا لابد من الإشارة أن وزير إدارة الدفاع الوطني بالمغرب هو شخصية مدنية وليس شخصية عسكرية بطبيعة نظامها السياسي. وقد يكون العنصر الحاسم في هذا الموضوع هو طبيعة النظام السياسي ببلدنا، فجلالة الملك رئيس الدولة شخصية مدنية، وهو الذي يترأس المجلس الأعلى للسلطة القضائية (الفصل 115 من الدستور) وإضافة إلى صفته المدنية، فإنه بحسب الفصل 42 يقوم بعدة مهام بصفته ملكا ورئيسا للدولة وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة وضامن دوام الدولة واستمرارها والساهر على احترام الدستور. و بصفته رئيسا للمجلس الوزاري (الفصل 48 من الدستور) فله مهام مختلفة مدنية وعسكرية، ومنها كعسكري حين إشهار الحرب، كما له صفة ترأس مجلس وزاري عند التداول في مجال النصوص المتعلقة بالمجال العسكري. كما أن الفصل 53 من الدستور جاء واضح واعتبر أن الملك بصفته تلك، هو القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية، كما يترأس الملك المجلس الأعلى للأمن (الفصل 54). إن هذه العناصر تؤكد أن طبيعة نظامنا المدني، يفرض علينا _حتى يكون قضائنا العسكري قضاء متخصص وليس استثنائي_، أن يكون الرئيس مدني، أما وجود عسكري على رأس المحكمة العسكرية، فهو سلوك مرتبط بالأنظمة العسكرية التي وصلت إلى السلطة بالانقلابات. إن مدنية جلالة الملك المستندة على البيعة والذي أناط به الدستور مهام عسكرية لم تمنعه من أن يكون قائدا أعلى للقوات المسلحة بل وأن يعين شخصية مدنية كوزير مكلف بإدارة الدفاع الوطني مما يجعل من الأرجح أن يكون رئيس المحكمة العسكرية قاضيا مدنيا ما دام ان مهام القضاء هو شأن مدني بامتياز. إن فصل المحكمة العسكرية عن النظام العام للجهاز القضائي للمحكمة، قد يحوله إلى محكمة استثنائية، ومن تم سيكون مناقض مع مضمون الدستور، في مقابل ذلك سيجعل وجود شخصية مدنية في رئاسة المحكمة العسكرية محكمة متخصصة تخضع لنفس معايير نظام المحاكم العادية مما سينتج عنه أنها ليست محكمة استثنائية ولكنها محكمة متخصصة، وكذلك تعبيرا عن وحدة الجهاز القضائي الذي يترأسه شخصية مدنية والذي هو جلالة الملك بصفته رئيسا للمجلس الأعلى للسلطة القضائية. إن هذه المعطيات تفرض علينا أن لا نخالف موعدنا مع التاريخ، وأن نخلق جهاز قضائي عسكري لا يصبح علينا عبئً حقوقيا، لأن الوضع القضائي بالعالم يتطور بشكل يسمح بأن تتوفر فيه نفس العناصر التي تتوفر في مجال الممارسة الديمقراطية، وهو أن يكون الأطراف متساوون أمام القانون منفصلون في مهامهم ويخضعون لنفس القانون أينما حلوا وارتحلوا.