ميناء طنجة : تراجع كمية مفرغات الصيد البحري بنسبة 30% حتى متم أبريل    بدء أعمال الدورة 33 لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة بمشاركة المغرب    أندية الدوري الإنجليزي تصوت على مقترح "إلغاء تقنية حكم الفيديو"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة.. نزول أمطار ضعيفة ومتفرقة فوق مناطق طنجة واللوكوس    الأمن الوطني.. 68 سنة من الحفاظ على النظام العام وحماية المواطنين    وفاة رائد الطرب الغرناطي الفنان أحمد بيرو    أخنوش يتباحث مع رئيس الحكومة اللبنانية    "حماة المال العام" يستنكرون التضييق على نشاطهم الفاضح للفساد ويطالبون بمحاسبة المفسدين    هذه العوامل ترفع خطر الإصابة بهشاشة العظام    تصفيات مونديال 2026: الحكم المغربي سمير الكزاز يقود مباراة السنغال وموريتانيا    بعثة نهضة بركان تطير إلى مصر لمواجهة الزمالك    كأس العرش.. مولودية وجدة يضرب موعدًا لمواجهة الرجاء في النصف النهائي    إيقاف مسؤول بفريق نسوي لكرة القدم ثلاث سنوات بسبب ابتزازه لاعباته    إطلاق مجموعة قمصان جديدة لشركة "أديداس" العالمية تحمل اللمسة المغربية    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    ارتفاع الودائع البنكية إلى 1.177,8 مليار درهم عند متم مارس الماضي    شرطي يشهر سلاحه على سائق سيارة بطنجة والأمن يدخل على الخط ويوضح    سفارة المغرب ببانكوك توضح بخصوص وضعية المغاربة المحتجزين بميانمار    انطلاق القافلة الثقافية والرياضية لفائدة نزلاء بعض المؤسسات السجنية بجهة طنجة تطوان الحسيمة من داخل السجن المحلي بواد لاو    مصرع شخصين في انقلاب شاحنة بتيفلت    اعتبروا الحوار "فاشلا".. موظفون بالجماعات الترابية يطالبون بإحداث وزارة خاصة    السعودية تطلق هوية رقمية للقادمين بتأشيرة الحج    باحثون يعددون دور الدبلوماسية الأكاديمية في إسناد مغربية الصحراء    قافلة GO سياحة تحط رحالها بجهة العيون – الساقية الحمراء    مربو الماشية يؤكدون أن الزيادة في أثمنة الأضاحي حتمية ولا مفر منها    يوفنتوس يتوّج بلقب كأس إيطاليا للمرّة 15 في تاريخه    مانشستر سيتي يهدد مشاركة جيرونا التاريخية في دوري الأبطال    المغربي محمد وسيل ينجح في تسلق أصعب جبل تقنيا في سلوفينيا    "أديداس" تطلق قمصانا جديدة بلمسة مغربية    ظاهرة "أسامة المسلم": الجذور والخلفيات...    الاستعادة الخلدونية    رسالة اليمامة لقمة المنامة    صعود أسعار النفط بفضل قوة الطلب وبيانات التضخم الأمريكية    العسري يدخل على خط حملة "تزوجني بدون صداق"    وزارة "الحج والعمرة السعودية" توفر 15 دليلًا توعويًا ب16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    مطالب لوزارة التربية الوطنية بالتدخل لإنقاذ حياة أستاذ مضرب عن الطعام منذ 10 أيام    كلاب ضالة تفترس حيوانات وتهدد سلامة السكان بتطوان    من أجل خارطة طريق لهندسة الثقافة بالمغرب    أشجار عتيقة تكشف السر الذي جعل العام الماضي هو الأشد حرارة منذ 2000 عام    مدريد في ورطة بسبب الإمارات والجزائر    نسخة جديدة من برنامج الذكاء الاصطناعي لحل المعادلات الرياضية والتفاعل مع مشاعر البشر    هنية: إصرار إسرائيل على عملية رفح يضع المفاوضات في مصير مجهول    أكاديمية المملكة تُسائل معايير تصنيف الأدباء الأفارقة وتُكرم المؤرخ "هامباتي با"    منتدى عربي أوروبي لمكافحة الكراهية    محكي الطفولة يغري روائيين مغاربة    زيلنسكي يلغي زياراته الخارجية وبوتين يؤكد أن التقدم الروسي يسير كما هو مخطط له    زعيم المعارضة في إسرائيل: عودة الرهائن أهم من شن عملية في رفح    "تسريب أسرار".. تفاصيل إقالة وزير الدفاع الروسي    الأمم المتحدة تفتح التحقيق في مقتل أول موظف دولي    المشروع العملاق بالصحراء المغربية يرى النور قريبا    ما حاجة البشرية للقرآن في عصر التحولات؟    إلزامية تحرير الجماعات الترابية من « أشرار السياسة »    النقابة الوطنية للتعليم fdt وضوح وشجاعة لاستشراف المستقبل    "الصحة العالمية": أمراض القلب والأوعية الدموية تقتل 10 آلاف شخص يوميا في أوروبا    جمعية علمية تحذر من العواقب الصحية الوخيمة لقلة النوم    دراسة: الحر يؤدي إلى 150 ألف وفاة سنويا على مستوى العالم    السعودية: لاحج بلا تصريح وستطبق الأنظمة بحزم في حق المخالفين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعد أربعة وخمسين عاما على النكسة..تغير في طبيعة الصراع أو في أدواته
نشر في التجديد يوم 05 - 06 - 2002

لم يكن الشعب الفلسطيني وقيادته السياسية بجاهلين للمنحدر الخطر الذي تهوي إليه القضية الفلسطينية كقضية قومية عربية وإسلامية، ولم يكونوا بجاهلين لاتساع الهوة بوما بعد يوم ما بين الهدف الاستراتيجي تحرير فلسطين والوسائل والأدوات المتاحة لإنجاز هذا الهدف، كما كانوا يستشعرون الانفصال المتوالي والتباعد المخطط والممنهج للأنظمة العربية عن التزامها بالقضية الفلسطينية، وغياب أي إرادة رسمية بالقتال وصعوبة تمكن استراتيجية الكفاح المسلح أو الجهاد من تحرير كل فلسطين.
وكان من الواضح أن تحولين استراتيجيين لهما علاقة بجوهر الصراع ويبدوان متناقضين استجدا على القضية الفلسطينية وأثرا على نهج التعاطي معها: الأول هو تصاعد الوطنية الفلسطينية بمستلزماتها ونتائجها كالتأكيد على الهوية الوطنية واستقلال القرار الفلسطيني وتبلور شكل من الكيانية السياسية، والثاني هو تراجع البعد القومي للقضية بمفهومه الكلاسيكي الذي يجعل الوحدة وتحرير فلسطين شرطين متلازمين وتوالي المؤشرات الدالة على أن القضية الفلسطينية لم تعد هي الشغل الشاغل للحكومات العربية ولا حتى للشعوب العربية بالإضافة إلى ضبابية مفهوم البعد الإسلامي للقضية في عالم إسلامي أكثر تمزقا من العالم العربي.
وما بين الوطنية الفلسطينية الصاعدة كحقيقة فرضت نفسها على العالم من جهة وأفول البعد القومي وغموض مفهوم البعد الإسلامي ومحدودية الحقوق السياسية التي تمنحها الشرعية الدولية للشعب الفلسطيني، وما يترتب على كل ذلك من استحالة قيام حرب تحرير عربية أو إسلامية تقضي على إسرائيل من جهة أخرى، انبثق فكر التسوية السلمية، تسوية حاولت أن تستثمر تراجع البعد القومي والعجز الرسمي العربي وفي نفس الوقت تلحظ دورا ما للوطنية الفلسطينية الصاعدة، تسوية لا تمانع في تجاوز التعامل السابق مع الفلسطينيين كمجرد لاجئين ولكنها في نفس الوقت تحد من طموحاتهم وأهدافهم الوطنية وتحاصر فكر ونهج الثورة، كانت التسوية التي تعتمد على قرارات الشرعية الدولية هي الإطار المناسب لتقريب مواقف مختلف الأطراف بداية ثم شرعية تفاوضية أدخلت الفلسطينيين في متاهات لا نهاية لها، وهي تسوية غيرت جذريا من طبيعة الصراع في المنطقة.
ومع ذلك لم تكن عملية الانتقال من الشرعية التاريخية والحقوق الوطنية الثابتة إلى الشرعية الدولية ثم التفاوضية والحقوق المستمدة من موازين القوى بالأمر الهين، لأن الاعتراف بنهج التسوية السلمية يعني تحولا جذريا في طبيعة الصراع واستراتيجية الحل، فلم يعد الصراع يقوم على مبدأ إما نحن أو هم نكون أو يكونون بل يقوم على مبدإ الاعتراف المتبادل وتقاسم الوطن الفلسطيني، ولم تعد استراتيجية الحل هي استراتيجية الكفاح المسلح أو الجهاد بل استراتيجية الحل السلمي، نهج التسوية يعني الاعتراف بالعدو القومي والديني والتاريخي، كما تعني إعادة النظر بمرحلة برمتها من شعارات ومواقف وسياسات وأفكار بل ورموز وقيادات، لأن منطق التسوية السلمية الأمريكية يفرض تقديم تنازلات وإعادة النظر بما كان يعتبر من الثوابت والمقدسات، كانت التسوية تعني الاعتراف بأن الصراع لم يعد صراعا بين الأمة العربية من جهة وإسرائيل من جهة ثانية، بل صراع بين إسرائيل والفلسطينيين، وأن ما يعني العرب هي قضايا الحدود بالنسبة لمصر وسوريا والأردن، وأما دون ذلك فدور العرب والمسلمين في أحسن الحالات هو التعاطف مع الموقف الفلسطيني.
وهكذا كان الفلسطينيون يتقدمون/ينحدرون نحو الحل السلمي والتفاوض مع إسرائيل بقدر ما كانت الأنظمة العربية والإسلامية تبتعد عن فلسطين وتتخلى عن التزامها القومي، وكانت كل خطوة تقرب القيادة الفلسطينية من التسوية وتجعلها مقبولة أمريكيا وإسرائيليا، خطوة تراجعية في نفس الوقت عن استراتيجية الكفاح المسلح وعن الثوابت الوطنية، لقد بات واضحا أن القوى الفلسطينية التي تقول بالكفاح المسلح أو الجهاد أصبحت مرفوضة ومحاربة علنا من إسرائيل وأمريكا وسرا من طرف غالبية الأنظمة العربية، نعم كانت مقبولة من طرف غالبية الجماهير الفلسطينية والعربية والإسلامية، ولكن في زمن الحروب الحديثة وحيث تملك إسرائيل أقوى جيش في الشرق الأوسط بما في ذلك أسلحة نووية، وفي ظل إغلاق الحدود العربية أمام من يطلب الشهادة في سبيل فلسطين، وفي ظل غياب ثقافة حرب الشعب أو الجهاد ومتطلباتها، لم يعد القيام بعدة عمليات فدائية قادرة على القضاء على إسرائيل.. القضاء على إسرائيل أصبح يحتاج إلى جانب ذلك إلى جيوش حديثة وعصرية تتوفر على أسلحة نووية أو ما يعادلها أو تعمل تحت مظلة نووية لحليف استراتيجي مع وجود مناخ دولي لا يمانع بالقضاء على إسرائيل،
وواقع الحال أن الجيوش العربية في وضعيتها الحالية غير مؤهلة عسكريا وسياسيا لدخول حرب ضد إسرائيل تكون احتمالات كسبها مضمونة، كما أنه من المستبعد في ظل الوضع الدولي الحالي السماح بتدمير إسرائيل حتى وإن كان ذلك في مكنة العرب.
تعيش القضية اليوم في عالم متغير، فبالعودة إلى الوراء قليلا نلاحظ أن الثورة الفلسطينية المعاصرة عندما صاغت هدف تحرير كامل فلسطين وإنهاء الوجود الصهيوني رهنت تحقيق هذا الهدف بوجود ثورة شعبية عربية وإسلامية إن كان ممكنا، حيث لا نجاح للثورة الفلسطينية في غياب واقع عربي ثائر وأنظمة عربية مستعدة لدفع استحقاقات المعركة لتحرير فلسطين (تنبني الزعماء العرب في قممهم الأخيرة السلام كخيار استراتيجي) وأنظمة إسلامية تؤمن بقدسية القدس ولديها الاستعداد للجهاد في سبيلها (رفضت منظمة المؤتمر الإسلامي في دوراتها المتعاقبة إعلان الجهاد لتحرير القدس).
وساعدت الطفولية اليسارية والشعاراتية الفارغة لبعض القادة والمسؤولين الفلسطينيين والعرب في حرف الثورة الفلسطينية واستراتيجيتها الكفاحية عن هدفها المحدد في المواثيق الفلسطينية حيث حملوها أكثر من طاقتها، وبالغ هؤلاء في تضخيم قدرة الثورة الفلسطينية ووقعوا في فخ الأنظمة العربية عندما أسندوا للثورة الفلسطينية مهمة تحرير كامل فلسطين، واكتفوا بمطالبة الأنظمة بالدعم المالي والسياسي، لقد كان ثمن سياسة التهويل والتضخيم وسياسة عدم الوضوح والانفعالية والشعاراتية، هو ذلك التناقض الهائل بين الإمكانات الذاتية للشعب الفلسطيني والظروف الموضوعية من جهة وهدف تحرير فلسطين كاملة من جهة أخرى.

هل يمكن للذين انهزموا عسكريا أن ينتصروا سياسيا
كان التبرير الرئيس لتخلي بعض الأنظمة العربية وخصوصا مصر عن القضية الفلسطينية أنهم خاضوا حروبا مع إسرائيل وقدموا شهداء ولكنهم لم يستطيعوا هزيمة إسرائيل، وأنهم غير مستعدين للقتال دفاعا عن الآخرين الشعب الفلسطيني لاشك أن الهزائم العسكرية والأزمات الاقتصادية تشكل خطرا داهما على الشعوب وفي وقت الهزيمة يتعزز المثل القائل (اللهم نفسي) ولكن للهزائم العسكرية أسبابا يمكن تجاوزها بدلا من الهروب من ساحة المواجهة، كما أن أخطر ما يهدد وجود ومستقبل الشعوب ليس الهزيمة العسكرية، إن ما يهدد وجود ومستقبل الشعوب هو غياب نخبة سياسية حكيمة وراشدة وفقدان الأمة ثقتها بنفسها وتشككها بعدالة قضاياها المصيرية وتخليها عن قيمها ومعتقداتها وذاكرتها الجمعية التي هي ضميرها الحي، فالحرب كر وفر، نصر وهزيمة أو (يوم لنا ويوم علينا)، وعليه، فإن خسارة الحروب العسكرية والتخبط في الأزمات الاقتصادية وفقدان المكتسبات الدولية ماهي إلا نتائج كان لابد أن تقع مادام العرب لا يعرفون ماذا يريدون أو بالأصح كل نظام يعرف ماذا يريد كنظام ودولة، ولكنهم كأمة عربية واحدة لا يعرفون ماذا يريدون أو غير مؤمنين بشيء يسمى المصلحة القومية أو
قدسية القضية.
لقد خسر العرب حروبهم العسكرية والدبلوماسية لأنهم خاضوها بجيوش وليس بجيش واحد، بتصورات وأهداف وليس بتصور أو هدف واحد، خسروها لأن الأنظمة تسعى لتحقيق أهدافها ومصالحها القطرية وحفاظا على العروش والمراكز، كان رفعها شعارات القومية والإسلام وتنديدها بالصهيونية والامبريالية ودعوتها للحرب.. ليس إيمانا بما تقول، إنما لتملق الجماهير ومداهنتها ليس من أجل المصلحة القومية العربية الواحدة التي لا يؤمن غالبيتهم بها، بل من أجل مصالح النخبة الحاكمة، وكانت آخر المعارك الفاشلة هي ما يسمونه (معركة السلام) أو هي مهزلة السلام، فهل يعقل أن من ينهزم في معارك عسكرية ومعارك التنمية الاقتصادية أن يكسب في معركة الدبلوماسية والتفاوض وأن يستعيد على طاولة المفاوضات ما خسره في ساحات المعارك؟
وهل يمكن لنفس القيادات والأنظمة ولنفس الأوضاع والبنيات السياسية والاقتصادية المهزومة والفاقدة لمصداقيتها الشعبية والدولية أن تربح معركة السلام!

نهج التسوية ومحاولة تغيير طبيعة الصراع
لو أردنا أن نمرحل القضية الفلسطينية أو الصراع العربي الإسرائيلي حسب الفكر السائد اليوم بعد أربعة وخمسين عاما على النكبة حول طبيعة الصراع، لصنفت الحقبة الحالية والممتدة منذ أكتوبر 1991 مؤتمر مدريد إلى اليوم بأنها مرحلة محاولة تغيير في طبيعة الصراع، من صراع فلسطيني عربي إسلامي من جهة وإسرائيلي صهيوني إمبريالي من جهة أخرى، إلى صراع فلسطيني إسرائيلي، بل صراع ما بين إسرائيل الصهيونية العالمية والامبريالية من جهة وفلسطيني الداخل من جهة أخرى وما يصاحب هذا التحول من تغيير في أدوات الصراع بمحاولة فرض ما يسمى استراتيجية السلام، وهي الاستراتيجية التي قامت على أساسها اتفاقية أوسلو وتبنتها القمم العربية الأخيرة.
لقد تراجع البعد القومي والإسلامي للقضية والانتفاضة الأخيرة بكل عظمتها لم تستطع استنهاض هذين البعدين إلا قليلا وعلى المستوى الشعبي لا الرسمي واستراتيجية التحرير الكامل تعاني من تحديات وتعيش مأزقا خطيرا داخليا وخارجيا، وأصبح الفكر الذي كان يعتبر التسوية ونهج التسوية بمثابة الخيانة الوطنية والقومية وضربا من الخوض في المحرمات (1) جزءا من فكر تجاوزه الزمن، ومتخلف، في منظور دعاة التسوية اليوم فالحديث عن استراتيجية التحرير الكامل، بل أي حديث عن خيار الحرب لمواجهة العدو واستعادة الحقوق الفلسطينية والعربية المشروعة، يعتبره دعاة التسوية اليوم مظهرا من مظاهر التخلف الحضاري والجمود الفكري، ورمزا من رموز حقبة عربية حملوها السبب في ما وصل إليه الوضع العربي بشكل عام والقضية الفلسطينية بشكل خاص.
لاشك أن منطق الصراع أي الصراع يتضمن التسوية كحل مؤقت له، فلا صراع يبقى مفتوحا إلى ما لانهاية، بل لابد من وضع حد له بتسوية ما، أيضا قد يقول قائل أن الحديث عن التسوية ليس بالشيء الجديد، فقد جرى الحديث عن مشاريع للتسوية منذ بداية المشكلة الفلسطينية، وقبل العرب بعضها، بل كانت لهم مشاريعهم الخاصة للتسوية، فقبول عبد الناصر بمشروع روجرز هو قبول بشكل من أشكال التسوية، والبرنامج المرحلي برنامج النقاط العشر الذي تبنته منظمة التحرير الفلسطينية عام 1974 هو مشروع تسوية، وقبول قراري 242 و338 هو قبول بتسوية واتفاقية كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيوني هي تسوية، بل إنها المنطلق والقاعدة التي هيأت الوضع العربي ماديا ونفسيا لقبول منطق التسوية، وكذلك الأمر مع مشروع الملك فهد وأخيرا مبادرة ولي العهد السعودي، وكل المشاريع الأمريكية والسوفيتية والأوروبية والأممية.
إن أهمية مؤتمر قمة فاس فيما طرأ على طبيعة الصراع من تحول أنه ولأول مرة يصدر عن قمة عربية مشروع سلام يعترف بإسرائيل ولا يتحدث عن الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني بل عن حقوق مستمدة من قرارات الأمم المتحدة، نعم، تحدث مشروع السلام العربي عن قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس، إلا أنه في نفس الوقت جعل تحقيق هذا الهدف عن طريق المفاوضات وفي إطار الأمم المتحدة، أما الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية وتحرير فلسطين بشكل عام فإن قمة فاس أقامت لهم حفل تأبين عربي رسمي ثان بعد حفل التأبين في بيروت.
قد يقول قائل كان على الثورة الفلسطينية أن ترفض قرارات قمة فاس وأن تتمسك بالكفاح المسلح وبأهدافها وباستراتيجيتها، وهذا ما قالت به بعض فصائل الثورة الفلسطينية، ولكن هؤلاء يتناسون أن لا ثورة فلسطينية تحريرية دون أرض تنطلق منها وتشكل قاعدتها العسكرية، أو بشكل آخر لا ثورة فلسطينية ناجحة دون محيط عربي ثائر أو على الأقل مستعد لدفع استحقاقات قيام ثورة حقيقية، والأنظمة التي سكتت إن لم يكن تواطأت على إخراج الثورة من لبنان، هل ستسمح لها بالعودة لممارسة الكفاح المسلح انطلاقا من دول المواجهة، وفرضت عليهم أن ينقلوا ساحة المواجهة الرئيسية من خارج فلسطين حيث أجهض البعد القومي للقضية إلى داخل فلسطين لتأخذ القضية مسارا جديدا هو مسار البحث عن تسوية يعتمد فيها الفلسطينيون بشكل رئيس على إمكاناتهم الذاتية.
أثناء معركة بيروت صيف 1982 صرخ ياسر عرفات قائلا >يا وحدنا< وقد عبرت هذه الصرخة عن عمق الصدمة وشدة الألم الذي أصاب الفلسطينيين وهم يشاهدون التقاعس الرسمي العربي، كانت الكلمة بكل ما بها من ألم تعبيرا عن اليأس من المراهنة على العرب وعن فقدان القضية الفلسطينية لبعدها القومي على المستوى الرسمي العربي، وأن العرب لم يعودوا معنيين بمصير القضية الفلسطينية. كانت حرب لبنان نقطة تحول في مسيرة الصراع في المنطقة أبانت عن عدم واقعية شعار الترابط المصيري ما بين فلسطين والأمة العربية وعن عجز >الحليف الاستراتيجي< الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية عن فعل شيء، فهذه الأخيرة فضلت الوقوف إلى جانب الأنظمة العربية بدلا من الوقوف إلى جانب الثورة الفلسطينية، وكانت مجزرة صبرا وشاتيلا 1982/9/18-17 الرهيبة بحق الفلسطينيين العزل في المخيمات والتي ارتكبتها قوات الكتائب المسيحية تحت حماية القوات الإسرائيلية وصمت الأنظمة العربية بمثابة رسالة تأكيد على تبلد الإحساس بالمسؤولية الأخلاقية والقومية عند غالبية الأنظمة العربية، وحالة الشلل التي أصابت الأمة العربية وهي ترقب المجزرة، حيث أن المظاهر الوحيدة التي خرجت منددة
بالمجزرة وبمرتكبيها جرت في إسرائيل وليس في دولة عربية (2).
فرضت نتائج حرب لبنان على الثورة الفلسطينية أن تتعاطى إيجابيا مع نهج التسوية ومبادرات السلام، ليس إيمانا منها أن هذه المبادرات صادقة وفاعلة وأن مجرد قبول (م. ت. ف) بها سيؤدي إلى قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، بل حتى تحافظ على وجودها كتجسيد للكيانية وللهوية الوطنية الفلسطينية ولتكون عائقا أمام محاولات شطبها وإلغاءها من الخريطة السياسية، كان الخروج من بيروت بمثابة الخروج من ساحة المواجهة العسكرية والدخول في ساحة المواجهة السياسية والدبلوماسية.
لقد بينت الأحداث أن الصراع انتقل من صراع وجود، صراع حول مبدإ التسوية السلمية، إلى صراع على الحدود، صراع على شكل التسوية السياسية، وبينت الأحداث أن التقدم على مسار التسوية يتزايد بقدر التخلي عن مفهوم البعد القومي للقضية الذي تختزله مقولة أن الصراع مع الكيان الصهيوني هو صراع وجود (إما نحن أو هم)، كما أكدت الأحداث أنه كلما تمسك الفلسطينيون بمفهوم استقلالية القرار وعملوا على إبراز الهوية الفلسطينية كلما تراجع البعد القومي، معنى هذا أن تحويل الصراع إلى صراع فلسطيني إسرائيلي يتفق مع منطق التسوية السلمية لأن الفلسطينيين وحدهم لا يمكنهم أن يقضوا على العدو الصهيوني.
وللمفارقة أن سعي الفلسطينيين للتحرر من الوصاية والهيمنة الرسمية العربية، أدى في نفس الوقت إلى تحرر الأنظمة العربية من التزامها القومي، حيث كانت السنوات الممتدة ما بين قمة الرباط 1974 ومؤتمر مدريد 1991 هي مرحلة إعادة تشكل الصراع في المنطقة سواء من حيث طبيعته أو من حيث أطرافه، وهذا التشكل الجديد الذي كان نتيجة عوامل متعددة: الحرب، التحول في القناعات السياسية، الضغوطات السياسية، الإغراءات المالية والخيانة أيضا، هو الذي جعل التسوية ممكنة، ولكن أي تسوية هذه التي تضع الفلسطينيين الذين نصفهم تحت الاحتلال والنصف الآخر في الشتات وجها لوجه مع العدو الصهيوني المتحالف مع الامبريالية الأمريكية؟

واقعية الثوار المجروحين:
عندما وقف الرئيس ياسر عرفات على منصة المجلس الوطني الفلسطيني في دورة انعقاده في الجزائر ما بين الرابع عشر والسادس عشر من نونبر 1988 ليعلن من هناك استقلال دولة فلسطين، في جو غير عادي وتحت تغطية إعلامية غير عادية وفي أجواء نفسية وعقلية وعاطفية غير عادية، عندما أعلن أبو عمار ذلك تملكتنا رهبة المكان والحدث وشعرنا بموجة عاتية من الحماس وشحنة من العاطفة الانفعالية التي كادت تتحول إلى فرحة عارمة لولا أن حسابات العقل ووطأة الإحساس بمرارة الواقع ومرارة تجاربنا مع المواقف الانفعالية والشعارات الملتهبة التي تصادر عقولنا وتسلخنا عن الواقع وتتوه خطانا عن الطريق لسنوات طوال ثم نفيق على الواقع فنفاجأ ببعد الشعارات عن الحقيقة كبعد الحلم عن اليقظة، جعل فرحتنا قصيرة العمر أو أنها كانت فرحة مشروطة وحذرة.
كان إعلان الدولة في الجزائر تحولا استراتيجيا ولاشك في نهج الثورة الفلسطينية، تحول يعبر عن استعداد للتعامل مع قرارات الشرعية الدولية، وهي القرارات التي كانت مرفوضة سابقا، ولكن ماهي أسباب هذا التحول؟ وهل هو خطوة إلى الأمام أم انتكاسة للوراء؟ وهل في قرارات الشرعية الدولية ما يطمح إليه الفلسطينيون من حقوق وطنية؟ وإن كان الأمر كذلك فهل أن مجرد اعتراف الفلسطينيين بها يعني أنها ستقدم لهم على طبق من ذهب ويقال لهم تفضلوا وأقيموا الدولة التي تريدون؟!

1 جاء في البرنامج السياسي الصادر عن الدورة الحادية عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني المنعقد بالقاهرة ما بين السادس والثاني عشر من يناير 1973، أن من مهام منظمة التحرير: (النضال ضد عقلية التسوية وما تفرزه من مشروعات تستهدف قضية شعبنا في تحرير وطنه أومسخ هذه القضية بمشروعات الكيانات أو الدولة الفلسطينية على جزء من أرض فلسطين والتصدي لهذه المشروعات بالكفاح المسلح وبالنضال السياسي الجماهيري المرتبط به).
2 هناك تقصير كبير عند القيادة الفلسطينية فيما يتعلق بالحفاظ على الذاكرة الفلسطينية متيقظة ومستوعبة لمجمل التاريخ الفلسطيني بانتصاراته وهزائمه، فمجازر صبرا وشاتيلا وقبلها دير ياسين وقبية وغزة، وبعدها تكسير عظام أطفال الانتفاضة واغتيال المناضلين ومطاردتهم في كل أنحاء العالم ثم اضطهاد الفلسطينيين في الكويت، وأخيرا مجازر مخيم جنين، هذه المعاناة وهذا الظلم الفادح الذي يضاف إلى حياة التشرد في المخيمات والإذلال في المنفى والمطاردات، هذه الأحداث يجب أن تحتل موقعا مركزيا في ذاكرة الإنسان الفلسطيني وهذا لا يكون إلا بإعلام وطني جاد وفاعل، إن معاناة شعبنا جزء من تاريخنا ومن ينسى معاناته ينس تاريخه.
الأستاذ إبراهيم أبراش


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.