بعبارات دقيقة، وربما مدروسة، عبرت الأحزاب السياسية عن تقييمها لمضامين الخطاب الملكي وتوجهاته الأساسية. فمن الذي رأى فيه خطوة جديدة وجريئة على طريق تحديث هياكل الدولة، إلى من اعتبر تلك المضامين بمثابة خارطة طريق جديدة للمهام والعمل المقبل، مرورا، بمن قرأ فيها عربون وفاء لإرادة الإصلاح والتحديث، وبمن وجد فيه (ثورة جديدة) ووثبة حاسمة للمرور من مرحلة الانتقال الديمقراطي إلى مرحلة البناء الديمقراطي... وفي المجمل، فان هذه القراءات والتقييمات تفيد بان المغرب يمكنه أن يحقق في المدى المنظور لإنجاز مهام خطاب التاسع مارس، ما لم يحققه خلال ما يناهز نصف قرن من عراكه وتطوره السياسي والمؤسساتي. بهذا الثقل وبأهمية المهام الموضوعة تكون أمام قوى المجتمع الفاعلة، وفي مقدمتها الأحزاب السياسية الجادة، أجندة عمل مكثفة وينتصب أمامها سؤال كبير عن التدابير والمبادرات والمنهجيات الكفيلة بضمان نجاح الأوراش الإصلاحية الجديدة على مستوى البناء التشريعي وفي مجال التفعيل الملموس على أرض الواقع. وفي أفق ذلك وبموازاة ردود أفعال الأحزاب وتقييماتها وتقديراتها، أثير نقاش فرعي، تناول من جملة ما يتناول، وجود أو عدم وجود الاستثناء المغربي، والطريق (الأمثل) لوضع (الدستور الديمقراطي). وبالنسبة للمسألة الأولى، فإن لا المغرب، ولا غير المغرب من بلدان المعمور، يمكنه أن يكون استثناء إذا كان الأمر يتعلق بمنطق التطور وحركة الشعوب وقدرتها على التغيير والتقدم. أما إذا كان الأمر يتعلق بالخصوصية الوطنية وبالتميز، مقارنة مع بلدان الجوار إقليميا وقاريا، من حيث مستوى التطور والوضع السياسي، وحريات التعبير والتنظيم ومستوى ونمط الحياة، فان هذا (الاستثناء) قائم وموجود، خصوصا إذا حصرناه في المحيط العربي، وربما حتى بالمقارنة مع بعض (أمهات) الديمقراطية في بلدان الجنوب. لكن المهم الآن هو كيف العمل على طريق التطور والوصول إلى مستوى الديمقراطيات العريقة في بلدان الشمال. إذ أن ذلك سيكون أفضل وأرقى من أي (تميز) بين كل أنظمة الاستبداد والعسكرة ومرادفاتها من (ولاية الفقيه) وفاشية الأصولية المزعومة. وبخصوص طريقة تعديل أو تغيير الدستور ذهبت بعض الأوساط (الجد حذرة) إلى المناداة بإسناد الأمر إلى هيئة منتخبة أو تمثيلية، أي بنوع من المجلس التأسيسي. هذا الأخير كان من شعارات اليسار المغربي، من أحزاب وتنظيمات أخرى، منذ الستينات والسبعينات، إلى أن أصبحت إمكانية الدعوة لتعديل الدستور من ضمن اختصاصات البرلمان إلى جانب الملك. اليوم، وقبل الجانب المتعلق بالصياغة، هناك العناوين أو المرتكزات الأساسية التي حددها خطاب 9 مارس، والتي وفقها وعلى أساسها ستشتغل اللجنة المكلفة بالصياغة مع الإصغاء والتشاور- كما جاء في الخطاب - (مع المنظمات الحزبية ومع الفعاليات الشبابية والجمعوية والفكرية والعلمية المؤهلة). وإلى جانب اللجنة المكلفة بالصياغة وتلقي الاقتراحات المدققة، هناك هيئة التتبع والتشاور التي تضم القيادات الحزبية والنقابية، والتي يترأسها المستشار الملكي محمد المعتصم. هذه المعطيات والآليات والقنوات تدعم التحليل القائل بأننا لسنا اليوم، أمام حالات (الدساتير الممنوحة) التي كانت تقابل بشعار (المجلس التأسيسي). على أن ذلك لا يقلل في شيء، من حجم الجهد الضروري المطلوب من كل قوى الديمقراطية والتقدم من أجل بلورة كل الإصلاحات المعبرة عن تطلعات الشعب وحاجة البلاد إلى بناء المرتكزات القوية لديمقراطية ناضجة ودولة حداثية تضمن العدالة الاجتماعية والكرامة والحرية لكل مكونات المجتمع.في خضم هذا الجهد يبرز أيضا ما يمكن أن يشكل فرصة لتحريك دينامية العمل الحزبي واستعادة العمل السياسي لاعتباره ولمعناه، وذلك من خلال ما هو مفروض أن تبادر إليه الأحزاب السياسية من فتح مختلف قنوات الاتصال والمشاركة والإشراك - لكل شرائح المجتمع ونخبه، لضمان مساهمتها وحضورها في أوراش هذا الجيل الجديد من الإصلاحات. علاوة على الدينامية المفروض كذلك أن تنطلق داخل مؤسسات وتنظيمات الأحزاب ذاتها حتى تكون كل الأحزاب (التي لها مبرر الوجود) بأدائها وهياكلها الوطنية والجهوية والمحلية، أحزاب مؤسسات في دولة المؤسسات. على مستوى النقاش والتشاور الوطني تشكل هذه الآلية منهجية مهمة لتحضير العمل المقبل، وباعتباره نقاشا وطنيا يشمل كل القضايا الأساسية للوطن وللمواطنين، فذلك ما يفترض معه أن تكون قنوات الحوار ممتدة عموديا وأفقيا وان يكون للقوى الديمقراطية والتقدمية جهدها المشترك والجماعي على هذا المستوى أيضا، بما يجعل خطوات الإصلاح السياسي والدستوري في المنعطف الحالي، شاملة ومتناسقة ومتناغمة مع حاجيات مغرب اليوم ومغرب الغرب، وبما يجعل هذا المغرب يحافظ كذلك على تميزه في منهجية الإصلاح والبناء.