الانتماء كيف نحقق الانتماء إلى هويتنا الحضارية في الكتابة الإبداعية؟ هل باللغة؟ بالحس؟ بالإيدولوجيا؟ الانتماء الذي نعنيه في هذا السؤال، لا ينفصل عن الخصائص الدالة على موقع وثقافة وزمان المبدع الفنان، شاعرا كان أو روائيا أو كتاب قصة أو باحثا ناقدا، ولا عن منطلق فهم وظيفة الإبداع كفعل للبناء والتأسيس والتغيير. الكتابة الإبداعية بهذا المعنى، ومن هذا المنطلق، تتحول إلى محاولة صريحة لخرق السكون، ولكشف عناصر الزيف والتناقض التي يغرزها الواقع اليومي على مستوى الفكر، كما على مستوى الفعل / على المستوى الذاتي والمتخيل. وتتحول أيضا – وفي الكثير من الحالات - إلى حالة تصادم مكشوفة بين المتعذر والممكن / بين الواقع والبديل. في المجال الشعري أمامنا أمثلة عديدة لهذه الكتابات التي تبحث عن انتمائها من خلال مصارحتها ومكاشفتها وتصادمها مع الواقع. إن تأملات ومفردات ومكاشفات وتضاريس العديد من شعرائنا الشباب، المنخرطين في دروب الحداثة، هي محاولة في هذا الاتجاه / محاولة للارتباط بالحقيقي وليس بالخضوع له، وهي بالتالي تصور تركيبي لمراحل وعناصر أزمة الانتماء المتعذر للأرض، وللقيم، وللغة، وللتاريخ. ولأن هذا الانتماء، يعني العشق، ويعني الامتداد والتواصل، فإن العديد من الكتابات الإبداعية المسكونة بالحب والأمل، تحاول تأكيد انتمائها من خلال تبني حالات لها حضورها القوي في الواقع المحلي، لتجعل من هذا الانتماء فلسفة وشروطا مغايرة للانتماء السائد، ولتضع الأسس المثلى للانتماء الذي يبدأ من توفر الحس الحاد بالذات وينتهي بفقدانه. بطبيعة الحال، أمامنا أمثلة أخرى لكتابات إبداعية في القصة والرواية والنقد، تبحث عن انتمائها، تحاول أن تتجاوز نفسها ومكانها وزمانها، تحاول أن تخرق لغتها ورموزها، لا نرى أنها ستحصل على بطاقة الانتماء بسهولة. ذلك لأنها – في الغالب - خارجة عن أصول العملية الإبداعية، وعن أسس العملية الانتمائية، ومن تم فإنها ستبقى في الظل، ولو تصدرت الواجهات اللامعة للنشر والإعلام. التخمة الثقافية...؟ التخمة وسوء الهضم، من أكثر أمراض العصر انتشارا، والتخمة، كما تصيب المعدة، تصيب العقل وتصيب الحواس الإدراكية المختلفة، ولا شك أن الصنف الأخير من التخمة، لا يقل خطورة عن أصنافها الأخرى، لها آثارها السلبية على الصحة النفسية وعلى سلوك الإنسان الثقافي والفكري. وكما يتعرض الإنسان لتخمة المعدة، يتعرض لتخمة الفكر، فالكثير من المثقفين والمتعلمين يقرؤون كما يأكلون، بلا نظام وبلا شهية، فالكثير منهم يجيد، إضافة إلى لغته الأصلية / الأساسية، لغة أو لغتين، وبعضهم يفكر بكل اللغات واللهجات التي يجيدها، ومنهم من تجد على مكتبه منشورات الشرق والغرب الخفيفة والدسمة، من كتب طنطاوي جوهري وموسى صبري وطه حسين والضمياضي، والنفزاوي، إلى كتب لينين، وديجول، وسارتر، وانشتاين، واندري جيد، واندري مارلو... والسيد قطب وعبد السلام ياسين والمنفلوطي وهنري كسنجر... وغيرهم. ومثل هذه التخمة، تكاد تصبح في عصرنا قاسما مشتركا بين عدد كبير من المثقفين والمتعلمين، ففي عقولهم وصدورهم، على مكاتبهم تلتقي النقائض بحرية، وتتفق الأضداد بحرية، فنزار قباني، وسلامة موسى على اتفاق تام مع سيد قطب ورشيد رضا، وجمال الغيطاني على وفاق مع النفزاوي والإمام الغزالي، ومحمد برادة ومحمد شكري ومحمد زفزاف في عناق مع ماوتسي تونج ولينين والحلاج وابن حزم وابن نواس، وجميعهم في صحبة شكسبير وموليير، ويونسكو وأحمد الطيب العلج... كيف يمكن للهضم أن يحدث...؟ لا أحد يدري هل العقل العربي يهضم كل ذلك بسهولة، وهل في استطاعته أن يتقبل الصوفية، والشيوعية، والظاهرية، والماسونية، والإلحادية، والغيبية والليبرالية في زمن واحد... وعلى مائدة واحدة...؟ في الواقع، إنها حالة لا يفرضها المثقف على نفسه، بقدر ما تفرضها عليه ظروف الثقافة العربية، التي ما يزال الكتاب فيها يعاني من الرقابة، والخوف والتهميش والفقر والاضطهاد، والتي تجعل الجوع إلى الكتاب واقعا مؤكدا... حتى لو كان هذا الكتاب عسير الهضم... وسيئ المذاق.