يبدو أن الحديث عن المواد الغذائية المنتهية الصلاحية لم يكن يجد له مجالا في فترة من فترات الزمن المغربي، لا أذكر أنه كانت هناك نشرات تحذيرية من تناول المواد التي من المفترض أن تكون قد انتهت مدة صلاحيتها، لا بل إنه في اعتقادي لم يكن منتجو المواد الاستهلاكية يهتمون بوضع ملصقات على معلباتهم ومصبراتهم تشير إلى تاريخ الإنتاج وتاريخ انتهاء الصلاحية، أما الإشارة إلى العناصر المكونة لتلك المنتوجات ومقاديرها وأنواع الفيتاميتات والأملاح المعدنية المتضمنة فيها؛ فكان ذلك من قبيل الخيال العلمي. لم يصبح الناس يصابون بالتسممات إلا بعد أن صار يتم الحرص على تضمين كل تلك الأشياء في الملصقات التي توضع على المنتوجات الاستهلاكية. أعتقد أن الشيء الوحيد الذي كان يتم فيه الحرص على الإشارة إلى مدة الصلاحية للاستهلاك هو الأدوية، لكن ما فائدة ذلك عندما يقصد المريض الصيدلي ويطلب دواء لم يصفه له أي طبيب؟ أنا أتحدث هنا عن فترة زمنية ليست بعيدة جدا على كل حال، فترة عشتها وعايشتها، أتحدث عن الفترة التي قضيت فيها طفولتي. يا ما أكلنا والتهمنا وازدردنا في ذلك الإبان من مأكولات منتهية الصلاحية، ومع ذلك لم يحدث أن أصيب أحد منا بتسمم، أو جرى الحديث في الصحف والإذاعة عن شيء اسمه تسمم جماعي، وغير ذلك من القصص التي تتغذى منها صحافة اليوم. أظن أن الجيل الحالي، لو فكر في أن يقوم بنفس التجربة؛ فإنه حتما لن يحتمل، ولا شك أنه سيعرض صحته للخطر. هل صحة الجيل الحالي أكثر هشاشة من الصحة التي كنا نتمتع بها في الطفولة، أم أن الأمر له علاقة بشيء آخر، صار مفتقدا اليوم. في اعتقادي أن السبب يرجع بصفة أساسية إلى أننا من شدة تعودنا على أكل المواد المنتهية الصلاحية، كنا قد اكتسبنا مناعة ضد أي نوع من التسممات التي يمكن تنتج عن تناول هذه المواد. بالقرب من مدرسة ابن خلدون بحي عين الشق بالدار البيضاء، في سنوات السبعين من القرن الماضي، كانت هناك سيدة سمراء ومكتنزة، تملك دكانا لبيع فتات حلوى القشدة، بثمن كان يشجعنا على اقتنائها، كانت تبيع أشياء أخرى لكننا لم نكن نرى غير ذلك الفتات، وأعتقد أنه الشيء الوحيد الذي كان يشهد رواجا لديها، صحيح أنها كانت تبيع بعض القطع من الحلوى التي كان يظهر أنها لا تزال متماسكة، غير أننا نادرا ما كنا نجرؤ على شرائها، وكنا نسعد كثيرا حين يتوفر لدينا المال لشراء الفتات فقط، أوالهرتيت كما كنا نسميه، كما أننا كنا نطلق عدة أسماء على بائعة هذا الفتات، كنا نناديها أمي الكبيرة توددا منا إليها حتى تعتني بنا أكثر وتناولنا طلباتنا من الفتات بكمية زائدة، لكننا في ما بيننا كنا نسميها أمي العزية، أي أمي السوداء، أو بكل بساطة مولاة الهرتيت. كانت حلوى قديمة، لم يفلح أصحاب المخبزات في بيعها لزبنائهم في حينها، وكانوا يجدون الحل لدى الأم الكبيرة، حيث أنها كانت تقتنيها من عندهم بأقل بكثير من ثمنها الأصلي، وتحولها إلى فتات، وتبيعها لنا نحن الأطفال الذين ندرس في المدرسة التي توجد قبالة دكانها ومسكنها كذلك. أمي الكبيرة.. أمي الكبيرة.. قوّي معاي.. هكذا كنا نهتف إليها ونحن نتزاحم بأجسادنا الضئيلة حول دكانها في أوقات الاستراحة. لم يحدث أن حملت هذا الفتات إلى البيت، لكن المرة الوحيدة التي قمت بذلك، وكان صباح يوم أحد، يوم عطلة، وبختني جدتي رحمها الله توبيخا شديدا، وهي تنذرني بأن هذه آخر مرة أحمل فيها هذه الأشياء إلى البيت. طأطأت رأسي وخجلت من نفسي، شعرت حينذاك بأنني أستهلك شيئا يدخل في خانة الممنوعات. هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته