مناهل العتيبي: ما تفاصيل الحكم على الناشطة الحقوقية السعودية بالسجن 11 عاماً؟    كتل ضبابية وحرارة مرتفعة ورياح قوية في طقس يوم الجمعة    اجتماع بوزارة الداخلية لتحديد معايير المدعوين لأداء الخدمة العسكرية برسم الفوج المقبل للمجندين    عقب قرارات لجنة الأندية بالاتحاد الإفريقي.. "نهضة بركان" إلى نهائي الكونفدرالية الإفريقية    إقليم الصويرة: تسليط الضوء على التدابير الهادفة لضمان تنمية مستدامة لسلسلة شجر الأركان    مجلس جماعة أولاد بوبكر يصادق بالإجماع على نقاط دورة ماي وغياب الأطر الطبية أبرز النقاط المثارة    مهرجان أيت عتاب يروج للثقافة المحلية    الكعبي يتألق في أولمبياكوس اليوناني    رسميا.. اكتمال مجموعة المنتخب المغربي في أولمبياد باريس 2024    الإبقاء على مستشار وزير العدل السابق رهن الاعتقال بعد نقله إلى محكمة تطوان بسبب فضيحة "الوظيفة مقابل المال"    تطوان: إحالة "أبو المهالك" عل سجن الصومال    الجيش الملكي يُخرج بركان من كأس العرش    كأس العرش لكرة القدم.. الجيش الملكي يبلغ ثمن النهائي بفوزه على نهضة بركان بالضربات الترجيحية 8-7    بوريطة يتباحث ببانجول مع نظيره المالي    عمور.. مونديال 2030: وزارة السياحة معبأة من أجل استضافة الفرق والجمهور في أحسن الظروف    تفكيك مخيّم يثير حسرة طلبة أمريكيين    وفاة المحامي والحقوقي عبد العزيز النويضي اثر سكتة قلبية    الملك يعزي بن زايد في وفاة طحنون آل نهيان    العقائد النصرانية    تنفيذ قانون المالية يظهر فائضا في الميزانية بلغ 16,8 مليار درهم    الأمثال العامية بتطوان... (588)    قرار بعدم اختصاص محكمة جرائم الأموال في قضية اليملاحي وإرجاع المسطرة لمحكمة تطوان    أوروبا تصدم المغرب مرة أخرى بسبب خضر غير صالحة للاستهلاك    أمطار طوفانية تغرق الإمارات وتتسبب في إغلاق مدارس ومقار عمل    مركز دراسات.. لهذا ترغب واشنطن في انتصار مغربي سريع في حال وقوع حرب مع الجزائر    أول تعليق من حكيمي بعد السقوط أمام بوروسيا دورتموند    جامعيون ومتخصصون يحتفون بشخصية أبي يعزى في ملتقى علمي بمولاي بوعزة    ها التعيينات الجديدة فمناصب عليا لي دازت اليوم فمجلس الحكومة    بايتاس رد على لشكر والبي جي دي: الاتفاق مع النقابات ماشي مقايضة وحنا أسسنا لمنطق جديد فالحوار الاجتماعي    أزمة طلبة الطب وصلت ل4 شهور من الاحتقان..لجنة الطلبة فتهديد جديد للحكومة بسنة بيضاء: مضطرين نديرو مقاطعة شاملة    فوضى «الفراشة» بالفنيدق تتحول إلى محاولة قتل    ارتفاع حصيلة القتلى في غزة.. واعتقالات في الضفة الغربية    "الأمم المتحدة" تقدر كلفة إعادة إعمار غزة بما بين 30 إلى 40 مليار دولار    المخزون المائي بسدود الشمال يناهز مليار و100 مليون متر مكعب    مجلس النواب يعقد الأربعاء المقبل جلسة عمومية لمناقشة الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة    باحثون يكتشفون آليات تحسّن فهم تشكّل الجنين البشري في أولى مراحله    بذور مقاومة للجفاف تزرع الأمل في المغرب رغم انتشارها المحدود    النفط يتراجع لليوم الرابع عالمياً    طاهرة تودع مسلسل "المختفي" بكلمات مؤثرة        رسميا.. جامعة الكرة تتوصل بقرار "الكاف" النهائي بشأن تأهل نهضة بركان    مؤسسة المبادرة الخاصة تحتفي بمهرجانها الثقافي السادس عشر    البرلمان يستعرض تدبير غنى الحضارة المغربية بالمنتدى العالمي لحوار الثقافات    إلقاء القبض على إعلامية مشهورة وإيداعها السجن    آبل تعتزم إجراء تكامل بين تطبيقي التقويم و التذكيرات    تسرب الوقود من سفينة بميناء سبتة كاد يتسبب في كارثة بيئية    الطيب حمضي ل"رسالة24″: ليست هناك أي علاقة سببية بين لقاح أسترازينيكا والأعراض الجانبية    مسؤولة في يونيسكو تشيد بزليج المغرب    "الراصد الوطني للنشر والقراءة" يعلن عن أسماء الفائزات والفائزين بجائزة "الشاعر محمد الجيدي" الإقليمية في الشعر    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الرئيس الكولومبي يعلن قطع العلاقات مع إسرائيل    "دراسة": زيادة لياقة القلب تقلل خطر الوفاة بنحو 20 في المائة    عبد الجبّار السحيمي في كل الأيام!    العربية للطيران ترفع عدد رحلاتها بين أكادير والرباط    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الخميس    دراسة: مجموع السجائر المستهلكة "يلتزم بالثبات" في إنجلترا    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    الأمثال العامية بتطوان... (586)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ضوابط التأويل القرآني في تحديد التوجه الفكري
نشر في هسبريس يوم 23 - 05 - 2009


تمهيد عن مذهب السلف وموقف الخلف: ""
موضوع التأويل يعد من أصعب المواضيع التي خاض فيها العلماء المسلمون على شتى مذاهبهم ومستوياتهم الفكرية، مما كان له تأثير على توجهاتهم النظرية وتصوراتهم العقدية أيما تأثير، بل إنه قد تعدى إلى حياتهم الاجتماعية والسياسية فضلا عن صياغاتهم المعرفية كما هو مشهور في كتب التاريخ والفكر الإسلامي.
ومسألة التأويل تعد أهم المحددات لمفهوم السلفية الحقة من السلفية المدعاة أو السرابية، إذ أنه يمثل في صوابه الانعكاس المعرفي الصحيح الذي عرفه جيل الصحابة وهم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما إذا جانب هذا التأويل الصواب فإنه يكون بمثابة تجنى وتطفل على ميدان له فرسانه المؤهلون للخوض فيه، وبذلك تكون دعوى السلفية لتبرير التأويل بوجه من الوجوه دون مراعاة الوضع المعرفي وواقعه عند السلف الصالح وخاصة عهد الصحابة رضوان الله عليهم هي دعوى هشة وغير ذات مشروعية كاملة لتصدر الدعوة الإسلامية وتقلد منصب الريادة فيها.
وإذا كان واقع المعرفة عند السلف الصالح قد اتسم بعمق معرفي لا مثيل له في تاريخ البشرية كما دلت عليه القرائن والآثار. فإن مواقف الخلف ينبغي أن يكون بحسب القرب أو البعد من هذا الواقع فهما وإدراكا وخاصة فيما يتعلق بالنظر في قضايا العقيدة ومسألة الصفات الإلهية والمتشابه من القرآن... إلخ.
ومن بين هذه المواقف الرئيسية التي يمكن أن تنسحب على أغلبية الخلف من عامة المسلمين نجد ما لخصه أبو حامد الغزالي في هذا النص العلمي بقوله: "أعلم أن الحق الصريح الذي لا مراء فيه عند أهل البصائر هو مذهب السلف، أعني مذهب الصحابة والتابعين، وها أنا أورد بيانه وبين برهانه فأقول:
حقيقة مذهب السلف وهو الحق عندنا أن كل من بلغه حديث من هذه الأحاديث من عوام الخلق يجب عليه فيه سبعة أمور التقديس ثم التصديق، ثم الاعتراف بالعجز، ثم السكوت، ثم الإمساك، ثم الكف، ثم التسليم لأهل المعرفة" .
والموقف الرئيسي الذي يهمنا من هذه السبعة هو "الإمساك عن التصرف في النص" وعلى رأس هذه التصرفات ذات البعد العقدي والمذهبي نجد موضوع التأويل كأهم محطة للخلافات المذهبية في الفكر الإسلامي عبر العصور.
ولاحتواء هذا الموضوع والحيلولة دون تشعبه أكثر من اللازم، فسأحاول أن أعرض له من خلال آراء بعض المختصين في هذا الميدان ونوعية التوجهات التي مثلوها عند تطرقهم للموضوع حتى أصبحت مذاهب رئيسية عند المسلمين كل واحد منها يدعي اقتفاءه المنهج السلفي في إجراءاته وتأويلاته.
وأهم هذه الاتجاهات هي: الاتجاه الكلامي الصوفي في التأويل ويمثله بصورة خاصة أبو حامد الغزالي والاتجاه الثاني هو الاتجاه الفلسفي والمسمى بالسلفي.
أولا: التكامل المعرفي بين علم الكلام والتصوف في التأويل
أ) علم الكلام والتأويل الحذر:
يعرف أبو حامد الغزالي التأويل في صورته الاصطلاحية بأنه "بيان معناه أي اللفظ بعد إزالة ظاهره، وهذا إما أن يقع مع العامي نفسه، أو من العارف مع العامي أو من العارف مع نفسه بينه وبين ربه."
ويشترط الغزالي لصحة هذا التأويل بهذا المعنى ثلاثة شروط ينبغي أن يتقيد بها المؤول وهي الوصايا التالية: أحدهما أن لا يطمع المؤول في الاطلاع على جميع المعاني المضمنة في باطن النص، فإن ذلك في غير مطمع، وليتل قول الله تعالى "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" ولا ينبغي أن يستبعد استتار بعض هذه الأمور على أكابر العلماء فضلا عن المتوسطين وليعلم أن العالم الذي يدعي الاطلاع على مراد النبي صلى الله عليه وسلم في جميع ذلك فدعواه لقصور عقله لا لوفوره.
الوصية الثانية: أن لا يكذب برهان العقل أصلا، فإن العقل لا يكذب ولو كذب العقل فلعله كذب في إثبات الشرع، إذ به عرفنا الشرع، فكيف يعرف صدق الشاهد بتزكية المزكي الكاذب. والشرع شاهد بالتفاصيل والعقل مزكي الشرع، وإذا لم يكن بد من تصديق العقل لم يمكنك أن تتمارى في نفي الجهة عن الله ونفي الصورة.
والوصية الثالثة: أن يكف عن تعيين التأويل عند تعارض الاحتمالات فإن الحكم على مراد الله سبحانه وتعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم بالظن والتخمين خطر، فإنما يعلم مراد المتكلم بإظهار مراده، فإذا لم يظهر فمن أين تعلم مراده، إلا أن تنحصر وجوه الاحتمالات، ويبطل الجميع إلا واحدا فيتعين، ولكن وجوه الاحتمالات في كلام العرب وطرق التوسع فيها كثيرة فمتى ينحصر ذلك؟ فالتوقف في التأويل أسلم" .
بعد هذا الموقف ذي المبرر الموضوعي كما يبدو، يطرح سؤال وهو هل هذه الوصايا التحذيرية من التأويل الجزافي وهذه الإيماءات باستحالة تحقق التأويل دون الانزلاق في الأخطاء ومجانبة الصواب يمثل الموقف الرسمي للغزالي من التأويل والمؤولين أم أنه يتخطاه إلى مفاهيم أكثر عمقا وأعز منالا بالنسبة إلى كثير من العلماء، وأنه بالإمكان التحصل على تأويل صحيح دون الوقوع في المحاذير والمخاطر؟
إنه يتتبع النصوص المتفرقة في كتب الغزالي حول هذا الموضوع يتبين لنا أن هذه الوصايا السالفة الذكر قد لا تمثل عنده سوى التفسير في درجته العليا والدقيقة بالمقارنة مع مفهوم التأويل ذي البعد العميق وتصور الحقيقة على ماهي عليه!
ب) المسلك الصوفي والنموذج السلفي في تحقيق التأويل:
فبالبحث في هذه النصوص نجد أن الغزالي يقصد من التأويل شيئا أوسع غوصا وأعمق في فهم النصوص ليس من باب ما تؤول إليها معانيها، ولكن من باب الكشف عن وجه العلاقة بين التمثيلات التي تشير إلى نوع من الارتباط أو التشابه بين عالم الغيب وعالم الشهادة وعن هذا يقول في صيغة حوار مع مستفسر: "لعلك تقول فاكشف عن وجه العلاقة بين العالمين، إن الرؤيا لم كانت بالمثال دون التصريح، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم كان يرى جبريل كثيرا في غير صورته، وما رآه في صورته إلا مرتين، فاعلم أنك إن ظننت أن هذا يلقى إليك دفعة ومن غير أن تقدم الاستعداد لقبوله بالرياضة والاستغراق في محبة الخالق وطلب الحق فقد استكبرت وعلوت علوا كبيرا وعلى مثلك يبخل بمثله ويقال
جئتماني لتعلما سر سعدي تجداني بسر سعدي شحيحا
فاقطع طمعك عن هذا بالمكاتبة والمراسلة، ولا تطلبه إلا من باب المجاهدة والتقوى" .
وهذا المنحى الذي نحاه الغزالي ليس سوى مذهب الصوفية في التأويل والذي يسعى إلى سلخ الامتداد المعرفي عن الامتداد التاريخي، وذلك بمعايشة الوعي والحضور الوجداني الذي كان يعايشه الصحابة رضي الله عنهم وهم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ أنهم كانوا يتحصلون على تأويلات وتفسيرات مؤسسة بالدرجة الأولى على التقوى والمجاهدة، فكانوا يدركون وجه العلاقة بين التمثيلات وبين ظاهر النص وباطنه.
وكمثال على هذا ما ورد في قصة عبد الله بن عباس وتفسيره لسورة النصر كما رواه البخاري في صحيحه "عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر إنه ممن قد علمتم، فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم، فقال ما تقولون في قول الله عز وجل "إذا جاء نصر الله والفتح" فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا، فقال أكذلك تقول يابن عباس؟ فقلت: لا، فقال: ما تقول؟ فقلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له. قال: "إذا جاء نصر الله والفتح" فذلك علامة أجلك "فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا" فقال عمر بن الخطاب: لا أعلم منها إلا ما تقول".
ونظرا لهذه الكشوفات المعرفية التي كان يتميز بها عبد الله بن عباس من حيث تعامله مع النصوص سواء سميناها تأويلا أوتفسيرا إشاريا فقد وصفه علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله: "ابن عباس كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق". وابن عباس هذا بدوره يقول ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب وقد ذهب القرطبي للتدليل على خصوصية المعرفة عند الصحابة وخاصة عند ابن عباس بقوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس وقال "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" فإن كان التأويل مسموعا كالتنزيل فما فائدة تخصيصه بذلك وهذا بين لا إشكال فيه!" .
إذن فالمقصود الذي قصده أبو حامد الغزالي ومن سار على دربه ليس هو مجرد التفسير اللغوي والتسليم العقلي والاقتناع، وإنما هو عملية عقلية وروحية في آن واحد، ذلك أن العقل يؤول المتشابه إلى المتقبلات العقلية والتي تأخذ أصولها من المحكمات الشرعية، وهذا المنهج يستعمل عند علماء الكلام أما التأويل عن طريق الإدراك الروحي فهو عمل بعد علم، وعلم بعد عمل وعلم، بمعنى أن الطريق الموصل إلى إدراك الحقيقة الواقعية للنصوص محل التأويل هو تصحيح التصور أو المفاهيم العقلية ابتداء نحو العقيدة ثم العمل على تثبيت هذا الاعتقاد بعد ذلك سيترقى في الحال إلى درجة المكاشفة، وهذا ما يصطلح عليه بباب المعرفة اللدنية، ويشير الغزالي إلى هذا متمشيا مع ما أوردته عنه في النص السابق فيقول "فأما معرفة الله تعالى وصفاته وأفعاله وجميع ما أشرنا إليه في علم المكاشفة فلا يحصل من علم الكلام بل يكاد يكون علم الكلام حجابا عليه وما نعا عنه، وإنما الوصول إليه بالمجاهدة التي جعلها الله سبحانه وتعالى مقدمة للهداية حيث قال تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين"..."
ج) السلفية الحقة في التأويل الصوفي:
وعند هذا البعد الذي يمثله التأويل كما كان عليه في عهد السلف الصالح يتدخل الصوفي ليحدد مفهوم السلفية الحقة في قضايا العقيدة، فيقول بأن التأويل لا يجوز التصريح به وأنه علم خاص يؤتيه الله من يشاء من عباده الصالحين "وما يعلم تاويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا"
فالتصديق الجملي هو الأساس، وهذا التصديق نابع عن الترسخ في العلم، وليس أنه تسليم دون وعي، بل يدركون بما أعطاهم الله من إمكانيات علاقة ما تشابه من القرآن ببعضه إدراكا عميقا، غير أنهم لا يصرحون به لأن اللغة غير مستوفية لإبلاغ هذا المعنى على حقيقته إلى الأذهان وصهره في التصور.
وإنما الواجب التصديق بما ورد، والعمل بمقتضيات التكليف وملازمة العبادة والمراقبة والتزكية حتى تنجلي التأويلات محصنة بنور الإيمان والتقوى "واتقوا الله ويعلمكم الله"
وعلى هذا السبيل نجد أغلب الصوفية يحذرون من التأويل وينهون عنه إذا كانت المسألة مجرد فكر ولغة، وذلك حتى لا يقع المؤول فيما لا تحمد عقباه من تشبيه وتجسيم وهو لا يدري، وفي هذا الصدد نجد محيي الدين بن عربي الصوفي يقول: "وما ضل من ضل من المشبهة إلا بالتأويل وحمل ماوردت به الآيات والأخبار على ما يسبق منها إلى الأفهام من غير نظر فيما يجب لله تعالى من التنزيه. فقادهم ذلك إلى الجهل المحض والكفر الصراح، ولو طلبوا السلامة وتركوا الأخبار والآيات على ماجاءت من غير عدول منهم فيها شيء إلى شيء ألبتة ويكلون علم ذلك إلى الله تعالى ولرسوله ويقولون لا ندري، وكان يكفيهم قول الله تعالى: "ليس كمثله شيء". فمتى جاءهم حديث فيه تشبيه فقد أشبه الله شيئا وهو قد نفى الشبه عن نفسه سبحانه، فما بقي إلا أن ذلك الخبر له وجه من وجوه التنريه يعرفه الله تعالى وجيء به لفهم العربي الذي نزل القرآن بلسانه، وما تجد لفظة في خبر ولا آية جملة واحدة تكون نصا في التشبيه أبدا، وإنما تجدها عند العرب تحتمل وجوها منها ما يؤدي إلى التشبيه ومنها ما يؤدي إلى التنزيه فحمل المتأول ذلك اللفظ على الوجه الذي يؤدي إلى التشبيه جور منه على ذلك اللفظ. إذ لم يوف حقه بما يعطيه وضعه في اللسان وتعد على الله تعالى حيث حمل عليه سبحانه ما لا يليق بالله تعالى"
ثانيا: سطحية التأويل بين التخمين الفلسفي وحرفية المسمى بالسلفي
أمام هذا الموقف من التأويل وأبعاده عند الصوفية نجد مواقف أخرى ذات قوة تمذهب جماعي نسبيا، ومن أهمها مواقف أصحاب الاتجاه الفلسفي في الفكر الإسلامي، وأصحاب الاتجاه ما يسمى بالسلفي في التاريخ الإسلامي.
أ) الاتجاه الفلسفي وتوهم العمقية في التأويل:
ففيما يخص الاتجاه الفلسفي في التأويل فقد دافع عنه ابن رشد الحفيد أيما دفاع وخاصة في كتابه "فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال". إذ ذهب بتعريفه للتأويل بأنه "إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي" .
ويرى ابن رشد أن السبب في ورود الظاهر والباطن في الشرع مما كان مدعاة إلى التأويل هو اختلاف فطر الناس واستعداداتهم، غير أن هذا التعليل سينحو به انجرافا نحو إعطاء الأولوية للفلاسفة باعتبارهم أرسخ الناس علما وأكثرهم برهانا وتحقيقا. وهذا التحيز إلى الفلاسفة ليس مجرد ادعاء وحصر ذاتي لأهل المعرفة والطالبين لحقائق الأمور، إذ ما الفرق بين الفيلسوف وغيره في إدراك الماورائيات، وإذا كان الفيلسوف يشترك مع غيره وهم المتكلمون بصفة خاصة في توظيف العقل لإثبات العقائد وصياغتها صحيحة لفظا ومعنى، فأية ميزة يمتاز بها عنهم. مع العلم بأن المتكلم يكون أدق وأسلم منهجا حينما يتحدث عن قضايا التوحيد، لأنه يرتكز على النصوص القرآنية والحديثية المؤيدة لاستدلالاته وبراهينه. بينما الفيلسوف لا يعتمد إلا على أداتين في صياغة عقيدته، وهما: الحس، والعقل، وكلاهما عرضة للتقصير والخطأ والوهم. وكما يقول ابن خلدون: "إن نظر الفيلسوف في الالهيات إنما هو نظر في الوجود المطلق وما يقتضيه لذاته، ونظر المتكلم في الوجود من حيث إنه يدل على الموجد، وبالجملة فموضع علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيماينية بعد فرضها صحيحة من الشرع من حيث يمكن أن يستدل بالأدلة العقلية"
وشتان ما بين النظرين من حيث التوصيل إلى الغاية، ومن هنا يبقى التأويل سواء عند الفلسفي أو الكلامي لا يعني سوى التفسير، إذ أن الأدوات الموظفة لديهما ليست سوى أدوات عادية تستند على استدلالات عقلية ولغوية، وهذه الاستدلالات تبقى في إطار تحليل الظاهر على ما هو عليه لا أنها تعطي تفسيرا خاصا لباطن النص كما يدعي ابن رشد. إذ إدراك العقل ليس إلا إدراكا للظواهر المحللة وتركيبها، أو إدراكا للظواهر المركبة وتحليلها، وهذه ليست سوى عمليات بسيطة لا تحتاج سوى إلى تركيز ومرحلية معرفية تخضع لظواهر الزمان والمكان.
والاختلاف الذي عبر عنه ابن رشد بأنه "اختلاف حول المؤول منها من غير المؤول" يعني النصوص القرآنية، هو في الحقيقة ليس إلا اختلافا في إمكانية التفسير أو عدم إمكانيتة بحسب الأدوات المتوفرة، لأن التأويل الذي سيعطي الأشاعرة لآية الاستواء ليس سوى تفسير لكلمة استوى، لا غير، والتوقف الذي وقفه الحنابلة مع اعتبار الظاهر هو توقف عند اللفظ دون تبديله بلفظ آخر يفيد معناه، وهنا سيعود بنا الحديث إلى مسألة التفسير وإمكانية إيجاد الألفاظ المفيدة لنفس المعنى الوارد في النص سواء داخل اللغة الأصلية أو خارجها، فإذا وجد وحمل المعنى المناسب للفظ الأصلي الوارد في النص كان هذا العمل تفسيرا، وإذا لم يوجد وتجرأ المؤول على صياغة معنى بلغة غير مناسبة لما هو مقصود به اللفظ الوارد في النص كان بهذا الإجراء من الذين يفسرون القرآن برأيهم، ولهذا كان إجراء الأشاعرة صوابا من جهة وإجراءالحنابلة صوابا أيضا من جهة أخرى، لكن المخالف للصواب هو التأويل بمجرد العقل كأداة مستقلة ومندفعة باسم البرهانية أو بمجرد اللغة القاصرة عن استيعاب المعنى الوارد في النص.
ب) الاسقاط اللغوي على التأويل عند المسمى بالسلفي:
وأما فيما يهم الاتجاه المسمى بالسلفي: فيمثله ابن تيمية ومن سار على مذهبه في تفسير النصوص الدينية وتأويلها.
فابن تيمية لا يعترف بالتأويل ذي المفهوم العمقي الذي يختص به البعض دون البعض الآخر من حيث إدراك المراد من الخطاب الإلهي ويرفض المعنى الذي يميل إليه التأويل عند المتكلمين والفلاسفة بأنه "صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، لدليل يقترن بذلك". فيقول: "وقد ذكرنا في غير موضع أن لفظ التأويل في القرآن يراد به ما يؤول الأمر إليه وإن كان موافقا لمدلول اللفظ، ومفهوم في الظاهر، ويراد به تفسير الكلام وبيان معناه، وإن كان موافقا له وهو اصطلاح المفسرين المتقدمين كمجاهد وغيره، ويراد به صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك، وتخصيص لفظ التأويل بهذا المعنى إنما يوجد في كلام بعض المتأخرين، فأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين... كالأئمة الأربعة فلا يخصون لفظ التأويل بهذا المعنى بل يريدون بالتأويل المعنى الأول أو الثاني" . وهو يرى أن المؤولين بغير هذا المعنى هم "أهل التحريف والتأويل، فهم الذين يقولون -في رأيه- إن الأنبياء لم يقصدوا بهذه الأقوال إلا ما هو حق في نفس الأمر وإن الحق في نفس الأمر هو ما علمنا بعقولنا ثم يجتهدون في تأويل هذه الأقوال إلى ما يوافق رأيهم بأنواع التأويلات التي يحتاجون فيها إلى إخراج اللغات عن طريقتها المعروفة وإلى الاستعانة بغرائب المجازات والاستعارات" .
عند هذه الكلمة الأخيرة الواردة في هذا النص يبرز الإشكال بين المؤولين وغير المؤولين، وهو هل الاستعانة بغرائب المجازات والاستعارات يعتبر تحريفا لمدلول النص، خاصة إذا وجد أن هذه الاستعارات والمجازات موافقة للمحكم من القرآن من حيث دلالتها على المعنى المفيد للتنزيه الوارد في النص، وكذلك موافقتها لأحكام العقل وبديهياته؟
إن ابن تيمية يريد أن يحصر حتى اللغة في فهمه المتشدد للمسألة، وذلك لاعتماده على اللغة المتداولة كمصدر وحيد لفهم النصوص، بينما اللغة العلمية والخاصة بعلم التوحيد هي اللغة الأقل تداولا دون سائر اللغات لأنها تجريدية وغير ذات توظيف متكرر في المعاملات العادية والتي يغلب عليها التوظيف المادي للمعاني اللفظية أكثر من أي معنى، ولهذا فاختيار اللفظ المتداول العادي لتفسير النص الديني ذي الطبيعة التوحيدية العقائدية دون مراعاة مطابقته للمحكم التنزيهي من النصوص ودون مراعاة للجواز العقلي أو حكمه، سيكون مدعاة للوقوع في شباك الشبه ومن ثم سيلحق بالسلف الصالح ما لم يقولوا به أو يقرروه، وذلك لأنهم كانوا من الواعين كل الوعي بمعاني الألفاظ الواردة في النصوص لقرائن تقترن بها كما سبق وذكرنا.
فالتأويل إذن عند ابن تيمية ومن سار في ركبه لا يعني سوى التفسير سواء كان عن طريق النص أو عن طريق اللغة المبينة لمعنى النص، وهنا يلتقي أصحاب هذا الاتجاه مع الفلاسفة والمتكلمين، إذ كلهم يحصرون من حيث تأويلاتهم في دائرة التفسير، إلا أن التفسير المرتكز على التفسير الشرعي بنص القرآن أو نص الحديث يكون أقوى دلالة ووضوحا من إصدار أحكام عقلية مجردة لا تستند على أي أساس شرعي ثابت، أما إذا اقترن التفسير بالنص بالأدلة العقلية فهو تفسير أقوى من الاقتصار على تفسير النص بالأدلة اللغوية المقابلة للغة النص، ومن هنا كان المتكلمون أسلم منهجا في التعامل مع آيات الصفات ومحاولتهم تأويلها من المنهج الذي سلكه الفلاسفة وأصحاب الاتجاه المسمى بالسلفي.
خلاصة الموقف التأويلي:
ويبقى المستخلص بعد هذا العرض لأهم الاتجاهات الإسلامية وموقفها من التأويل أنه في حالتما إذا تعذر وجود حكم عقلي مضمون ومستند على ثوابته المحكمات الواردة في القرآن وتعذر وجود ألفاظ يمكن انتقاؤها من بين الألفاظ المشتركة المعنى والمفيدة للفظ الوارد في النص مقصود التأويل. وجب حينئذ التوقف أو التأويل بالمؤهلات المفيدة للرسوخ في العلم، وهي التي قصدها الغزالي في تحديده لمفهوم التأويل وعمقيته، والتي من خلالها أمكن تعبير الرؤى والكشف عن الموازنة والمناسبة بين عالم الملكوت والشهادة.
ولهذا فالتأويل يبقى مسألة سرية يحتفظ بها العارف في باطنه ولا يصرح بها في المخاطبات العامة كما يقول الغزالي، "تأويل العارف مع نفسه في سر قلبه بينه وبين ربه، وهو على ثلاثة أوجه: فإن الذي انقدح في سره أن المراد به لفظ الاستواء والفوق مثلا إما أن يكون مقطوعا به أو مشكوكا فيه أو مظنونا ظنا غالبا فإن كان قطعيا فليعتقده، وإن كان مشكوكا فليجتنبه، ولا يحكم على مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم من كلامه باحتمال يعارضه مثله من غير ترجيح، بل الواجب على الشاك التوقف، وإن كان مظنونا فاعلم أن للظن متعلقين أحدهما أن المعنى الذي انقدح عنده هل هو جائز في حق الله تعالى أم هو محال، والثاني أن يعلم قطعا جوازه لكن تردد هل هو مراد أم لا" .فإذا كان العلم بالجواز سهلا نوعا ما لإمكانية إحالته على المحكمات أو العقل فإن العلم بالمراد هو الصعب ولو مع وجود اللغة للمعنى الجائز في حق الله تعالى سياقا أو مقابلة لفظية كتفسير وترجمة، ومن هنا وجب الاحتراس والتحفظ مع ترصد المعرفة اللدنية والذوقية بالتعبير الصوفي في كشف المراد من الآية، وبهذا يكون مصدر العلم بالنص الإلهي هو التعليم الإلهي نفسه، وذلك عن طريق الكشف والإلهام الموضح للمعنى الوارد في النص القرآني أو الحديثي ومراد الله ورسوله منه، "واتقوا الله ويعلمكم الله". "يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا". صدق الله العظيم.
* كلية أصول الدين - جامعة القرويين - المغرب
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.