ارتفع هذا النداء في بلاد فارس في أواخر القرن التاسع عشر ،مخاطبا مواطني ذلك البلد، وكل البلدان في كل البقاع، ولا زال صدى هذا النداء النوراني، يجد آذانا صاغية ويقلب قلوبا منيرة، ويهز مشاعر نفوس زكية، ويحرك أرواحا مضيئة ،ويجذب عقولا مستنيرة،فترى فيه صدقا وافرا، ومنطقا ثاقبا، وحقا دامغا، إذ كيف تستقيم الأقوال بدون الأفعال، وكيف تتحقق الأقوال في أرض الواقع بدون الأفعال؟ ولهذا النداء السبحاني الروحاني، أثر بالغ في مجال التربية على العموم ، سواء في الأسر أو المدارس، بحيث تتأثر شخصية الطفل منذ نعومة أظافره، لما تصدق الأفعال أقوال الآباء والأمهات والمعلمين، فيتطور في الطفل مبدأ واضح المعالم،ويترعرع على هذا الشكل بحيث لن يتفهم ولن يقدر تحمل معارضة الأفعال للأقوال، فتصبح سمة راسخة في فكره وتصرفه،وتدبير جميع شؤون حياته، بل بذلك تقوى شخصيته ويتحلى بالثقة الكاملة في نفسه ومن حوله ،فيصبح مواطنا صالحا ،خدوما لمجتمعه و محيطه،وبما أن جل مواطنيه لهم نفس التفكير ،ويتعاملون في جميع المستويات بنفس التدبير ،فلا محالة في تقدم مجتمعاتهم و ازدهارها. وإنها لظاهرة غريبة لما تصبح مخالفة الأقوال للأعمال متفشية إلى غاية أنها أصبحت القاعدة،بحيث لا يصدق الابن أباه، ولا الجار جاره، ولا الصديق صديقه، بل وأصبحت وكأنها مراوغة متداولة معترف بها متفق عليها، وأصبح عكسها هو النادر الغريب ومن لا يتعامل بها أمره عجيب. ولما يقول أحدهم للآخر أعدك بكذا ويتبع بالقولة المباركة العليا "إن شاء الله"، فغالبا ما ينفر منها المتلقي، ولا يستبشر خيرا بما وعد به، وإن لهذا لبعد روحاني خطير، وداء خلقي جسيم، وهو يظهر ازدواجية في السلوكيات، وتناقضات في الاعتقادات،ومرض نفسي وجب تصحيحه،وآفة اجتماعية حق تخطيها ،حتى يصبح الظاهر موافقا للباطن،والأقوال مطابقة للأعمال. فكيف تتحرر النفوس من هذه الأغلال، وكيف تستعيد صحوتها بعد هذا السكران، وكيف تجد ملجأ ها وملاذها بعد هذا الضياع، هل بالتخلص من جميع المعتقدات أم بالرجوع إلى منبع التعاليم ؟ فالأمر الأول يبدو أنه لم يصلح تماما حال تلك الأقوام التي سلكته،وإن اصطلحت مع نفسها ظاهريا وباتت تطابق الأفعال بالقول ،إلا أن ظواهر أخرى حلت بها فتكت بمجتمعاتها وعاشت سنين من الحروب المهولة،وإذا عزمنا على الأمر الثاني فلنا في دول أخرى أمثلة واضحة ،بينة ظاهرة، فهل يا ترى إلى أين المفر وإلى من العودة والمقر؟ فعلينا أن نأخذ الموضوع إجمالا وفي التاريخ سياقا، فالتجربة الإنسانية لا زالت في بداياتها ،فعشرات القرون التي لنا بها علم لا تشكل في الساعة الكونية إلا ثوان قليلة وبالتالي فمشوار الإنسانية لا زال على ما يبدو طويلا والطريق ممدودا وكل ما حصلت من تجارب سعيدة وحزينة ما هي إلا مرحلة تعلمية سوف تقود البشرية إلى مرحلة بلوغها و نضجها، بحيث ترى العالم بلد واحد وكل الناس سكانه. فهاجس التفاوت في الأجناس قد بات أمرا منسيا بعدما برهن العلم بوجود جنس واحد من البشر ،وإن اختلف وتنوع ما ظهر بين الملل والنحل ،إلا أنها متطابقة من الناحية الجينية ،فلا تفوق لأبيض على أسود في القدرات العقلية أو الفكرية ،ولا لشعوب الشمال على شعوب الجنوب في الذكاء والحيلة ،إنما هي الظروف المعيشية والفرص التربوية التي تضيع على الإنسانية بزوغ و ظهور عباقرة و مفكرين ومبدعين جدد، كم من بتهوفن قتل في مهده في ديار لم يتسنى لها حتى القوت فما بالك بالموسيقى، وكم من انشتين لم تكن له الفرصة الولوج للمدارس فكيف يمكن له إبراز مهاراته في الرياضيات والفيزياء، فالحضارة القائمة تشارك فيها دول قليلة وأقوام محصورة فما بالك لو تشارك جل الشعوب العالمية،لو منحت الظروف المعيشية الكريمة لكل البشر بما فيها التدريس وتحصيل العلوم والمعارف،فهل يمكن تصور القفزة الهائلة التي ستحققها الإنسانية. وحالة اتحاد العالم هذه وتوفير الظروف الملائمة وفرص النجاح للجميع ستعطي توازنا لجميع الملل بما فيها التربية الروحانية التي ستمد المجتمع بالقيم اللازمة والفهم الصحيح لمفهوم النجاح والفلاح الذي يضمن الحقوق والكرامة لكل إنسان على وجه هذه البسيطة لأنها هي الضامن في المرحلة الحالية من تقدم البشرية ،لحلول السلام الدائم وولوج العدل والإنصاف بشكل مستقر متوازن. والقيم الإنسانية في هذه الظروف من الوحدة والاتحاد والعدل والإنصاف بين جميع سكان هذا الكوكب ، هي التي سوف تبرز تطابق الأقوال للأعمال،لأنها ستكون مبنية على الصدق الذي هو أساس جميع الفضائل الإنسانية. وهذه النظرة الشمولية للبشرية لا زالت تصنف ضربا من الخيال ،ويعتقد جم غفير أنها من المحال ، ولكن يا ترى ما شأن هذا التقارب الاجتماعي و الاقتصادي والسياسي والجمعوي والتكنلوجي وغيره ،الذي قرب الناس بعضها بعضا ،وجعلك تخاطب جارك في القارة القصوى ،وتعقد صفقات تجارية في العدوة الأخرى، هل كان هذا حال الإنسانية قبل قرن من الزمان ، أم كأن عجلة التقدم والاختراع والابتكار تضاعفت و تطورت بسرعة خارقة منذ صدور تلك الكلمة المباركة ،والنداء الروحاني في أواخر القرن التاسع عشر. فإذا كان الاختراع في أي ميدان من الميادين العلمية يكون مصدره أحد العقول النيرة والنفوس النابغة ،إلا أن التحول الروحاني و التقدم الأخلاقي تكون منبعه المظاهر الإلهية ،التي تظهر من حقبة لأخرى لنفخ الحياة في الأموات وبعث أراضي القلوب الهامدة وزرع بذور الإيمان والتقوى في الأرواح الخامدة، وذلك بقوة وقدرة خارقة لقدرات البشر ، ونفوذ لا يتصوره أحد من النفر ،فهم يقدمون تصورا مخالفا لما اعتاده الناس ومفهوما جديدا لم يخطر على بال أحد من الأناس. وحدة الجنس البشري هي من تلك المفاهيم التي لم تخطر على بال شعوب ودول القرن التاسع عشر ،بل العكس هو الصحيح،بحيث كانت الإمبريالية في أوجها وسؤددها. تتهافت الدول العظمى آنذاك في تقسيم وتشتيت شمل الشعوب والدول القائمة منذ عقود،وضمها إلى مستعمراتها، وتسخير خيراتها ،والسطو على ثرواتها ،فكيف سوف تتنبه إلى ذلك النداء الرباني ،وكيف تسمع النفخ في الصور ،أو تصغي إلى لحن الرب الغفور ،وهي منهمكة منشغلة في امتدادها الاستعماري ،و إعداد الأسلحة لضمان نفوذها الجغرافي ، وبسط هيمنتها وتفوقها العسكري، إلا أن تلك المفاهيم قد تبدلت في أيامنا هذه ،وبدل النداء إلى الحرب وتدمير الخصوم إلى نداء حلول السلام و اتحاد العموم ،فهل كان لذلك النداء الروحاني في القرن التاسع عشر أثر على القلوب والعقول ؟ بما فيه اتحاد الأقوال بالأعمال؟ والنهوض إلى تحقيق شعارات التآخي والمساواة والعدل والإنصاف بين بني الإنسان ،بحيث تتحقق في أرض الواقع وتنصهر الشعوب فيما بينها في ود ووئام ، فتنعدم الخطابات المزدوجة الاستثنائية للآخرين الذين ليسوا من عرقنا، أو مواطنينا، أو من لوننا، أو ديننا وعقيدتنا، فحقوق الإنسان تشمل جميع الشعوب والملل ولا تقصي أحدا ،بما فيها ضمان العيش الكريم بالحق في التربية والتعليم والصحة والتشغيل،بل والتنقل والتفكير. فإذا طبقت بنود إعلان حقوق الإنسان العالمية في أرض الواقع ،على كل الشعوب والملل وكأنهم سكان بلد واحد ،ومواطنوا أرض واحدة ،لكان لذلك النداء صدى جميل وأثر روحاني مشهود في عالم الوجود.وهذا وعد سيتحقق بقوة رب الجنود.