المتمعن في البيان الأخير المنسوب للجنة الحقيقة والعدالة في ملف المعتقل توفيق بوعشرين، الذي تعلن فيه عن عقد ندوة صحافية جديدة لمناقشة تطورات هذه القضية، يدرك-بقليل من التبصر والتمييز-أن هناك مستجدات عديدة ومقاربة جديدة في طريقة تعاطي اللجنة مع هذا الملف، الذي بدأ، مع مرور الوقت، يأخذ مساره العادي كقضية جنائية تتعلق بجرائم الحق العام. فالملاحظة الأساسية التي تثير قارئ البيان في نسختيه العربية والفرنسية هي أن اللجنة وجهت دعوة إلى الملحقين الصحافيين بالسفارات والتمثيليات الدبلوماسية المعتمدة بالمغرب، لحضور أشغال هذه الندوة والاطلاع على التقرير أحادي الجانب المعد على هامش سريان المحاكمة. وتطرح هذه الدعوة مجموعة من التساؤلات المشروعة حول خلفياتها ومنطلقاتها. فهل يتعلق الأمر بدعوة صريحة تروم تدويل القضية دبلوماسيا، مثلما حاول في السابق المحامي البريطاني روني ديكسون والمحامية الفرنسية راشيل تدويل القضية في المحافل والهيئات الدولية، أم إن الأمر يتعلق فقط بمحاولة "حلحلة" الموقف الدبلوماسي الرسمي، الذي التزم، منذ الإرهاصات الأولى لهذا الملف، الصمت والحياد المفروض في التمثيليات الأجنبية حيال القضايا ذات الطابع الجنائي؟ كما يطرح هذا التحول الجديد علامات استفهام حول السفارات والتمثيليات الدبلوماسية المعنية أساسا بهذه الدعوة؛ هل هي سفارات الدول "الوازنة" على المستوى السياسي والدبلوماسي مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية وفرنسا وإسبانيا وألمانيا وغيرها، أم إن هذه الدعوة مفتوحة لجميع البعثات الأجنبية المعتمدة ببلادنا، بما فيها دول الأقيانوس وتجمّع دول أسيان والأرخبيلات الجديدة التي باتت ترتبط مع المغرب بعلاقات دبلوماسية؟ إن القارئ لهذه الدعوة لا يحتاج إلى كثير من النباهة والفطنة ليعرف أن "الجهة المرسل إليها" هي البعثات الأجنبية "الوازنة" التي تتوفر أصلا على ملحقين صحافيين، مثل سفارات الولاياتالمتحدةالأمريكية ودول غرب أوروبا، كما يدرك أيضا أن الهدف متعدي القصد من هذه الدعوة هو دفع هذه البعثات إلى إصدار بلاغات إعلامية رسمية تتضمن وجهة نظر اللجنة حول هذه القضية، أو على الأقل استدراجها لتحرير تقارير داخلية ترسلها إلى بلدانها تتبنى فيها فقط مواقف اللجنة الهادفة إلى تسييس الملف وإخراجه من نطاقه القانوني والقضائي. لكن الذي يجهله أو يتجاهله أصحاب هذه الدعوة هو أن المرأة لها مكانة متميزة في المجتمع الفرنسي والأمريكي والإسباني والغربي عموما، وأن مجرد امتهان كرامة المرأة تزدريه مجتمعات هذه الدول وأنظمتها القانونية، فما بالك إذا كان الفعل المرتكب ضدها هو هتك العرض والاغتصاب والاتجار بالبشر من أجل الاسترقاق أو الاستغلال الجنسي؟ فكيف يمكن إذن لأشرف طريبق، منسق اللجنة، أن يبرر للملحق الإعلامي بسفارة الولاياتالمتحدةالأمريكية ما قام به توفيق بوعشرين في حق وداد ونعيمة وسارة وأسماء والأخريات، وهو يعلم أن القضاء الأمريكي ضرب المثل بمدير صندوق النقد الدولي السابق، الذي كان مرشحا فوق العادة للرئاسيات الفرنسية ما قبل الأخيرة، دومينيك ستروس كان DSK))، لمجرد الاشتباه في اعتدائه جنسيا على مستخدمة بأحد فنادق نيويورك؟ وكيف يمكن لأعضاء اللجنة أن يقنعوا الملحق الصحافي الفرنسي بالطابع السياسي لملف توفيق بوعشرين، وهناك قضية مماثلة مازالت "طرية" أمام القضاء الفرنسي، يتابع فيها الداعية الإخواني طارق رمضان، وهو خلف القضبان مسلوب الحرية، في اعتداءات مفترضة تقل بكثير عن تلك المنسوبة للمتهم توفيق بوعشرين. وماذا سيقول أعضاء اللجنة للملحق الصحافي الإسباني لكسب تعاطفه الدبلوماسي والإعلامي وهم يعلمون أن القضاء الإسباني أصدر مؤخرا العديد من الأوامر الدولية بإلقاء القبض على أشخاص يشتبه في متاجرتهم بنساء إفريقيات من أجل استغلالهن في البغاء والدعارة؟ فالقضاء الإسباني استنفد جميع آليات التعاون الأمني والقضائي الدوليين لتطبيق القانون في حق أشخاص ينشطون في الاتجار بمهاجرات إفريقيات غير شرعيات. فكيف سيكون تعامله إذا كانت الضحايا صحافيات ومستخدمات في الحقل الإعلامي؟ كان هذا مجرد تساؤل طوباوي، لأن الجميع يعلم بأن القانون لا يسمح أصلا بالتمييز بين الضحايا، وأن شرائع وكونية حقوق الإنسان لا تفرق بين المهاجر السري والمواطن المقيم في آليات الحماية، ولا تميز أيضا بين أنواع الضحايا وجنسهم، وإن كانت تفرد حماية خاصة لأصحاب الحقوق الفئوية، من قبيل النساء والأطفال والأشخاص في وضعية إعاقة.