قبل أيام قليلة فقط، اكتشفت بالصدفة أن بطاقتي الوطنية انتهت صلاحيتها الإدارية عمليّا، أو انتهى أجلها بالمعنى العام دون أن أنتبه إلى انقضاء عُمْرها البيولوجي المفترض. قلت: فليكن، هَا عشر سنوات قد مرّت من عُمري في رمشة عين، لكن لا بأس، هي فرصة أخرى، لأجدّد صلة الرّحم مع "أحْبَابي" المُوَظفين في الكثير من الإدارات: قسم الشرطة، مركز البريد، الملحقة الإدارية والمديرية الإقليمية طلبا لشهادة العمل ليكتمل الملف، وأختبر في نفس الوقت "الكفاءات" الوطنية في إدارة المغرب الجديد، الذي ينادي به جلالة الملك محمد السادس في خطبه الرسمية مع مَطلع كل مُناسبات وَطنية مُهمة. كل هذه المَطاوف، من أجل تمديد عُمْر بطاقة التعريف الوطنية، عملية قد لا تكلفك أكثر من تقديم نفسك أمام آلة "رُوبُوت" أو مُوَظف بسيط في أوربا "الكافِرَة"، في موقف طريف، سهل ومرن، حكى لي عنه بعض الأصدقاء المقيمين في المهجر، كما لو أنهم يتحدثون عن مشاهد فيلم رومانسي. سيبدأ مشوار الاحتيالات من الاستوديو، حيث أصرّ مالكه على استخراج ثمان صُوَر بالكامل، بدعوى أن "الماكينة" لا يمكنها استخراج عدد أقل. في مركز البريد، سيطلب مني الموظف مبلغا بين ال 200 وال 250 درهم من أجل إرسال كتابين إلى العراق، وما قدره خمسة وعشرون درهما تكلفة إرسال كتاب داخل المملكة، فكان لزاما عليّ أن آخذ طاكسي صغير مُتّجِها إلى وكالة بريدية أخرى، كي ينخفض ثمن الإرسالية بالنسبة للعراق إلى 52 درهما و5 دراهم داخل البلد. هكذا وجدت في إدارة بلادي أناسا مُتجهّمي الوُجوه، كأن الابتسامة رأت علامة المنع أمام وجوههم، فتجنبتهم وانصرفت إلى جهات أخرى، موظفون خالدون في مكاتبهم، يصلون كلما علا الآذان صوامع المساجد المجاورة ويأكلون أكثر، لكن يعملون بشكل أقل...!. فلا الحاجّ حاجّا، ولا المُواطن وَطنيّا ولا الشعبُ شعبًا ولا المُؤمن مُؤمنا ويصبح الحديث عن تحديث الإدارة وما بعد الحداثة فيها، من الأمور السوريالية في بلد لازالت إدارته تمشي على إيقاع خطوات السلحفاة، عكس توجهات ملك البلاد نصره الله ورغبته وطموحات شعب بأكمله، يكفي أن تنصت قليلا إلى نبض المواطنين بلغتهم اليومية أو بلغات أخرى بالنسبة للمهاجرين في ديار الغربة، لتعرف حجم معاناتهم مع الإدارة المغربية وموظفيها. من الصباح حتى ما بعد العصر، لم أقض غرضا واحدا ممّا خرجت من أجله، وقد ضاعت مني أكثر من 100 درهم ما بين سيارات الأجرة والانتظارات في المقاهي، وبذل جهد أكثر من اللازم في الوقوف تحت الأشجار أو متكئا على الحيطان في حالة العَياء. سمعت لغات خشب قديمة، مللنا من سماعها منذ الصغر: - " السيستيم" système خاسر، مشى، ضايع، طافي...!!. لكن ما أن ترجع بعد لحظات عن غير قصد، حتى تجده قد رجع إلى العمل طائعا تائبا، أحجية ذكرني ب"أغنيات" الأسطوانات المشروخة، كنا نسمعها في الإدارة المغربية من الموظفين سابقا، كلما همّوا بالانصراف: - "راه داكشي من عندهوم"، يقصدون الدارالبيضاء إن تعلق الامر بما هو بنكي أو مالي، أو الرباط إن كان الأمر يتعلق بما هو إداري، وهاهم قد وجدوا ضحية جديدة سموها (السيسطيم واقف - système) أو "مكينش اللي يْسْني". وقد تسمع أيضا بعض الأغنيات التي عافتها الكمَنجات القديمة، "الوْرْقَة واجدة، لكن اللي يْسْني مَكاينش"، حين تسأل عن هذا الذي سيمضي عليها، تعرف أنه "السيد القائد"، وهو الآن في عطلة ومن حقه ذلك طبعا كمواطن، لكن من ينوب عنه؟، هنا لا تعرف، لكنهم حَملوهم (يقصدون الوَثائق) في السيارة إلى وجهة مجهولة، ليمضيها من ينوب عنه...!. من هو هذا الهُوَ؟ الله أعلم، وكأن الامر يتعلق بسِرّ من أسرار الدولة . ماذا أقول، وقد أشفقت على وطن نريد له أن يكون في الأعَالي كغيره من الدول وفي أولى المَراتب فيما هو أجمل طبعا؟. ليس مهما أين؟ ومتى؟ هنا، لكن "كأسك يا وطن"، في انتظار كفاءات وطنية جديدة، تخلصنا من" لغط الكمَنجات القديمة"، أعني ممّا نحن فيه من رَداءة إدارية...!.