قبل أزيد من عام، تابع العالم لقطات فريدة في مسلسل اللجوء الحزين لملايين السوريين والعراقيين وغيرهم نحو أوربا مشيا على الأقدام. لا أحد سينسى مشهد تلك المصورة الصحفية الهنغارية وهي تصور مئات اللاجئين يهربون في كل الاتجاهات، وفي لحظة سريالية رفعت رجلها واعترضت طريق رجل يمسك بطفله مذعورا ويحاول الإفلات، فسقط الأب والابن أرضا، بينما استمرت هيَ تقوم بعملها وكأنها لم تقم سوى بواجب وطني. وقتها، شتم العالم كله تلك المصورة واعتُبرت نموذجا أوربيا شاذا، بل سمعنا أنه تم طردها من عملها بسبب إخلالها بقواعد المهنة، بينما أكمل اللاجئ السوري طريقه هو وابنه إلى أن وصلا إلى إسبانيا، وهناك أكرَم مثواهما فريقُ ريال مدريد، حيث استُضيف اللاجئ وابنه في مباراة للفريق في ملعب «البيرنابيو»، ومباشرة بعدها سمعنا أن الرجل عثر على عمل في فريق «خيتافي» الإسباني لكرة القدم كمدرب للصغار، مادام أنه كان يزاول نفس العمل في بلده المنكوب. نسي العالم تلك الحكاية إلى أن استفاق هذه الأيام على خبرين يبدوان متباعدين، لكنهما ملتصقين إلى درجة الرعب.. الخبر الأول جاء من إسبانيا ويقول إن فريقا لكرة القدم استغنى عن ذلك اللاجئ السوري الذي كان قد صار حديث العالم قبل أزيد من عام، والسبب هو أن ذلك اللاجئ لم يبذل مجهودا كافيا لتعلم الإسبانية؛ والخبر الثاني جاء في اليوم التالي مباشرة، ويقول إن تلك الصحافية التي كانت قد شغلت العالم قبل أزيد من عام بعدما اعترضت، بطريقة عدوانية، طريق لاجئ سوري يحمل ابنه في حضنه، فازت مؤخرا بجائزة كبيرة عن فيلم وثائقي أنجزته عن الثورة الهنغارية وما خلفته من موجة كبيرة من اللاجئين. خبران في خبر واحد، أو خبر في خبرين، وهما معا يوضحان بجلاء مفجع كيف أن العالم الذي يسمي نفسه متحضرا لا بد أن يعود إلى جذوره بسرعة، جذوره العنصرية ومبادئه المتعجرفة وسلوكاته المتعالية؛ ففي البداية والنهاية، اللاجئ مجرد «فوطوكوبي» للبشرية، والغربي المتحضر والغني هو الأصل. العنصرية في مجال الهجرة ليست فقط في طريقة التعامل مع المهاجرين، بل حتى في طريقة التعامل مع الأخبار المتعلقة بكوارث المهاجرين! لاحظوا كيف أن خبر تحطم طائرة بها عشرة أوربيين أو أمريكيين يتفوق دائما على خبر غرق باخرة بها ألف شخص من العالم المتخلف! الغني الذي يموت يثير الكثير من الحزن، والفقير المهاجر مشكلة، سواء مات أو عاش؛ فبعدما وصل آلاف المهاجرين السوريين والعراقيين إلى ألمانيا واستقبلتهم المستشارة أنجيلا ميركل ببعض التسامح، سرعان ما تحول هؤلاء إلى مشكلة غريبة واتهمتهم وسائل إعلام ألمانية بكونهم أفسدوا احتفالات ليلة رأس السنة عندما خرجوا إلى الشوارع للإمساك بمؤخرات النساء الألمانيات، إلى درجة أن بلدية إحدى المدن الألمانية أصدرت مطبوعات تعلِّم اللاجئين طريقة معاملة النساء، ومن ذلك عدم إمساك المرأة في مناطق حساسة من جسدها، وتلك المطبوعات كانت تعتمد على الصور فقط، تماما كما لو أن الأمر يتعلق بمطبوعات تعلم القردة طريقة أكل الموز. على مدى قرون، ارتكب الغرب موبقات كثيرة جدا في حق الشعوب المتخلفة، أو التي أُرغمت على التخلف، وصار يستعملها فقط كجيوش من العبيد الصالحة لأداء كل المهام. الغرب فُتح على مصراعيه عندما احتاج الإقطاعيون والبورجوازيون في أوربا وأمريكا إلى ملايين الأيدي العاملة في الحقول والمصانع، إلى درجة أن ملايين الأفارقة أرغموا على الهجرة بالحديد والنار، وها هم أحفادهم يحاولون اليوم، بكل الطرق الذليلة، الهجرة نحو الغرب فلا يجدون إلى ذلك سبيلا. أرغم الغرب عددا كبيرا من الأفارقة ومن الأمم المتخلفة الأخرى على المشاركة في الحروب العالمية الرهيبة، وتم الدفع بهم إلى الصفوف الأمامية، فإذا انتصروا وعاشوا فذلك انتصار لمن جاء بهم لأنه ينقلهم من جبهة إلى أخرى، وإذا ماتوا فذلك انتصار، أيضا، لأنه يتخلص منهم بأقل التكاليف، ولن يخسر من أجلهم حتى شبرا من الأرض كقبر. في الحرب الأهلية الإسبانية، جمع فرانكو قرابة مائتي ألف من المقاتلين المغاربة، أكثر من عشرة في المائة منهم أطفال انتُزعوا من أحضان أمهاتهم، وهؤلاء احترقوا كلهم، تقريبا، في حرب أهلية رهيبة، والذين عاشوا صاروا يقفون طويلا في الطوابير، وهم في أرذل العمر، ليقبضوا حفنة من الدراهم، وفوق كل هذا ظلوا يحملون لقبهم المعروف «موروس فرانكو»! قبل عقود طويلة، تم إلغاء نظام العبودية في أمريكا وبلدان أخرى، لكن نظام الفصل العنصري يتم تطبيقه الآن بأبشع الطرق على مستوى العالم، فالغرب يحتاج إلى المهاجرين لكي يكونوا، فقط، حميرا في طاحونته.