يتعرض اليوم مسلمو بورما أركان لحملة تنكيل واضطهاد بشعة من طرف جماعات من البوذيين المدعومين من طرف الجهاز العسكري البورمي، فالصور ومقاطع الفيديو التي نشاهدها عبر وسائل الإعلام تبين فظاعة المجازر التي تأنف حتى الوحوش والحيوانات من ارتكابها. بدعوى حماية العرق، استحل هؤلاء البوذيون قتل المسلمين وإحراق منازلهم وطرد من تبقى منهم أفواجا إلى الدول المجاورة وخاصة إلى بنغلاديش. إن الجرائم التي تحدث اليوم أمام أنظار العالم تحاكي كثيرا المجازر والجرائم التي ارتكبت في حق الموريسكيين من طرف نصارى قشتالة وليون عندما بدأت بوادر سقوط الأندلس تلوح في الأفق عند نهاية العصور الوسطى، فقد تعرض ما تبقى من مسلمين في الأندلس لأبشع عملية اضطهاد عرفها التاريخ،حيث قام الاسبان بزعامة الملكين فرديناند وايزابيلا بتأسيس محاكم التفتيش التي أوكلت إليها مهمة تعذيب المسلمين وإجبارهم على اعتناق النصرانية. وتماما مثلما نظم الأحبار المسيحيون حفلات حرق جماعي لكثير من المسلمين عادة ما كان يحضرها الملك الاسباني، يبرع الكهنة البوذيون في بورما حاليا في إقامة أفران ومقابر جماعية توضع فيها جثث القتلى من المسلمين، لكن مع فارق أساسي وهو أن هذه الجرائم الأخيرة موثقة ومثبتة بصور يشاهدها العالم أجمع في ظل صمت مخزي من قبل الرؤساء والقادة والمنظمات الحقوقية العالمية. وإذا كانت جرائم النصارى ضد الموريسكيين التي بدأت مع القرن 15م قد اتسمت بطابع الحروب الصليبية وجاءت في سياق الشد والجذب بين الضفتين الشمالية والجنوبية للبحر المتوسط، فإن المجازر التي تحدث حاليا تأتي في سياق عالم وصل إلى ذروة التحضر والمدنية لما عرفه من عولمة لحقوق الانسان ولمبادئ العدل والديمقراطية، وفي ظل وجود منظمات عالمية يفترض أنها ترعى هذه الحقوق والمبادئ. لذلك فسؤال كبير يطرح نفسه هنا، ألم تر أجهزة الأممالمتحدة والدول الراعية لها صور الجثث المتفحمة ومشاهد القتل والحرق الجماعي لمسلمي بورما؟ أليست هذه إبادة جماعية؟ أليس هذا انتهاكا لكرامة الانسان؟ بل للإنسانية كلها؟ إن غياب ردود أفعال إزاء هكذا جرائم ترتكب ضد أناس ضعفاء لا حول لهم ولا قوة ليدل على أن منطق العلاقات في عالمنا المعاصر هو منطق الغاب شعاره القوي يأكل الضعيف، وليؤكد على أن المنظمات الحقوقية العالمية المنبثقة عن الأممالمتحدة هي منظمات نفعية قصت على مقاس دول بعينها لخدمة مصالحها ولبسط نفوذها باسم الديمقراطية وحقوق الانسان. لذلك نرى أن هذه الأجهزة لا تُحرك، وأصوات التنديد والإدانة لا تُسمع، والاجتماعات الطارئة لا تُعقد إلا عندما يتعلق الأمر بتهديد أمن الدول الكبرى أو مصالحها الاقتصادية، ولعل الضجة العالمية التي وقعت إزاء أحداث باريز الأخيرة خير مثال على ذلك. ما يحدث في بورما لا يدل فقط على أن الانسانية تحتظر، بل يؤكد على أن أمة الإسلام التي تشكلها رابطة الدين ابتداءً صارت أمة مشلولة عمياء، لا ترى بلدانها القُطرية سوى مصالحها الضيقة، ونزاعاتها المفتعلة، مغيبة مبدأ الوحدة والتكامل الذي سطرته الآية الكريمة ''إن أمتكم هذه أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون''. عندما بلغ التنكيل بمسلمي الأندلس ذروته، كان العالم الاسلامي حينئذ يعيش أولى حلقات الانحدار، لذلك لم تبذل محاولات فعالة لإنقاذهم لا من طرف العثمانيين ولا من قبل المرينيين بالمغرب الأقصى أو المماليك بمصر، لكن رغم ذلك كانت هذه الدول محاضن للأندلسيين الناجين بدينهم وأرواحهم، وخاصة بعدوة المغرب التي استقبلت أعدادا كبيرة من الموريسكيين الذين اندمجوا في المجتمع المغربي وصاروا يشكلون عنصرا من تركيبته. الآن، ورغم أن مشاهد القتل والدماء ببورما تخلع القلوب، وروائح حرق النساء والأطفال تزكم الأنوف، وأصوات الاستغاثةتدوي في عالمنا الاسلامي وتسمع القاصي والداني، لكن لا من مجيب. وهكذا، يجد المسلمون في بورما أنفسهم مضطرين للاستسلام للموت، والمحظوظ منهم يتمكن من الفرار إلى بنغلاديش المجاورة، ليبدأ رحلة معاناة أخرى في مخيمات مبنية من العشب والأوراق في بيئة ملوثة وسط المستنقعات الحبلى بأمراض الملاريا والكوليرا. من جانب الدول الإسلامية، على الأقل ينبغي أن تبدي حرصا واهتماما لما يقع في بورما بحكم الروابط الدينية والتاريخية، وأن تتخذ مواقف إزاء ما يحدث، وأن تقدم الدعم الانساني للاجئين والمهاجرين،فضلا عن أن تضغط في المحافل الدولية لصالح أقلية الروهينغا المضطهدة، وذلك أضعف الايمان.