طلب رجل ضل الطريق من الشاعر العباسي الكفيف بشار بن برد أن يدله على مكان يريد الذهاب إليه، فأرشده إليه، بيد أن الرجل لم يستوعب توجيهاته والتمس منه أن يصطحبه إلى هناك، فما كان منه إلا نزل عند رغبته، وفي أثناء الطريق جعل يترنم بهذا البيت الشعري: أعمى يقود بصيرا لا أبا لكم ////////// قد ضل من كانت العميان تهديه. كتعبير منه عن مفارقة لحظة الاستثناء التي صار فيها الأعمى دالا والبصير مدلولا، كاشفا بذلك عن طبيعة مجتمع وثقافة بيئة، الريادة فيها والمقدمة لمن *ألقى السمع وهو بصير*. طبعا لم يكن بشار بن برد راجم غيب ليعلم أنه سيأتي على الناس زمان يتولى زمام القيادة فيه عميان بصيرة يحسبهم الجاهل أغنياء بصر، ويتولى إلى الظل من هو سميع بصير. نعم يا بشار، صار العميان ثقافيا وسياسيا وأخلاقيا متلهفين لاقتحام مقطورة القيادة والإشراف على تدبير شؤون الناس، محفزهم في ذلك ثروة مادية تعاظمت وامتدت وتمددت دون أن يدركوا حدودها التي يجب أن يقفوا عندها لفرط عماهم، معوضين إعاقتهم البصرية بشهادة إبصار ابتدائية مزورة، وبغطاء سياسي رميم يرمونه خلف ظهورهم وينسلخون منه باستمرار كلما سمحت الفرصة بما هو أرم منه وأبلى، وبصلاح ريائي عماده صلاة مضطربة ويد مبسوطة على أعين الناس في مواسم القحط السياسي البئيسة. وكنتيجة حتمية راكم العميان خيباتنا، وأحدثوا في الطريق الرابطة بين توليهم منصب القيادة والتسيير، وبين مغادرتهم إياه حوادث قاتلة وانحرافات خطيرة، في الوقت الذي اكتفت فيه فرق المراقبة بإحصاء المخالفات وإصدار البيانات، دون أن تمتد يدها إلى سحب رخصة السياقة منهم، وزجرهم على تراميهم على ما ليس لهم به طاقة، وعلى عبثهم بشؤون البلاد والعباد. ومن غريب أن تتقهقر النخبة البصيرة إلى الوراء وأن تكتفي بالتفرج على المشهد من بعيد، مصدرة تأوهات بعضها ظاهر محتشم، وكثير منها خفي، نائية بنفسها عن التخلف والخروج عن القطيع، حتى لا تجني عليها الذئاب بجريرة التميز والاختلاف، ولسان حالها يردد: هذا زمن القرود فاخضع لها/////////// وكن لها سامعا مطيعا. أخذا بنصيحة الأجداد** دير راسك بين الروس، وعيط أقطاع الروس**. وإن تعجب في زمن السريالية السياسية هذا فعجب أن يعمد زرق اليمامة إلى فقإ أعينهم، ويسارعوا، عوض الانزواء في الركن القصي، إلى اقتفاء آثار العميان وتعلم فنون خبط العشواء على أيديهم، كأن لم يبصروا بالأمس، مولين أدبارهم خبرة سنين من البصر والسمع والفؤاد، راضين لأنفسهم مذلة التلمذة في مدرسة اللاأدرية التي تفنن مدرسوها من العميان الأقحاح وأفلحوا في تحليل أبجديات قصيدتها التي أعتقد جازما أن ناظمها إيليا أبو ماضي لم يخطر له على بال أن الزمان سيجود بمفككين ومحللين من طينة هؤلاء، ليقرؤوا على شاكلتهم ووفق هواهم:
جئت، لا أعلم من أين، ولكنّي أتيت ولقد أبصرت قدّامي طريقا فمشيت وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أم أبيت كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟