رئيس الإنتربول: المغرب نموذج ومرجع عالمي في الأمن والاستقرار ومحاربة الجريمة الدولية    أخنوش يقتحم معقل ولد الرشيد.. ملامح معركة انتخابية شرسة في العيون تلوح في الأفق    ضمنها مطار الناظور.. المغرب وإسبانيا يستعدان لإنشاء 10 فنادق بمطارات المملكة    السلطات السورية تعلن تشكيل "الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية وللمفقودين"    ألمانيا تعبر عن قلقها إزاء الهجوم البري الإسرائيلي على غزة    طنجة تستعد لاحتضان الدورة السابعة للمؤتمر الدولي للأنظمة الذكية للتنمية المستدامة تحت الرعاية الملكية    طنجة.. ندوة وطنية تدعو لتعزيز الحماية الاجتماعية بالمغرب وتمكين النساء والفئات الهشة    افتتاح فضاء بيع السمك بميناء الحسيمة ب60 مليونا    سوريا تشكر جلالة الملك على قرار فتح سفارة المغرب بدمشق    نهضة بركان تُنهي الشوط الأول أمام سيمبا التنزاني مُتقدمة بثنائية نظيفة    بعد رفع أول حلقة من سقف ملعب طنجة.. الوالي التازي يُكرم 1200 عامل بغداء جماعي    طنجة.. العثور على جثة موظف بنكي قرب بحيرة مجمع القواسم في ظروف مأساوية    تطوان.. توقيف شقيقين متورطين في سطو "هوليودي" على 550 مليون سنتيم    انتخاب نور الدين شبي كاتبا لنقابة الصيد البحري التقليدي والطحالب البحرية بالجديدة .    بوريطة يعلن من بغداد عن إرسال وفد تقني إلى سوريا لفتح سفارة المملكة بدمشق    هذا موعد المباراة النهائية بين المنتخب المغربي وجنوب إفريقيا    بيع الماستر والدكتوراه.. تطورات مثيرة وتورط شخصيات وازنة    في طنجة حلول ذكية للكلاب الضالة.. وفي الناظور الفوضى تنبح في كل مكان    الخارجية المغربية تتابع أوضاع الجالية المغربية في ليبيا في ظل اضطراب الأوضاع وتضع خطوطا للاتصال    عزيز أخنوش من العيون: انتصارات دبلوماسية وتنمية شاملة تترجم رؤية جلالة الملك    المغرب يتصدر السياحة الإفريقية في 2024: قصة نجاح مستمرة وجذب عالمي متزايد    الأمن الوطني وتحوّل العلاقة مع المواطن: من عين عليه إلى عين له    اعتقال مقاتل "داعشي" مطلوب للمغرب في اسبانيا    الهيئة العليا للاتصال تنذر "ميد راديو"    أمين بنهاشم مدربا رسميا للوداد استعدادا لكأس العالم للأندية    ريال مدريد يتعاقد مع المدافع هويسن    تنسيق إسباني مغربي يطيح ب"داعشي"    السينما المغربية تراكم الإشادة الدولية    المالكي يدعو لتقييم الوضع السياسي    طنجة تحتضن أول ملتقى وطني للهيئات المهنية لدعم المقاولات الصغرى بالمغرب    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    شركة "نيسان" تعتزم غلق مصانع بالمكسيك واليابان    جلالة الملك يدعو إلى الوقف الفوري للعمليات العسكرية بالضفة الغربية وقطاع غزة والعودة إلى طاولة المفاوضات    مزبار: المثقف الحقيقي هو من يُعلم الفكر النقدي ويتحمل مخاطرة المواجهة الفكرية    "استئنافية طنجة" تؤيد إدانة رئيس جماعة تازروت في قضية اقتحام وتوقيف شعيرة دينية    وزارة الصحة تنبه لتزايد نسبة انتشار ارتفاع ضغط الدم وسط المغاربة    فيلم بين الجرأة والاعتبارات الأخلاقية يعرض بمشرع بلقصيري    مجموعة مدارس إحسان بالجديدة تنظم مهرجانا ثقافيا تحت شعار: ''تراث الأجداد بيد الأحفاد'    بوحمرون يربك إسبانيا.. والمغرب في دائرة الاتهام    الناخبون البرتغاليون يدلون بأصواتهم غدا لانتخاب ممثليهم بالجمعية الوطنية    الأميرة للا حسناء تترأس حفل افتتاح الدورة ال28 لمهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة    إفران تعتمد على الذكاء الاصطناعي للوقاية من حرائق الغابات ومكافحتها    الفيفا تكشف توقعاتها لمداخيل كأس العالم 2030.. إيرادات غير مسبوقة    مغرب الحضارة: أولائك لعنهم الله لأنهم سرطان خبيث الدولة تبني وهم يخربون.. ويخونون    محمد صلاح مهاجم ليفربول يحدد موعد اعتزاله    "السينتينليون".. قبيلة معزولة تواجه خطر الانقراض بسبب تطفل الغرباء    ورشة تكوينية حول التحول الرقمي والتوقيع الإلكتروني بكلية العرائش    افتتاح المعهد الوطني العالي للموسيقى والفن الكوريغرافي عند الدخول الجامعي 2025-2026    رحيل الرجولة في زمنٍ قد يكون لها معنى    معاناة المعشرين الأفارقة في ميناء طنجة المتوسطي من سياسة الجمارك المغربية وتحديات العبور…    الزيارة لكنوز العرب زائرة 2من3    سميرة فرجي تنثر أزهار شعرها في رحاب جامعة محمد الأول بوجدة    منظمة: حصيلة الحصبة ثقيلة.. وعفيف: المغرب يخرج من الحالة الوبائية    بمناسبة سفر أول فوج منهم إلى الديار المقدسة ..أمير المؤمنين يدعو الحجاج المغاربة إلى التحلي بقيم الإسلام المثلى    فتوى تحرم استهلاك لحم الدجاج الصيني في موريتانيا    دراسة: الإفراط في الأغذية المُعالجة قد يضاعف خطر الإصابة بأعراض مبكرة لمرض باركنسون    أمير المؤمنين يوجه رسالة سامية إلى الحجاج المغاربة برسم موسم الحج لسنة 1446 ه    رفع كسوة الكعبة استعدادا لموسم الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غيرة الزوج بين الأصل الممدوح والقالب المذموم

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالغَيْرة كراهةُ الرجل اشتراكَ غيره فيما هو حقُّه(1)، وهي تشمل بوصفها العامِّ غيرةَ الرجل على نفسه وعلى ذويه وأهله وعلى عموم الناس، والغيرةُ محمودةٌ لأنَّ أصلها كراهةُ القبائح والفواحش والمحرَّمات والآثام وبغضُها، وهي أخصُّ صفات الرجل الشهم الكريم، ولهذا كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أغْيَرَ الخلق على الأمَّة، والله سبحانه أشدَّ غيرةً منه، قال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي»(2)، وقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في خطبة الكسوف: «يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ»(3)، وقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «وَلَيْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ»(4)، قال ابن القيم –رحمه الله-: «ولهذا كانت غيرة الله أن يأتيَ العبد ما حرَّم عليه، ولأجل غيرته سبحانه حرَّم الفاحشةَ ما ظهر منها وما بطن؛ لأنَّ الخلق عبيده وإماؤه، فهو يغار على إمائه كما يغار السيِّد على جواريه ولله المثل الأعلى، ويغار على عبيده أن تكون محبَّتهم لغيره بحيث تحملهم تلك المحبَّة على عشق الصور ونيل الفاحشة منها»(5).
هذا، والذي أقصد بهذه الكلمة أحدُ حقوق الزوجة على زوجها: أن يغار عليها من كلِّ أذًى يلحقها من غيره، سواءً بنظرةٍ أو ابتسامةٍ أو كلمةٍ أو لمسٍ أو مسٍّ أو اختلاطٍ ونحو ذلك ممَّا يؤذيها في دينها أو نفسها أو عرضها، فمن حقِّ الزوجة على زوجها أن يوفِّر لها حصانةً كافيةً ورعايةً وافيةً وحفظًا تامًّا يندرج ضمن هذا الحقِّ ما يضمره من عامل الغيرة التي تتجلَّى بعض وجوهها في الصور التالية:
- أن يغار عليها إن أبدت زينتها لغير زوجها ومحارمها، كما يغار عليها إن لم يغضَّ الرجل الأجنبيُّ بصرَه عنها أو لم تغضَّ بصرها عنه، وينهاها عن ذلك ولا يرضى صنيعها -ولو مع سلامة القلب وحسن النيَّة-، لأنَّ «النِّيَّةَ الحَسَنَةَ لاَ تُسَوِّغُ الحَرَامَ» لقوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 30-31].
- أن يغار عليها إن أطلقتْ لسانها بالسوء والفحش والبذاء فيزجرها عن ذلك لقوله تعالى: ﴿لاَ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ [النساء: 148]، وكذلك يغار عليها إن كلَّمتْ أجنبيًّا بخضوعٍ في القول ولينٍ في الخطاب، فيحذِّرها من هذا الصنيع ولو للحاجة وانتفاء سوء الغرض أو فساد القصد لقوله تعالى: ﴿فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ [الأحزاب: 32].
- أن يغار عليها إن دخلتْ على غير المحارم من الرجال الأجانب أو دخلوا عليها لتجتمع معهم في العمل أو في سهراتٍ عائليةٍ أو غير عائليةٍ، سواءً في بيتها أو في بيت غيرها، لأنه لا يأمن عليها سوء نظرةٍ أو كلمةٍ أو فعلٍ، فإنَّ عواقب ما تسوِّل النفسُ به وما يوسوس به الشيطان مذمومةٌ ووخيمةٌ، لذلك كان من مقتضى الغيرة ودوافعها أنْ لا يَدَعَها تختلط بالرجال الاختلاطَ الآثم لعموم قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم: 6]، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ» فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَرَأَيْتَ الحَمْوَ؟ قَالَ: «الحَمْوُ المَوْتُ»(6).
أن يغار عليها إن خرجت من بيتها متبرِّجةً بزينتها أو متعطِّرةً أو متحلِّيةً بمختلف الحُلِيِّ والمساحيق أو كاسيةً عاريةً، قاصدةً السوقَ أو العمل أو بعض شؤونها، مختالةً معجبةً بنفسها وهيئتها ومنظرها تثير به شهوةَ الرجال، فإنَّ حرارة الغيرة تدفعه لأنْ يأمرها بارتداء جلباب الستر والحياء لقوله تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾ [الأحزاب: 33]، ولقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 59]، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَزَعَتْ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا، هَتَكَتْ سِتْرَ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا»(7)، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «ثَلاَثَةٌ لاَ تَسْأَلْ عَنْهُمْ: رَجُلٌ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ وَعَصَى إِمَامَهُ وَمَاتَ عَاصِيًا، وَأَمَةٌ أَوْ عَبْدٌ أَبَقَ فَمَاتَ، وَامْرَأَةٌ غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا قَدْ كَفَاهَا مُؤْنَةَ الدُّنْيَا فَتَبَرَّجَتْ بَعْدَهُ، فَلاَ تَسْأَلْ عَنْهُمْ»(8)، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «خَيْرُ نِسَائِكُمُ الْوَدُودُ الْوَلُودُ الْمُوَاتِيَةُ الْمُوَاسِيَةُ إِذَا اتَّقَيْنَ اللهَ، وَشَرُّ نِسَائِكُمُ الْمُتَبَرِّجَاتُ الْمُتَخَيِلاَّتُ وَهُنَّ الْمُنَافِقَاتُ، لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْهُنَّ إِلاَّ مِثْلُ الْغُرَابِ الأَعْصَمِ»(9)، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ لِيَجِدُوا مِنْ رِيحِهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ»(10)، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا، قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلاَتٌ مَائِلاَتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لاَ يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا»(11).
- أن يغار عليها إذا تعرَّضتْ للفتنة بسبب طول غيابه عنها أو لأنه أوردها أماكنَ اللهو والفجور، أو أخذها إلى السواحل والغابات العاجَّة بالمنكرات والفساد، أو اقتنى لها أشرطة الغناء وكُتُبَ الخنا والأقراصَ المرئيَّةَ الآثمة أو مجلاَّتِ الفحش والفجور وما إلى ذلك من وسائل الانحلال الخلقي والسلوكي ممَّا يركن إليه الأرذلون ويرتضيه المنحطُّون، فإنَّ غيرة الزوج تأبى موتَ النخوة وضياعَ الرجولة الحقَّة الشريفة، فإنَّ فقدان الغيرة ضياعٌ لأصل الدين، وفي هذا السياق يقول ابن القيِّم -رحمه الله-: «وهذا يدلُّك على أنَّ أصل الدين الغَيرة، ومن لا غيرةَ له لا دين له، فالغيرة تحمي القلب فتحمي له الجوارح، فتدفع السوء والفواحش، وعدمُ الغيرة تميت القلب فتموت له الجوارح، فلا يبقى عندها دفعٌ ألبتَّةَ، ومَثَلُ الغيرة في القلب مَثَلُ القوَّة التي تدفع المرضَ وتقاومه، فإذا ذهبت القوَّة وجد الداء المحلَّ قابلاً ولم يجد دافعًا فتمكَّن فكان الهلاك، ومثلها مثل صياصي(12) الجاموس التي تدفع بها عن نفسه وولده، فإذا تكسَّرت طمع فيها عدوُّه»(13).
فهذه بعض وجوه غيرة الرجل على أهله وجوانبها الظاهرة الداخلة في الأصل الممدوح الذي يتبلور حاصله في أنَّ «الغيرة على المحبوب حرصُك عليه، والغيرة من المكروه أن يزاحمك عليه، فالغيرة على المحبوب لا تتمُّ إلا بالغيرة من المزاحم»(14)، ويخرج منها -بالتأكيد- قالبها المذموم المتجسِّد في كلِّ غيرةٍ مبنيَّةٍ على الشكِّ والرِّيبة لا تدلُّ عليها الدلائل ولا تشهد لها ظواهر الأحوال، لأنَّ الخواطر تنقلب إلى وساوسَ، وكثرة الوساوس تهجم على المرء فترمي به في زاويةٍ مظلمةٍ من الشكوك والريب، وذلك كإساءة الرجل الظنَّ بزوجته من غير دليلٍ ظاهرٍ أو قرينةٍ واضحةٍ، فتراه يترقَّب تصرُّفاتها ويريد أن يبرهن على أمرٍ وهميٍّ، وقد يصل به الأمر إلى وضع أجهزة التصوير وأدوات الْتقاط الصوت في بيتها ليكشف عنها من بُعْدٍ، وقد يختار ساعاتٍ غيرَ معتادةٍ للدخول على زوجته، أو يتحيَّن أوقاتًا يترصَّد فيها تصرُّفاتِها بصورةٍ غير طبيعيةٍ ونحو ذلك ممَّا لا يمتُّ بصلةٍ إلى الجانب الممدوح من الغيرة، بل هي غيرةٌ مذمومةٌ شرعًا لقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ مِنَ الْغَيْرَةِ: مَا يُحِبُّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْهَا مَا يَبْغُضُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنَ الْخُيَلاَءِ: مَا يُحِبُّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْهَا مَا يَبْغُضُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُحِبُّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ، وَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يَبْغُضُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ..»(15)، ولنهيه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم «أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلاً يَتَخَوَّنُهُمْ أَوْ يَلْتَمِسُ عَثَرَاتِهِمْ»(16).
هذا، والزوج باعتباره راعيًا على زوجته ومسئولاً عنها ومكلَّفًا بحفظها والقيام على شؤونها لقوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ [النساء: 34]، وقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «..وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ..»(17)، فإنَّ ما تقتضيه حرارة الغيرة أن لا يحسِّن لها الفواحشَ والقبائح والظلم بل بالعكس يكرِّهها لها ويبغِّضها ولا يزيِّنها لها ويدعوها إليها ويحثُّها عليها، وإذا كان لا يسمح لها بفسادٍ في خُلُقٍ أو دينٍ من جهةٍ فإنَّ الرجل الكريم العدل -من جهةٍ أخرى- لا تحمله شدَّة الغيرة على سرعةِ تنزيل الحكم عليها أو فرض العقوبة من غير إعذارٍ مسبقٍ أو قبول عذرها إذا ما اعتذرت، فإنَّ المنصف يقبل العذر ولو مع شدَّة غيرته، فذلك من كمال العدل والرحمة والإحسان، وكما قيل:
«وَالعُذْرُ عِنْدَ كِرَامِ النَّاسِ مَقْبُولُ وَالعَفْوُ مِنْ شِيَمِ السَّادَاتِ مَأْمُولُ».
وقد أكَّد النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم هذا المعنى بقوله: «لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ»(18).
وتبعًا لهذا السياق يقول ابن القيِّم -رحمه الله- شارحًا للغيرة الممدوحة وما يقع فيه العبد موافقًا لربِّه: «وإنما الممدوح اقترانُ الغيرة بالعذر، فيغار في محلِّ الغيرة، ويعذر في موضع العذر، ومن كان هكذا فهو الممدوح حقًّا.
ولَمَّا جمع سبحانه صفاتِ الكمال كلَّها كان أحقَّ بالمدح من كلِّ أحدٍ، ولا يبلغ أحدٌ أن يمدحه كما ينبغي له، بل هو كما مدح نفسه وأثنى على نفسه، فالغيور قد وافق ربَّه سبحانه في صفةٍ من صفاته، ومن وافق اللهَ في صفةٍ من صفاته قادته تلك الصفة إليه بزمامه، وأدخلته على ربِّه، وأدْنَتْه منه وقرَّبْته من رحمته، وصيَّرتْه محبوبًا، فإنه سبحانه رحيمٌ يحب الرحماء، كريمٌ يحب الكرماء، عليمٌ يحبُّ العلماء، قويٌّ يحبُّ المؤمن القويَّ، وهو أحبُّ إليه من المؤمن الضعيف، حيِيٌّ يحبُّ أهل الحياء، جميلٌ يحبُّ أهل الجمال، وترٌ يحبُّ أهل الوتر»(19).
تلك هي الغيرة الواجبة على زوجٍ راسخٍ في مكارم الرجولة يقوم بها تجاه زوجته، ولا يزال أهلُ النخوة من كرام الرجال يقومون بالغيرة على نسائهم حقَّ القيام ويمتدحون بها حفظًا للدين وصيانةً للعرض.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.
-------------------------
1- انظر: «التعريفات» للجرجاني (163)، «الكلِّيات» لأبي البقاء (671).
2- أخرجه البخاري في «الحدود» باب من رأى مع امرأته رجلاً فقتله (6846)، ومسلم في «اللعان» (1499)، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في «الكسوف» باب الصدقة في الكسوف (1044) وفي «النكاح» باب الغيرة (5221)، ومسلم في «الكسوف» (901)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
4- سيأتي تخريجه لاحقًا.
5- «الفوائد» لابن القيِّم (39).
6- أخرجه البخاري في «النكاح» باب لا يخلُوَنَّ رجلٌ بامرأةٍ إلاَّ ذو محرمٍ، والدخول على المُغيبة (5232)، ومسلم في «السلام» (2172)، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
7- أخرجه الترمذي في «الأدب» باب ما جاء في دخول الحمَّام (2803)، وابن ماجه في «الأدب» باب دخول الحمَّام (3750)، وأحمد -واللفظ له- (24140)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع» (2710).
8- أخرجه أحمد (23943)، والبخاري في «الأدب المفرد» (590)، والحاكم (411)، من حديث فَضالة بن عبيدٍ رضي الله عنه، وصحَّحه الألباني في «الصحيحة» (542).
9- أخرجه البيهقي (13478) من حديث أبي أُذَيْنَة الصدفي، وصحَّحه الألباني في «الصحيحة» (1849).
10- أخرجه النسائي في «الزينة» ما يُكره للنساء من الطيب (5126)، وأحمد (19711)، من حديث أبي موسى رضي الله عنه، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع» (2701).
11- أخرجه مسلم في «اللباس والزينة» (2128)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
12- صياصي الجاموس: قرونه [«المعجم الوسيط» (1/ 531)].
13- «الداء والدواء» لابن القيِّم (109 - 110).
14- «الفوائد» لابن القيِّم (38).
15- أخرجه النسائي في «الزكاة» باب الاختيال في الصدقة (2558)، من حديث جابر بن عتيكٍ الأنصاري رضي الله عنه، وحسَّنه الألباني في «صحيح الجامع » (2221)، وفي «صحيح سنن النسائي».
16- أخرجه مسلم في «الإمارة» (715)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
17- أخرجه البخاري في «النكاح» باب: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم: 6] (5188)، ومسلم في «الإمارة» (1829)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
18- أخرجه مسلم -بهذا اللفظ- في «التوبة» (2760) من حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه، وأخرجه البخاري في «التوحيد» باب قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «لاَ شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ» (7416)، ومسلم في «اللعان» (1499)، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
19- «الداء والدواء» لابن القيِّم (108).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.