هناك من يشتري الكتاب ليقرأه، وهناك من يشتريه وفي نيته أن يقرأه، وقد لا يقرأه، وهناك من يشتري الكتاب ليضيفه لتشكيلة العناوين التي تزخر بها مكتبته. والأمر أعقد بكثير مما قد توحي به الفقرة السابقة، والتي تخفي في عموميتها ظاهرة غريبة، تتعلق بأناس تستبد بهم الرغبة في اقتناء الكتب لخزاناتهم التي لا يقرؤون منها شيئا حد الهوس. وهذا الهوس بشراء الكتب وتكديسها في رفوف المكتبات الخاصة ظاهرة قديمة تتجد في كل عصر. كيف نشأن هوس شراء الكتب؟ وهل هو مرض نفسي؟ وما تاريخه؟ هوس جمع الكتب أو بِبْلومانيا في القرن التاسع عشر، حسب الجزيرة نت، كتب القس الإنجليزي توماس فروجنال ديبدين عن اضطراب عانى هو شخصيا منه، في كتابه "ببلومانيا" (Bibliomania)، وصف ديبدين أعراض هوس الكتب وأشار إلى أنواعه، ومن بينها جمع الطبعات الأولى، والطبعات الأصلية، والكتب المطبوعة بالخط القوطي، والنسخ الورقية الكبيرة. ووفق ما ذكر ديبدين فقد بلغ "طاعون الكتاب" ذروته في باريس ولندن بعد الثورة الفرنسية عام 1789، وأكَّد أنه كارثة قاتلة ومرض يصيب الكُتَّاب، ويهاجم الذكور بالأخص، من الطبقات العليا والمتوسطة، تاركا الطبقات الأدنى في سلام. تردد مصطلح ببلومانيا قبل نحو قرنين إذن ليُشير إلى الهوس بجمع الكتب بعدد يكاد يكون من المؤكد أن صاحبه لن يستطيع قراءته، إنها الرغبة في اكتناز أكوام لا نهاية لها من الكتب بصورة قد تؤثر في صحة الفرد وعلاقاته الشخصية، إذ تطغى تلك الرغبة في شراء الكتب وتخزينها على كل رغبة أخرى. حتى اليوم لم يُصنَّف هذا الهوس بجمع الكتب باعتباره اضطرابا نفسيا معترفا به في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية الصادر عن الجمعية الأميركية للطب النفسي، رغم أنه يُعَدُّ أحد أعراض بعض اضطرابات الوسواس القهري، وقد يؤدي لدى البعض إلى انهيار العلاقات الشخصية أو الإضرار بصحتهم. كتب الدكتور نورمان وينر ورقة عن هوس جمع الكتب في مجلة التحليل النفسي الفصلية عام 1966 مُشيرا إلى تجاهل المحللين النفسيين له، كما استشهد بحالة تُشير إلى أنها تُعَدُّ هواية لدى بعض المصابين بهوس جمع الكتب لتخفيف القلق. بعد عقود قليلة، نشر روث فورمانك في كتابه "تفسير الأشياء والمجموعات" (Interpreting Objects and Collections) عام 1994 دراسة استقصائية تجريبية حول دوافع جامعي الكتب المختلفة، واستطلع آراء 167 شخصا من بينهم طلاب وأعضاء هيئة تدريس بالجامعة وتجار أعمال فنية، كان الدافع الأبرز هو الشعور بالإثارة، وذكر المشاركون من بين الأسباب تراكم المعرفة والاستثمار المالي والشعور بالتحدي، بينما قال بعضهم أسبابا مثل الإدمان والهوس والإكراه، ورأى المؤلف أنه يُمثِّل للبعض سلوكا قهريا يقومون به. تاريخ الهوس عبر التاريخ، ربطت كثير من المجتمعات بين مكانة الفرد وما يمتلكه من معارف، ويبدو أن الأمر ارتبط تدريجيا بما يملكه من كتب بالتبعية، يذكر المؤرخ الكبير أحمد المقري التلمساني في كتاب "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" كيف كان أهل الأندلس أكثر العرب اعتناء بالكتب، فكان اقتناء الكتب علامة من علامات الفخر لدى الأندلسيين، وكان لأصحاب المكتبات مكانة بارزة دفعت بعض مَن لا يقرأون ممن يريدون حيازة السلطة إلى أن يُقيموا مكتبات في بيوتهم لا لسبب إلا أن يصيروا حديث الناس بسبب جمعهم مجموعات نادرة من الكتب لا يملكها غيرهم. نتحدث هنا عن عصر ما قبل اختراع الطباعة، إذ كانت النسخ نادرة بالفعل، وكان الحصول عليها يعني بذل جهد كبير ومال بالطبع، قِيل عن أهل الأندلس إن الفرد منهم كان يخرج بالأموال لشراء الطعام، فيصادف كتابا فينسى أمر الطعام ويشتري الكتاب ويعود دون طعام لأطفاله، كان التفريط في الكتب أو بيعها وصمة تشبه أن يتخلى الفارس عن سيفه. مع اختراع الطباعة عام 1440 صارت حيازة نسخ من الكتب أيسر نوعا ما، لتظهر في أوروبا هواية جمع الكتب والهوس بها بشكل أكثر اختلافا، ففي القرن التاسع عشر كانت وفاة النبلاء الفرنسيين فقط هي التي تكشف الكنوز الثمينة التي تحتفظ بها مكتباتهم الخاصة الفاخرة من آلاف الكتب، وكانت المزادات تُقام لبيع أملاكهم بحضور الأثرياء، ومن بين تلك المقتنيات مجموعات هائلة من الكتب النادرة. في المزادات كانت أسعار الكتب ترتفع ارتفاعا خياليا بدا معه أن هذا السعي وراء جمعها لم يكن بدافع قراءتها، يصف الكاتب الإنجليزي توماس دي كوينسي في مذكراته "اعترافات آكل أفيون إنجليزي" (Confessions of an English Opium Eater) ما حدث في أحد المزادات، وكيف بالغ الأثرياء في أثمان الكتب بحيث دفعتهم "النزوة" و"المشاعر" وليس العقل. هوس كلَّف بعضهم حياته في أوروبا في القرن التاسع عشر، كان الاضطراب يُمثِّل مرضا مخيفا، وكان أغلب مَن يعانون منه من رجال الطبقة العليا، ويعود الخوف منه إلى الاعتقاد بأنه يمكن أن يتسبَّب في هلاك ضحاياه في سعيهم لامتلاك النسخ الفريدة من الكتب، فضلا عن أن كثيرين ممن عانوا منه كانوا ينفقون ثروات باهظة في محاولة الحصول على الكتب. يوما ما، كان اكتناز عدد ضخم من الكتب يُمثِّل خطورة بالفعل لعدة أسباب؛ أكوام الكتب تعني أن يتعطل روتين النظافة اليومية للمنزل، ونظرا لأنها لا تُستخدم فهي تجذب الفئران والنمل الأبيض، وإذا كان الحديث عن شخص مصاب بالهوس فإنه لن يكترث بالعناية بالكتب، إن ما يشغله هو حيازتها فقط، وأخيرا كان خطر تعرُّضها للحرق قائما، لقد عاش البشر قرونا قبل اختراع الكهرباء يعانون من تلك المشكلة، وكانت عادة القراءة ليلا مكلفة بالفعل، فقد كانت تعني بسهولة إمكانية أن يغلب النوم أحدهم فيشب حريق من شعلة الشمعة ليلتهم كل المنزل، والخطر أكبر إذا كان مكدسا بالكثير من الورق. ولم تكن هذه هي الأخطار الوحيدة، ففي عام 1869 عُيِّن عالم اللاهوت البافاري ألويس بيشلر "أمين مكتبة" في المكتبة العامة الإمبراطورية في سانت بطرسبرغ في روسيا، وهو منصب مرموق يحظى صاحبه براتب كبير، بعد أشهر قليلة لاحظ موظفو المكتبة اختفاء عدد كبير من الكتب من مجموعتهم، كما لفت انتباهم سلوك بيشلر الغريب، وفي عام 1871 عثروا على أكثر من 4500 عنوان مفقود من المكتبة لدى بيشلر. ارتكب بيشلر أكبر سرقة كتب مسجلة من مكتبة أوروبية، وبعد اعتقاله وأثناء المحاكمة، حاول الدفاع التأكيد أنه يعاني من حالة عقلية غريبة، نوع من الهوس ليس بالمعنى القانوني أو الطبي كما ذكر الدفاع، كان بيشلر ضحية هوس جمع الكتب، وقد عوقب بالنفي إلى سيبيريا. المهووسون الجدد في عصور أحدث، وبين أشهر الكُتَّاب، كان شبح الهوس بجمع الكتب يبدو فيما تضمَّنته مكتبات أشهر المؤلفين؛ كان لدى الكاتبة البريطانية فيرجينيا وولف في مكتبتها الشخصية نحو 4000 عنوان، وكان الكاتب الأميركي إرنست همنغواي يشتري نحو 200 كتاب في العام، وهكذا فبعد وفاته عُثر في مكتبته في كوبا على ما يقرب من 9000 مجلد، فضلا عما احتوته مكتبة منزله الآخر في كي ويست بالولايات المتحدة. ولم تختفِ ظاهرة السرقة وارتكاب الجرائم بين المصابين بهذا الاضطراب أيضا، ففي عام 1991 كان رجل أميركي من ولاية أيوا هو ستيفن بلومبرج يقف في قاعة المحكمة، مُدانا بسرقة أكثر من 23600 كتاب بقيمة تتجاوز خمسة ملايين دولار أميركي، كانت الكتب تزن 19 طنا، وقد استغرق بلومبرج أكثر من 20 عاما لسرقتها من ولايات مختلفة. أصبح بلومبرج أشهر لصوص القرن، وفي الدفاع عنه ذكر الطبيب النفسي الدكتور ويليام س. لوجان أن بلومبرج عانى من السلوك القهري ومن أوهام الفصام، وأن هذا هو السبب وراء هوس الكتاب، كان بلومبرج يعتقد أنه كان ينقذ الكتب من الدمار بسرقتها، وكان يرى أن الحكومة لن تتيح الكتب للعامة، فسعى ليتولى هو الأمر وجمع النسخ بنفسه، مع ذلك فقد حُكم عليه بالسجن لمدة 71 شهرا ودفع غرامة قدرها 200 ألف دولار، أُطلق سراحه في ديسمبر/كانون الأول عام 1995، لكنه لم يتوقف عن السرقة ليعود إلى قاعات المحاكم مرة أخرى عام 1997، ولم تكن المرة الأخيرة. توسوندوكو أو ببلومانيا.. هل أنت مصاب بهوس جمع الكتب؟ أما في الجانب الشرقي من العالم، فقد ظهرت ثقافة لها درجة من الشبه مع الببلومانيا، في عام 1879 ظهرت كلمة "تسوندوكو" (tsundoku) لأول مرة في اليابان، وهي من مقطعين: "doku" تعني "قراءة"، وكلمة "tsun" أي "مكدس"، وتعني "تسوندوكو" تكديس عدد هائل من الكتب لقراءتها لاحقا، وهي تختلف في معناها عن الببلومانيا في أن مهاويس التسوندوكو لديهم نية بالفعل لقراءة الكتب، لكنهم لا يقرأونها ربما لضيق الوقت أو أي سبب آخر، وبالتالي يمكن تصوُّر موضوع ما يجمع عناوين الكتاب المتكدسة وينم عن رغبة صاحبها. الببلومانيا على العكس من ذلك، إذ تُشير إلى رغبة عارمة في جمع الكتب في حد ذاتها، وبالتالي يمكن للمُطالع لعناوينها أن يُصاب بالدهشة لعدم وجود ما يجمع بينها، والأكثر غرابة أنه قد يجد نسختين من عنوان واحد، والمصابون بالببلومانيا يجمعون كتبا لا تُمثِّل لهم قيمة، ويدعونها تتراكم بأكثر مما يتسع المكان، بعض المصابين بها كانوا يعيشون في المطبخ بعد أن امتلأ المنزل بالكامل بالكتب. لذلك تحتاج المستويات المتقدمة من الببلومانيا إلى العلاج، ويصف المتخصصون للمصابين عقاقير مماثلة موصى بها للاضطرابات القهرية عموما، إلى جانب العلاج السلوكي المعرفي الذي يُعَدُّ أكثر فائدة، وعموما يتضمن علاجات نفسية مصممة للمصابين بهوس الكتب لممارسة تحديد الأهداف وتحقيقها مع الوقت وبالتمرين البطيء. أما "تسوندوكو" فهي تُشير إلى رغبة في المعرفة، وشراء المزيد من الكتب يُخفِّف الشعور بالذنب لدى صاحبها، باعتبار أنك تقوم بخطوة على الطريق، وأنك تُعِدُّها لتكون في انتظارك حين تُقرِّر البدء، وهو ما يُشعرك بالنشوة عند شراء كل كتاب جديد، كما أنها لا تحمل أي وصمة ولا تحتاج إلى علاج. على الجانب الآخر، قد يشعر الشخص مع تراكم الكتب المهمة وغير المقروءة في مكتبته بالضغط، وربما الكآبة، لأن هناك الكثير من المهام التي لم تُنجز بعد. لتنظيم التسوندوكو، ابدأ بوضع حدٍّ أقصى لشراء الكتب، مثلا ثلاثة كتب في الشهر، خاصة أن الأشخاص المهتمين بالتسوندوكو يحبون الكتب الجديدة ويلتفتون لها جدا، بالتالي فإن تحديد العدد الشهري يمكن أن يكون مفيدا، كذلك راقِب تكديسك للكتب، وإذا بقي كتاب ما في مكتبتك لمدة طويلة، لتكن 3-6 أشهر مثلا، فهذا يعني أن هناك فرصة للتبرع به أو ربما إعادة بيعه مجددا.