صادرات الفوسفاط بقيمة 20,3 مليار درهم عند متم مارس 2025    تنفيذ قانون المالية لسنة 2025.. فائض خزينة بقيمة 5,9 مليار درهم عند متم مارس    "كان" الشباب: المنتخب المغربي ينتصر على كينيا ويشارك الصدارة مع نيجيريا قبل المباراة المرتقبة بينهما    القهوة تساعد كبار السن في الحفاظ على قوة عضلاتهم (دراسة)    أمطار طوفانية تغمر شوارع زاكورة    فرنسا.. ضبط 9 أطنان من الحشيش بعد سطو مسلح على شاحنة مغربية قرب ليون (فيديو)    فوائد القهوة لكبار السن.. دراسة تكشف علاقتها بصحة العضلات والوقاية من السقوط    كرة القدم.. برشلونة يعلن غياب مدافعه كوندي بسبب الإصابة    نشرة إنذارية: زخات رعدية وهبات رياح قوية مرتقبة بعدد من أقاليم المملكة    بنكيران يعود للواجهة بنيران صديقة .. اتهامات للنقابات وتشبث بالقضية الفلسطينية    توقيف لص من ذوي السوابق لانتشاله القبعات بشوارع طنجة    لماذا أصبحت BYD حديث كل المغاربة؟    الكاتب الأول إدريس لشكر في تظاهرة فاتح ماي بالدارالبيضاء : البلاد «سخفانة» سياسيا ولا بد لها من ملتمس رقابة لإنعاشها    ملعب "الحسن الثاني".. تفاصيل إطلاق "الأشغال الكبرى" ب3 مليارات درهم    اجتماع كبار ممثلي الأمن في دول "بريكس" بالبرازيل    عمر هلال يبرز بمانيلا المبادرات الملكية الاستراتيجية لفائدة البلدان النامية    اتحاد إنجلترا يبعد "التحول الجنسي" عن كرة القدم النسائية    المركزيات النقابية تحتفي بعيد الشغل    حضور قوي للقضية الفلسطينية في احتجاجات فاتح ماي والنقابات تجدد التنديد بالإبادة والمطالبة بإسقاط التطبيع    باحثة إسرائيلية تكتب: لايجب أن نلوم الألمان على صمتهم على الهلوكوست.. نحن أيضا نقف متفرجين على الإبادة في غزة    موخاريق: الحكومة مسؤولة عن غلاء الأسعار .. ونرفض "قانون الإضراب"    رحيل أكبر معمرة في العالم.. الراهبة البرازيلية إينا كانابارو لوكاس توفيت عن 116 عاما    نساء ورجال يلبسون "مئزر المطبخ" للدعوة إلى تثمين الأعمال المنزلية    "تكريم لامرأة شجاعة".. ماحي بينبين يروي المسار الاستثنائي لوالدته في روايته الأخيرة    علم إسرائيل يغضب نقابة بالمحمدية    الاستثمار الأجنبي المباشر في المغرب يتجاوز 9 مليارات درهم في 3 أشهر    تقرير: المغرب بين ثلاثي الصدارة الإفريقية في مكافحة التهريب.. ورتبته 53 عالميا    الحكومة تطلق خطة وطنية لمحاربة تلف الخضر والفواكه بعد الجني    أمل تيزنيت يرد على اتهامات الرشاد البرنوصي: "بلاغات مشبوهة وسيناريوهات خيالية"    تراجع طفيف تشهده أسعار المحروقات بالمغرب    معرض باريس.. تدشين جناح المغرب، ضيف شرف دورة 2025    المملكة المتحدة.. الإشادة بالتزام المغرب لفائدة الاستقرار والتنمية في منطقة الساحل خلال نقاش بتشاتام هاوس    تسارع نمو القروض البنكية ب3,9 في المائة في مارس وفق نشرة الإحصائيات النقدية لبنك المغرب    عادل سايح: روح الفريق هل التي حسمت النتيجة في النهاية    العثور على جثة مهاجر جزائري قضى غرقاً أثناء محاولته العبور إلى سبتة    فيدرالية اليسار الديمقراطي تدعو الحكومة إلى تحسين الأجور بما يتناسب والارتفاع المضطرد للأسعار    الإسباني لوبيتيغي يدرب منتخب قطر    السكوري بمناسبة فاتح ماي: الحكومة ملتزمة بصرف الشطر الثاني من الزيادة في الأجور    أغاثا كريستي تعود للحياة بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي    دول ترسل طائرات إطفاء إلى إسرائيل    الإعلان في "ميتا" يحقق نتائج أرباح ربعية فوق التوقعات    توقعات أحوال الطقس ليوم الخميس    أكاديمية المملكة تشيد بريادة الملك محمد السادس في الدفاع عن القدس    الدار البيضاء ترحب بشعراء 4 قارات    محمد وهبي: كأس أمم إفريقيا لأقل من 20 سنة (مصر – 2025).. "أشبال الأطلس" يطموحون للذهاب بعيدا في هذا العرس الكروي    طنجة .. كرنفال مدرسي يضفي على الشوارع جمالية بديعة وألوانا بهيجة    ندوة وطنية … الصين بعيون مغربية قراءات في نصوص رحلية مغربية معاصرة إلى الصين    فيلم "البوز".. عمل فني ينتقد الشهرة الزائفة على "السوشل ميديا"    مهرجان هوا بياو السينمائي يحتفي بروائع الشاشة الصينية ويكرّم ألمع النجوم    مؤسسة شعيب الصديقي الدكالي تمنح جائزة عبد الرحمن الصديقي الدكالي للقدس    حقن العين بجزيئات الذهب النانوية قد ينقذ الملايين من فقدان البصر    اختبار بسيط للعين يكشف احتمالات الإصابة بانفصام الشخصية    دراسة: المضادات الحيوية تزيد مخاطر الحساسية والربو لدى الأطفال    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القوات المسلحة السرّية لحلف الأطلسي
عندما أماط القاضي فليس كاسون اللثام عن الشبكة السرّية الإيطالية للحلف

بدأت شبكة فولتير نشر الكتاب المرجعي حول نشاط المصالح السرّية لحلف شمال الأطلسي التي أحدثها التحالف الأطلسي خلال التسعينيات. ومع أن هذا العمل قام به مؤرخ، فإنّ هذا البحث حول الشبكة السرية الإيطالية لا ينتمي إلى التاريخ بل إلى الحياة اليومية. فلا تزال هذه البنية السرّية نشيطة ولا تزال الدول الأوروبية تحت الوصاية الأنغلو سكسونية، كما بيّنت ذلك التحقيقات البرلمانية حول الاختطافات التي قامت بها المخابرات الأمريكية منذ 2006، ومن المتعذر فهم السياسة في أوروبا دون أن تكون لدى المرء معرفة دقيقة حول شبكات هذه البنيات السرّية.
*********************
من المسؤول عن التفجيرات؟
يوم 31 ماي 1972، انفجرت سيارة في غابة بضواحي قرية بيتيانو، في إيطاليا، مخلّفة جريحا جرحا بليغا وقتيلا بين الدركيين ورجال الشرطة الإيطاليين، فقد انتقل هؤلاء إلى عين المكان على إثر مكالمة هاتفية من شخص مجهول. ولما قام دركي إيطالي بتفتيش سيارة »فيات 500« متروكة هناك، فتح غطاءها المعدني مما أدّى إلى حدوث الانفجار. بعد يومين، نسبت مكالمة هاتفية جديدة مجهولة الهوية هذا الاغتيال إلى الفرق الحمراء، وهي فرق إرهابية كانت حريصة وقتذاك على قلب توازن السلطة في إيطاليا عن طريق القيام باختطاف رهائن وارتكاب اغتيالات لشخصيات رفيعة المستوى في الدولة. وسرعان ما انصب اهتمام الشرطة على اليسار الإيطالي واعتقلت زهاء 200 شيوعي. وظل الإيطاليون مقتنعين، طيلة عشر سنوات، بأنّ الفعل الإجرامي الذي وقع في بيتيانو كان من عمل الفرق الحمراء. ثم قرّر قاض إيطالي شاب، إسمه فليس كاسون، عام 1984، فتح الملف من جديد، بعد أن حفزته سلسلة من الاختلالات والمغالطات المحيطة بدراما بيتيانو. فقد اكتشف أنّ الشرطة لم تجر أيّ تحقيق في عين المكان، وتبيّن له كذلك أنّ التقرير الذي انتهى وقتذاك إلى أنّ المتفجرات المستعملة هي التي تستعملها
تقليديا الفرق الحمراء هو تقرير مزيف في الواقع. ذلك أنَّ ماركو موران، الخبير في المتفجرات بالشرطة الإيطالية، قدّم استنتاجات مزيفة. كان هذا الرّجل عضوا في منظمة اليمين المتطرّف الايطالية »أوردين نويفو«، وشارك، في سياق الحرب الباردة، في ما اعتبره كفاحا مشروعا ضد تأثير الشيوعيين الإيطاليين، وتوصّل القاضي كاسون إلى إثبات أنّ المتفجرات المستعملة في بيتيانو من فئة C4، أقوى متفجر في تلك الحقبة والذي كان ضمن ترسانة القوات المسلحة لحلف شمال الأطلسي، بخلاف ما استنتجه موران.
وسيصرح القاضي كوسان للصحفيين الذين استجوبوه في مكتبه الصغير بقصر العدالة على ضفاف بحيرة البندقية لاحقا: »أردت أن أسلط ضوءً جديداً على سنوات من الأكاذيب والأسرار، هذا كل ما في الأمر«. أردت أن يعرف الإيطاليون الحقيقة ولو مرّة واحدة«.
رأس الخيط
في يوم 24 فبراير 1972، عثر فريق من الدرك الإيطالي صدفة، قرب تريست، على مخبأ للأسلحة، يشتمل على أسلحة وذخيرة وكمية من المتفجرات C4، مماثلة لتلك المستخدمة في بيتيانو. كان رجال الشرطة مقتنعين بأنهم اكتشفوا ترسانة شبكة إجرامية. بعد سنوات، مكّن التحقيق الذي قام به القاضي كاسون من إثبات أن الأمر يتعلق، في الواقع، بأحد المخابئ التحت أرضية من ضمن مئات المخابئ التي أعدتها القوات المسلحة السرّية في إيطاليا بأوامر من الحلف الأطلسي وكان اسمها في إيطاليا »غلاديو«. لاحظ كاسون أنّ المصالح السرية للجيش الإيطالي والحكومة الإيطالية في ذلك الوقت وجدت صعوبة كبيرة في إحاطة اكتشاف »تريست« وسياقه الاستراتيجي بالكتمان.
ولما واصل القاضي تحقيقه حول الأحداث الغائمة في بيتيانو وتريست، اكتشف باستغراب أيادي فرق اليمين المتطرف والمصالح السرية للجيش كامنة وراء تفجيرات 1972، لا أيدي اليسار الإيطالي، فقد كشف تحقيق هذا القاضي عن تعاون وثيق بين منظمة اليمين المتطرف »أوردين نويفو«، والمصالح السرية للجيش الإيطالي، حيث قام الطرفان بالإعداد لتفجيرات بيتيانو، ثم باتهام مناضلي اليسار الإيطالي المتطرّف، الفرق الحمراء. وتوصّل كاسون إلى تحديد هوية الرّجل الذي وضع القنبلة: وهو فينسينزو فينسيغيرا، العضو في تلك المنظمة المتطرّفة، ولما كان فينسيغيرا آخر حلقة في سلسلة طويلة من القيادات لم يتم إلقاء القبض عليه إلا بعد مرور أعوام على تلك الوقائع. وقد شهد بأنه استفاد من حماية شبكة كاملة من المتعاطفين معه في إيطاليا وفي الخارج والذين غطوا على هروبه بعد ارتكاب التفجيرات. قال فينلسيغيرا: »إنها آلية كاملة تحركت، وهذا يعني أن دركيين إيطاليين في وزارة الداخلية مرورا بالجمارك ومصالح الاستعلامات المدنية والعسكرية، الجميع قبل بالتفكير الإيديولوجي الذي كان يسند التفجيرات«.
السياق التاريخي
في نفس السياق، أكد فينسيغيرا على السياق التاريخي المضطرب الذي تمت فيه التفجيرات بيتيانو. فحوالي نهاية الستينيات ومع بداية الثورة السلمية وحركات احتجاج الطلبة على العنف عموما وحرب الفيتنام خصوصا، ازدادت المواجهة الإيديولوجية بين اليمين واليسار حدة في أوروبا الغربية وفي الولايات المتحدة الأمريكية. كانت الغالبية الساحقة من المواطنين المنخرطين في الحركات الاجتماعية لليسار تلجأ الى أشكال غير عنيفة من الاحتجاج: مظاهرات، أعمال عصيان مدني، ولا سيما نقاشات حادة. وكان الحزب الشيوعي القوي، وأقل منه، الحزب الاشتراكي، في قلب البرلمان الإيطالي، متعاطفين مع هذه الحركة فكانا يدينان سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، وحرب الفيتنام وخاصة توزيع السلطة في إيطاليا، لأنه على الرغم من الأغلبية المهمة التي كان يتوفر عليها الحزب الشيوعي الايطالي في البرلمان فإنه لم يحصل على أي وزارة وظل، بسبب ذلك، مقصيا من الحكومة. وكان اليمين الإيطالي على وعي بأن الأمر كان يتعلق بظلم صارخ وبانتهاك للمبادئ القاعدية للديمقراطية.
في هذا السياق من الحرب الباردة ومن الصراع على السلطة لجأ المتطرفون الى الارهاب في أوروبا الغربية. الفرق الإرهابية الأبرز في أقصى اليسار هم الشيوعيون الايطاليون : الفرق الحمراء وكذا والجناح المسلح الأحمر. ولما كانت الفرق الحمراء قد تأسست على يد طلبة جامعة ترينت الذين يجعلون كل تقنيات المعركة تقريبا، فقد كان ضمن صفوفها مرغريتاكاغول، ألبرتوفرانسيشين والبرتوكرسيو. وعلى غرار الجناح المسلح الأحمر فقد كانوا مقتنعين بضرورة استخدام العنف من أجل تغيير بنية السلطة القائمة التي كانوا يعتبرونها ظالمة وفاسدة. ومثل الجناح المسلح الأحمر لم تكن الأعمال التي تقودها الفرق الحمراء تستهدف السكان المدنيين، بل أفراد معينين، متهمين بتجسيد »جهاز الدولة«، مثل رجال أبناك، وجنرالات ووزراء كانت تلك الفرق تختطفهم وتغتالهم غالبا. وكانت الفرق الحمراء تعمل أساسا في إيطاليا السبعينيات، وقد خلفت 75 قتيلا، ثم ألقي القبض على أعضاء هذه الفرق وحوكموا وسجنوا، بسبب ضعف قدراتهم الاستراتيجية والعسكرية وانعدام تجربتهم.
إرهاب اليسار وإرهاب اليمين
وكان في الطرف الآخر من اللعبة السياسية للحرب الباردة، أقصى اليمين الذي كان يلجأ كذلك إلى العنف. وكانت تضم شبكته في إيطاليا جنودا سريين من جيش الحلف الأطلسي السري، والمصالح السرية العسكرية ومنظمات فاشية مثل أوردين نويفو وبخلاف الإرهاب الممارس من طرف اليسار، فإن الإرهاب الذي مارسه اليمين كان يستهدف نشر الرعب في كل طبقات المجتمع من خلال العمليات الإرهابية التي كانت تضرب عشوائيا الحشود من الناس، وكان الهدف منها قتل أكبر عدد منهم، حتى يتمكن أصحابها من اتهام الشيوعيين وتندرج مأساة بيتياغو، كما عرف ذلك القاضي كاسون، في هذا المخطط ويدخل في إطار سلسلة من الجرائم التي بدأت عام 1969. ففي هذا العام، انفجرت أربع قنابل قبيل احتفالات رأس السنة الميلادية في أماكن عامة بروما وميلانو. وكانت الحصيلة 16 قتيلا و 80 جريحا، أغلبهم قرويون جاءوا ليودعوا مداخيل ما باعوه من محاصيل في البنك الفلاحي. كانت هذه المجزرة تتبع استراتيجية ميكيا فيلية ولذلك نسبت المسؤولية عنها إلى الشيوعيين واليسار المتطرف، بعد محو آثار الجريمة التي تلتها موجة من الاعتقالات مباشرة. ولم يكن لدى السكان عموما سوى فرصة قليلة لاكتشاف
الحقيقة نظرا للجهود التي بذلتها المصالح السرية من أجل التمويه على الجريمة وفي ميلانو، لم تنفجر قنبلة بسبب تعطل الذخيرة، لكن خلال الأعمال الأولى ، قامت المصالح السرية بتفجيرها في عين المكان، بينما وضعت مكونات قنابل أخرى في فيلا جيا نحيا كومو فيلترينيلي، الناشر الشهير المعروف بآرائه اليسارية.
يؤكد السيناتور جيوفاني بيليغرينو، رئيس لجنة التحقيق البرلماني حول الشبكة السرية والإرهاب، مذكرا بعنف السياق السياسي لهذه الفترة الأخيرة من التاريخ الإيطالي: »حسب الاحصائيات الرسمية، تم إحصاء 14591 عمل من أعمال العنف بدوافع سياسية، ما بين فاتح يناير 1969 و 31 دجنبر 1987. ولعله ليس من نافل القول التذكير بأن هذه »الأعمال« أدت إلى مقتل 491 شخصا وجرح أو تشويه 1181 آخرين. إنها خسائر لاتحصل إلا في حرب، لانظير لها في أوروبا«.
وعقب تفجيرات بيازا فونتانا سنة 1969 وبيتيانو سنة 1972، أدمت أعمال أخرى البلاد: ففي 28 ماي 1974 ببريسيا، أدّى انفجار قنبلة إلى مقتل 8 أشخاص وجرح 102 شخص من بين المشاركين في مظاهرة أدى انفجار على متن قطار يربط بين روما وميونيخ، إلى مقتل 12 شخصا وجرح 48 آخرين. والقطرة التي أفاضت كأس هذا العنف ماحدث ظهيرة 2 غشت 1980، وهو يوم عيد وطني إيطالي، عندما ضرب انفجار كثيف قاعة الانتظار بالدرجة الثانية من محطة قطار بولوني، مخلفا مقتل 85 شخصا وجرح أو تشويه 200 آخرين. ومجزرة بولوني هي أهم الهجومات الإرهابية التي تعرضت لها أوروبا خلال القرن العشرين.
الجهاز الأمني والمصالح السرية
تحمي الإرهابيين
وبخلاف أعضاء الفرق الحمراء الذين كان مصيرهم جميعا الاعتقال، فإن ارهابيي اليمين المتطرف كانوا يتوصلون إلى الهروب بعد كل تفجير، لأنهم استطاعوا، كما لفت الانتباه إلى ذلك فينسيغيرا، الاستفادة جميعا من حماية الجهاز الأمني والمصالح السرية للجيش الإيطالي. وعندما تم الربط أخيراً بين تفجيرات بيازا فونتانا واليمين الإيطالي، بعد عدة سنوات، سُئل فرانكوفريدا، وهو عضو بأوردين نويفو، إن كان يظن أولا يظن أن تلك التفجيرات وقعت بإعدادٍ من شخصيات رفيعة المستوى، إما جنيرالات أو وزراء. وأجاب فريدا، وهو معجب بهتلر وقد نشر كتابه »كفاحي« باللغة الإيطالية ضمن منشوراته الشخصية، أجاب بأنّ الجميع، حسبما يتصوره، متورط بالضرورة في ذلك: »إننا جميعا نستخدم من طرف من هم أقوى منا« هكذا صرّح هذا الإرهابي مضيفا: »فيما يتعلق بي، أسلم بأنني كنت لعبة في يد أفكار معينة لكنني لم أكن أبدا لعبة في يد مصالح سرية، سواء هنا [في إيطاليا] أو في الخارج. وبعبارة أخرى، لقد اخترتُ بنفسي معركتي وقدتُها طبقالأفكاري«. هذا كل مافي الأمر«.
تدخل البيت الأبيض والمخابرات الأمريكية
في مارس 2001، ألمح الجنرال جيانديليو ماليتي، القائد الأسبق لمحاربة الجاسوسية، إلى أن الاغتيالات التي أفقدت الشيوعيين الإيطاليين الثقة، تلقت كذلك موافقة البيت الأبيض وجهاز المخابرات الأمريكية، علاوة على موافقة الشبكة السرية الإيطالية، والمصالح السرية العسكرية الإيطالية، والفرق الإرهابية اليمينية المتطرفة.
وخلال محاكمة إرهابيي اليمين المتطرّف المتهمين بالتورط في تفجيرات بيازافونتانا، قدم ماليتي هذه الشهادة: »كان جهاز المخابرات الأمريكية، بتوجيهات من حكومته، يتطلع إلى إيجاد قومية إيطالية قادرة على إيقاف مااعتبرته انزلاقا نحو اليسار، ولتحقيق هذا الهدف، تمكنت من استعمال إرهاب أقصى اليمين«. قال الجنرال مفسرا هذا الأمر: »كان لدينا انطباع بأن الأمريكيين كانوا مستعدين لكل شيء من أجل الحيلولة دون أن تنزلق إيطالياإلى اليسار« وأضاف: »لا تنسوا أنّ نيكسون هو الذي كان يتولى الأمور ولم يكن نيكسون رجلا عادياً. فقد كان سياسياً دقيقا، لكن أساليبه لم تكن أرثوذوكسية إلا قليلا«. وفي المقابل عبّر الجنرال الذي يبلغ من العمر 79 سنة عن نقده وأسفه: »لقد عوملت إيطاليا بوصفها نوعاً من المحميات، وأنا أخجل من فكرة كوننا لانزال خاضعين لمراقبة خاصة«.
خلال السبعينيات والثمانينيات، أعرب البرلمان الإيطالي، الذي كان فيه للحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي نصيب مهم في السلطة، عن قلق متزايد أمام هذه الموجة التي بدا أن لانهاية لها من الجرائم التي كانت تُدمي البلاد دون التمكن من تحديد هويات مرتكبيها ولا الآمرين بها. وحتى إن كانت تروّج في تلك الفترة شائعات بين اليسار الإيطالي مفادها أنّ أعمال العنف المكتنفة بالأسرار هي نوع من الحرب السرية التي تقودها الولايات المتحدة ضد الشيوعيين الإيطاليين، فإنه لم تكن توجد أي صحة تسمح بدعم هذه النظرية. لكن في عام 1988 شكل مجلس الشيوخ الإيطالي لجنة تحقيق برلمانية خاصة سيرأسها السيناتور ليبيرو غوالتييري وكان اسمها »اللجنة البرلمانية لمجلس الشيوخ الإيطالي المكلفة بالتحقيق في الإرهاب في إيطاليا والأسباب التي تفسر لماذا لم يتم تحديد هويات الأشخاص المسؤولين عن المجازر: الإرهاب، التفجيرات والسياق السياسي التاريخي«.
إرهاب دولة
وتبين أن عمل هذه اللجنة صعب للغاية. كان الشهود يرفضون الكلام، وتم إتلاف عدة وثائق. واللجنة نفسها، المكونة من ممثلي أحزاب اليسار واليمين، كانت منقسمة حول مسألة الحقيقة التاريخية في إيطاليا وحول النتائج التي يجب الكشف عنها أو تركها في الخفاء.
وفي نفس الوقت ، بدأ القاضي كاسون، معتمدا على شهادة فينسينزو فينسيغيرا، إرهابي بيتيانو، والوثائق التي اكتشف، في استبانة طبيعة الاستراتيجية العسكرية المعقدة التي استخدمت. وشيئا فشيئا أدرك أن الأمر لم يكن يتعلق بإرهاب مجرد بل بإرهاب دولة، ممول بأموال المشاركين فيه. لقد كانت التفجيرات خاضعة لاستراتيجية التوتر«. تستهدف زرع جو من التوتر بين السكان. كان اليمين المتطرف وأنصاره داخل حلف الأطلسي يخشون أن يمتلك الشيوعيون الإيطاليون مزيد سلطة، ولهذا كان الجنود السريون الأعضاء في جيش الشبكة السرية يهيئون هذه التفجيرات التي كانوا يتهمون بها اليسار، في محاولة ل »زعزعة الاستقرار من أجل الاستقرار«. وبالنسبة للمصالح السرية، كانت تفجيرات بيتيانو تندرج في ما سمي ب »استراتيجية التوتر«. كما شرح ذلك القاضي كاسون للجمهور خلال روبورتاج للبي بي سي خصص لهذه الشبكة السرية. »أي إيجاد جو توتر من أجل تشجيع الاتجاهات الاجتماعية والسياسية المضادة في البلاد. وبقدر ما كانت هذه الاستراتيجية تطبق في الميدان، بات من الضروري حماية المحرضين عليها من ذلك لأن دلائل تورطهم بدأت تظهر، وكان الشهود يكتمون بعض المعلومات من أجل
التغطية على متطرفي اليمين«. وصرح فينسيغيرا وهو إرهابي كان كآخرين على صلة مع شعبة الشبكة السرية العسكرية الإيطالية، وقتل بسبب اقتناعاته السياسية: »كان لابد من الانقضاض على المدنيين، على أفراد الشعب، النساء، والأطفال، والأبرياء، والمجهولين الذين لا علاقة لهم بأي لعبة ساسية«: والغاية كانت بسيطة جدا، وهي أنهم كانوا يقصدون إلى إرغام هؤلاء الناس، أي الشعب الإيطالي، على اللجوء إلى الدولة من أجل طلب مزيد من الأمن. لهذا المنطق السياسي تخضع كل هذه الجرائم وكل هذه التفجيرات التي لم تتم معاقبة مرتكبيها لأن الدولة لا يمكنها أن تجرم نفسها أو تعترف بمسؤوليتها عما جرى«.
إلا أن رعب هذا المخطط الشيطاني لم يظهر إلا بالتدريج، ولاتزال اليوم العديد من الروابط السرية التي يجب إثباتها. وعلاوة على هذا، فإن كل الوثائق الأصلية غير موجودة.
صرح فينسيغيرا خلال محاكمته سنة 1984، بأنه »بعد تفجيرات بيتيانو والتفجيرات التي تلتها كلها، لم يعد ينبغي لأحد أن يشك في وجود بنية نشيطة وسرية، قادرة على تهييء هذه الاستراتيجية التقتيلية في الظلال«. بنية يصفها بأنها »متخللة لأجهزة الدولة نفسها. إذ توجد في إيطاليا منظمة موازية للقوات العسكرية، تتألف من مدنيين وعسكريين، وتوجهها مضاد للسوفيات، أي أنها موجهة إلى تنظيم المقاومة ضد احتلال محتمل للأراضي الإيطالية من طرف الجيش الأحمر«. ودون ذكر اسم الشبكة السرية، فإن هذه الشهادة تؤكد وجودها، وقد ظهرت إلى الوجود بأمر من الحلف الأطلسي. ويصفها فينسيغيرا ك »منظمة سرية، منظمة »هائلة تتوفر على شبكة اتصالاتها الخاصة، وأسلحتها، ومتفجراتها، والرجال المكونين لاستخدامهم لأهدافها«. وكشف هذا الإرهابي عن أن هذه »المنظمة الهائلة، تلقت من الحلف الأطلسي الأمر بمكافحة انزلاق السلطة في البلاد نحو اليسار، وذلك في حالة عدم حدوث الاجتياح السوفياتي. وذلك ما فعلوه بدعم من المصالح السرية للدولة. والسلطة السياسية وللجيش«.
مرت أزيد من عشرين سنة على هذه الشهادة من هذا الإرهابي الذي أقام، لأول مرة في التاريخ الإيطالي، صلة بين الشبكة السرية الإيطالية، والحلف الأطلسي والتفجيرات التي هزت البلد. ولم يكن هو أول من كشف عن هذه الصلة، ولا أول من ذكر وجود شبكة سرية في إيطاليا. فقد أتى قاضي التحقيق جيوفاني تامبيرنيو بسابقة، سنة 1974 في إطار تحقيق حول إرهاب أقصى اليمين، باتهامه الجنرال فيتوميسل، رئيس المصالح السرية للجيش الإيطالي »بإنشاء وتنظيم جمعية سرية، بمساعدة متواطئين، تضم مدنيين وعسكريين وهدفها ثورة مسلحة من أجل التعديل غير المشروع للدستور وتشكيل الحكومة«.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.