الاستقلال يترك برلمانه مفتوحا حتى حسم أعضاء لجنته التنفيذية والفرفار: الرهان حارق (فيديو)    حماس تنفي خروج بعض قادتها من غزة ضمن "صفقة الهدنة"    نهضة بركان يتأهل لنهائي كأس الكونفدرالية بعد انسحاب اتحاد العاصمة الجزائري    التعادل الإيجابي يحسم مواجهة المغرب الفاسي والوداد الرياضي    الأمير مولاي الحسن يتوج علي الأحرش    معرض الفلاحة بمكناس يستقطب أزيد من مليون زائر    خدمات قنصلية.. تعميم المنظومتين الإلكترونييتن الخاصتين بتحديد المواعيد والتمبر الإلكتروني    احتجاج أبيض.. أطباء مغاربة يطالبون بحماية الأطقم الصحية في غزة    بيدرو سانشيز، لا ترحل..    الدرهم يتراجع بنسبة 0,46 في المائة مقابل الأورو    توابل بني ملال تحصد التميز بمعرض الفلاحة    جمباز الجزائر يرفض التنافس في مراكش    الزمالك سبقو نهضة بركان لفينال كأس الكاف    مقايس الامطار المسجلة بالحسيمة والناظور خلال 24 ساعة الماضية    طنجة.. توقيف شخص لتورطه في قضية تتعلق بالسرقة واعتراض السبيل وحيازة أقراص مخدرة    لتخفيف الاكتظاظ.. نقل 100 قاصر مغربي من مركز سبتة    الأسير الفلسطيني باسم خندقجي يظفر بجائزة الرواية العربية في أبوظبي    محكمة لاهاي تستعد لإصدار مذكرة اعتقال ضد نتنياهو وفقا لصحيفة اسرائيلية    نجوم مغاربة تحت رادار "البارصا"    "البيغ" ينتقد "الإنترنت": "غادي نظمو كأس العالم بهاد النيفو؟"    اتفاق جديد بين الحكومة والنقابات لزيادة الأجور: 1000 درهم وتخفيض ضريبي متوقع    الفيلم المغربي "كذب أبيض" يفوز بجائزة مهرجان مالمو للسينما العربية    اعتقال مئات الطلاب الجامعيين في الولايات المتحدة مع استمرار المظاهرات المنددة بحرب إسرائيل على غزة    بيع ساعة جَيب لأغنى ركاب "تايتانيك" ب1,46 مليون دولار    توقعات أحوال الطقس غدا الإثنين    نصف ماراطون جاكرتا للإناث: المغرب يسيطر على منصة التتويج    بلوكاج اللجنة التنفيذية فمؤتمر الاستقلال.. لائحة مهددة بالرفض غاتحط لأعضاء المجلس الوطني        دراسة: الكرياتين يحفز الدماغ عند الحرمان من النوم    الدورة 27 من البطولة الاحترافية الأولى :الحسنية تشعل الصراع على اللقب والجيش الملكي يحتج على التحكيم    توقيف مرشحة الرئاسة الأمريكية بسبب فلسطين    حصيلة ضحايا القصف الإسرائيلي على عزة ترتفع إلى 34454 شهيدا    التاريخ الجهوي وأسئلة المنهج    طنجة "واحة حرية" جذبت كبار موسيقيي الجاز    الفكُّوس وبوستحمّي وأزيزا .. تمور المغرب تحظى بالإقبال في معرض الفلاحة    تتويج الفائزين بالجائزة الوطنية لفن الخطابة    شبح حظر "تيك توك" في أمريكا يطارد صناع المحتوى وملايين الشركات الصغرى    المعرض الدولي للفلاحة 2024.. توزيع الجوائز على المربين الفائزين في مسابقات اختيار أفضل روؤس الماشية    خبراء "ديكريبطاج" يناقشون التضخم والحوار الاجتماعي ومشكل المحروقات مع الوزير بايتاس    نظام المطعمة بالمدارس العمومية، أية آفاق للدعم الاجتماعي بمنظومة التربية؟ -الجزء الأول-    مور انتخابو.. بركة: المسؤولية دبا هي نغيرو أسلوب العمل وحزبنا يتسع للجميع ومخصناش الحسابات الضيقة    الحبس النافذ للمعتدين على "فتيات القرآن" بشيشاوة    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    المغرب يشارك في الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي بالرياض    صديقي: المملكة قطعت أشواط كبيرة في تعبئة موارد السدود والتحكم في تقنيات السقي    سيارة ترمي شخصا "منحورا" بباب مستشفى محمد الخامس بطنجة    مهرجان إثران للمسرح يعلن عن برنامج الدورة الثالثة    رسميا.. نزار بركة أمينا عاما لحزب الاستقلال لولاية ثانية    خبراء وباحثون يسلطون الضوء على المنهج النبوي في حل النزاعات في تكوين علمي بالرباط    ابتدائية تنغير تصدر أحكاما بالحبس النافذ ضد 5 أشخاص تورطوا في الهجرة السرية    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    انتخابات الرئاسة الأمريكية تؤجل قرار حظر "سجائر المنثول"    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    الأمثال العامية بتطوان... (583)    دراسة: التمارين منخفضة إلى متوسطة الشدة تحارب الاكتئاب    بروفيسور عبد العزيز عيشان ل"رسالة24″: هناك علاج المناعي يخلص المريض من حساسية الربيع نهائيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القوات المسلحة السرّية لحلف الأطلسي
عندما أماط القاضي فليس كاسون اللثام عن الشبكة السرّية الإيطالية للحلف

بدأت شبكة فولتير نشر الكتاب المرجعي حول نشاط المصالح السرّية لحلف شمال الأطلسي التي أحدثها التحالف الأطلسي خلال التسعينيات. ومع أن هذا العمل قام به مؤرخ، فإنّ هذا البحث حول الشبكة السرية الإيطالية لا ينتمي إلى التاريخ بل إلى الحياة اليومية. فلا تزال هذه البنية السرّية نشيطة ولا تزال الدول الأوروبية تحت الوصاية الأنغلو سكسونية، كما بيّنت ذلك التحقيقات البرلمانية حول الاختطافات التي قامت بها المخابرات الأمريكية منذ 2006، ومن المتعذر فهم السياسة في أوروبا دون أن تكون لدى المرء معرفة دقيقة حول شبكات هذه البنيات السرّية.
*********************
من المسؤول عن التفجيرات؟
يوم 31 ماي 1972، انفجرت سيارة في غابة بضواحي قرية بيتيانو، في إيطاليا، مخلّفة جريحا جرحا بليغا وقتيلا بين الدركيين ورجال الشرطة الإيطاليين، فقد انتقل هؤلاء إلى عين المكان على إثر مكالمة هاتفية من شخص مجهول. ولما قام دركي إيطالي بتفتيش سيارة »فيات 500« متروكة هناك، فتح غطاءها المعدني مما أدّى إلى حدوث الانفجار. بعد يومين، نسبت مكالمة هاتفية جديدة مجهولة الهوية هذا الاغتيال إلى الفرق الحمراء، وهي فرق إرهابية كانت حريصة وقتذاك على قلب توازن السلطة في إيطاليا عن طريق القيام باختطاف رهائن وارتكاب اغتيالات لشخصيات رفيعة المستوى في الدولة. وسرعان ما انصب اهتمام الشرطة على اليسار الإيطالي واعتقلت زهاء 200 شيوعي. وظل الإيطاليون مقتنعين، طيلة عشر سنوات، بأنّ الفعل الإجرامي الذي وقع في بيتيانو كان من عمل الفرق الحمراء. ثم قرّر قاض إيطالي شاب، إسمه فليس كاسون، عام 1984، فتح الملف من جديد، بعد أن حفزته سلسلة من الاختلالات والمغالطات المحيطة بدراما بيتيانو. فقد اكتشف أنّ الشرطة لم تجر أيّ تحقيق في عين المكان، وتبيّن له كذلك أنّ التقرير الذي انتهى وقتذاك إلى أنّ المتفجرات المستعملة هي التي تستعملها
تقليديا الفرق الحمراء هو تقرير مزيف في الواقع. ذلك أنَّ ماركو موران، الخبير في المتفجرات بالشرطة الإيطالية، قدّم استنتاجات مزيفة. كان هذا الرّجل عضوا في منظمة اليمين المتطرّف الايطالية »أوردين نويفو«، وشارك، في سياق الحرب الباردة، في ما اعتبره كفاحا مشروعا ضد تأثير الشيوعيين الإيطاليين، وتوصّل القاضي كاسون إلى إثبات أنّ المتفجرات المستعملة في بيتيانو من فئة C4، أقوى متفجر في تلك الحقبة والذي كان ضمن ترسانة القوات المسلحة لحلف شمال الأطلسي، بخلاف ما استنتجه موران.
وسيصرح القاضي كوسان للصحفيين الذين استجوبوه في مكتبه الصغير بقصر العدالة على ضفاف بحيرة البندقية لاحقا: »أردت أن أسلط ضوءً جديداً على سنوات من الأكاذيب والأسرار، هذا كل ما في الأمر«. أردت أن يعرف الإيطاليون الحقيقة ولو مرّة واحدة«.
رأس الخيط
في يوم 24 فبراير 1972، عثر فريق من الدرك الإيطالي صدفة، قرب تريست، على مخبأ للأسلحة، يشتمل على أسلحة وذخيرة وكمية من المتفجرات C4، مماثلة لتلك المستخدمة في بيتيانو. كان رجال الشرطة مقتنعين بأنهم اكتشفوا ترسانة شبكة إجرامية. بعد سنوات، مكّن التحقيق الذي قام به القاضي كاسون من إثبات أن الأمر يتعلق، في الواقع، بأحد المخابئ التحت أرضية من ضمن مئات المخابئ التي أعدتها القوات المسلحة السرّية في إيطاليا بأوامر من الحلف الأطلسي وكان اسمها في إيطاليا »غلاديو«. لاحظ كاسون أنّ المصالح السرية للجيش الإيطالي والحكومة الإيطالية في ذلك الوقت وجدت صعوبة كبيرة في إحاطة اكتشاف »تريست« وسياقه الاستراتيجي بالكتمان.
ولما واصل القاضي تحقيقه حول الأحداث الغائمة في بيتيانو وتريست، اكتشف باستغراب أيادي فرق اليمين المتطرف والمصالح السرية للجيش كامنة وراء تفجيرات 1972، لا أيدي اليسار الإيطالي، فقد كشف تحقيق هذا القاضي عن تعاون وثيق بين منظمة اليمين المتطرف »أوردين نويفو«، والمصالح السرية للجيش الإيطالي، حيث قام الطرفان بالإعداد لتفجيرات بيتيانو، ثم باتهام مناضلي اليسار الإيطالي المتطرّف، الفرق الحمراء. وتوصّل كاسون إلى تحديد هوية الرّجل الذي وضع القنبلة: وهو فينسينزو فينسيغيرا، العضو في تلك المنظمة المتطرّفة، ولما كان فينسيغيرا آخر حلقة في سلسلة طويلة من القيادات لم يتم إلقاء القبض عليه إلا بعد مرور أعوام على تلك الوقائع. وقد شهد بأنه استفاد من حماية شبكة كاملة من المتعاطفين معه في إيطاليا وفي الخارج والذين غطوا على هروبه بعد ارتكاب التفجيرات. قال فينلسيغيرا: »إنها آلية كاملة تحركت، وهذا يعني أن دركيين إيطاليين في وزارة الداخلية مرورا بالجمارك ومصالح الاستعلامات المدنية والعسكرية، الجميع قبل بالتفكير الإيديولوجي الذي كان يسند التفجيرات«.
السياق التاريخي
في نفس السياق، أكد فينسيغيرا على السياق التاريخي المضطرب الذي تمت فيه التفجيرات بيتيانو. فحوالي نهاية الستينيات ومع بداية الثورة السلمية وحركات احتجاج الطلبة على العنف عموما وحرب الفيتنام خصوصا، ازدادت المواجهة الإيديولوجية بين اليمين واليسار حدة في أوروبا الغربية وفي الولايات المتحدة الأمريكية. كانت الغالبية الساحقة من المواطنين المنخرطين في الحركات الاجتماعية لليسار تلجأ الى أشكال غير عنيفة من الاحتجاج: مظاهرات، أعمال عصيان مدني، ولا سيما نقاشات حادة. وكان الحزب الشيوعي القوي، وأقل منه، الحزب الاشتراكي، في قلب البرلمان الإيطالي، متعاطفين مع هذه الحركة فكانا يدينان سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، وحرب الفيتنام وخاصة توزيع السلطة في إيطاليا، لأنه على الرغم من الأغلبية المهمة التي كان يتوفر عليها الحزب الشيوعي الايطالي في البرلمان فإنه لم يحصل على أي وزارة وظل، بسبب ذلك، مقصيا من الحكومة. وكان اليمين الإيطالي على وعي بأن الأمر كان يتعلق بظلم صارخ وبانتهاك للمبادئ القاعدية للديمقراطية.
في هذا السياق من الحرب الباردة ومن الصراع على السلطة لجأ المتطرفون الى الارهاب في أوروبا الغربية. الفرق الإرهابية الأبرز في أقصى اليسار هم الشيوعيون الايطاليون : الفرق الحمراء وكذا والجناح المسلح الأحمر. ولما كانت الفرق الحمراء قد تأسست على يد طلبة جامعة ترينت الذين يجعلون كل تقنيات المعركة تقريبا، فقد كان ضمن صفوفها مرغريتاكاغول، ألبرتوفرانسيشين والبرتوكرسيو. وعلى غرار الجناح المسلح الأحمر فقد كانوا مقتنعين بضرورة استخدام العنف من أجل تغيير بنية السلطة القائمة التي كانوا يعتبرونها ظالمة وفاسدة. ومثل الجناح المسلح الأحمر لم تكن الأعمال التي تقودها الفرق الحمراء تستهدف السكان المدنيين، بل أفراد معينين، متهمين بتجسيد »جهاز الدولة«، مثل رجال أبناك، وجنرالات ووزراء كانت تلك الفرق تختطفهم وتغتالهم غالبا. وكانت الفرق الحمراء تعمل أساسا في إيطاليا السبعينيات، وقد خلفت 75 قتيلا، ثم ألقي القبض على أعضاء هذه الفرق وحوكموا وسجنوا، بسبب ضعف قدراتهم الاستراتيجية والعسكرية وانعدام تجربتهم.
إرهاب اليسار وإرهاب اليمين
وكان في الطرف الآخر من اللعبة السياسية للحرب الباردة، أقصى اليمين الذي كان يلجأ كذلك إلى العنف. وكانت تضم شبكته في إيطاليا جنودا سريين من جيش الحلف الأطلسي السري، والمصالح السرية العسكرية ومنظمات فاشية مثل أوردين نويفو وبخلاف الإرهاب الممارس من طرف اليسار، فإن الإرهاب الذي مارسه اليمين كان يستهدف نشر الرعب في كل طبقات المجتمع من خلال العمليات الإرهابية التي كانت تضرب عشوائيا الحشود من الناس، وكان الهدف منها قتل أكبر عدد منهم، حتى يتمكن أصحابها من اتهام الشيوعيين وتندرج مأساة بيتياغو، كما عرف ذلك القاضي كاسون، في هذا المخطط ويدخل في إطار سلسلة من الجرائم التي بدأت عام 1969. ففي هذا العام، انفجرت أربع قنابل قبيل احتفالات رأس السنة الميلادية في أماكن عامة بروما وميلانو. وكانت الحصيلة 16 قتيلا و 80 جريحا، أغلبهم قرويون جاءوا ليودعوا مداخيل ما باعوه من محاصيل في البنك الفلاحي. كانت هذه المجزرة تتبع استراتيجية ميكيا فيلية ولذلك نسبت المسؤولية عنها إلى الشيوعيين واليسار المتطرف، بعد محو آثار الجريمة التي تلتها موجة من الاعتقالات مباشرة. ولم يكن لدى السكان عموما سوى فرصة قليلة لاكتشاف
الحقيقة نظرا للجهود التي بذلتها المصالح السرية من أجل التمويه على الجريمة وفي ميلانو، لم تنفجر قنبلة بسبب تعطل الذخيرة، لكن خلال الأعمال الأولى ، قامت المصالح السرية بتفجيرها في عين المكان، بينما وضعت مكونات قنابل أخرى في فيلا جيا نحيا كومو فيلترينيلي، الناشر الشهير المعروف بآرائه اليسارية.
يؤكد السيناتور جيوفاني بيليغرينو، رئيس لجنة التحقيق البرلماني حول الشبكة السرية والإرهاب، مذكرا بعنف السياق السياسي لهذه الفترة الأخيرة من التاريخ الإيطالي: »حسب الاحصائيات الرسمية، تم إحصاء 14591 عمل من أعمال العنف بدوافع سياسية، ما بين فاتح يناير 1969 و 31 دجنبر 1987. ولعله ليس من نافل القول التذكير بأن هذه »الأعمال« أدت إلى مقتل 491 شخصا وجرح أو تشويه 1181 آخرين. إنها خسائر لاتحصل إلا في حرب، لانظير لها في أوروبا«.
وعقب تفجيرات بيازا فونتانا سنة 1969 وبيتيانو سنة 1972، أدمت أعمال أخرى البلاد: ففي 28 ماي 1974 ببريسيا، أدّى انفجار قنبلة إلى مقتل 8 أشخاص وجرح 102 شخص من بين المشاركين في مظاهرة أدى انفجار على متن قطار يربط بين روما وميونيخ، إلى مقتل 12 شخصا وجرح 48 آخرين. والقطرة التي أفاضت كأس هذا العنف ماحدث ظهيرة 2 غشت 1980، وهو يوم عيد وطني إيطالي، عندما ضرب انفجار كثيف قاعة الانتظار بالدرجة الثانية من محطة قطار بولوني، مخلفا مقتل 85 شخصا وجرح أو تشويه 200 آخرين. ومجزرة بولوني هي أهم الهجومات الإرهابية التي تعرضت لها أوروبا خلال القرن العشرين.
الجهاز الأمني والمصالح السرية
تحمي الإرهابيين
وبخلاف أعضاء الفرق الحمراء الذين كان مصيرهم جميعا الاعتقال، فإن ارهابيي اليمين المتطرف كانوا يتوصلون إلى الهروب بعد كل تفجير، لأنهم استطاعوا، كما لفت الانتباه إلى ذلك فينسيغيرا، الاستفادة جميعا من حماية الجهاز الأمني والمصالح السرية للجيش الإيطالي. وعندما تم الربط أخيراً بين تفجيرات بيازا فونتانا واليمين الإيطالي، بعد عدة سنوات، سُئل فرانكوفريدا، وهو عضو بأوردين نويفو، إن كان يظن أولا يظن أن تلك التفجيرات وقعت بإعدادٍ من شخصيات رفيعة المستوى، إما جنيرالات أو وزراء. وأجاب فريدا، وهو معجب بهتلر وقد نشر كتابه »كفاحي« باللغة الإيطالية ضمن منشوراته الشخصية، أجاب بأنّ الجميع، حسبما يتصوره، متورط بالضرورة في ذلك: »إننا جميعا نستخدم من طرف من هم أقوى منا« هكذا صرّح هذا الإرهابي مضيفا: »فيما يتعلق بي، أسلم بأنني كنت لعبة في يد أفكار معينة لكنني لم أكن أبدا لعبة في يد مصالح سرية، سواء هنا [في إيطاليا] أو في الخارج. وبعبارة أخرى، لقد اخترتُ بنفسي معركتي وقدتُها طبقالأفكاري«. هذا كل مافي الأمر«.
تدخل البيت الأبيض والمخابرات الأمريكية
في مارس 2001، ألمح الجنرال جيانديليو ماليتي، القائد الأسبق لمحاربة الجاسوسية، إلى أن الاغتيالات التي أفقدت الشيوعيين الإيطاليين الثقة، تلقت كذلك موافقة البيت الأبيض وجهاز المخابرات الأمريكية، علاوة على موافقة الشبكة السرية الإيطالية، والمصالح السرية العسكرية الإيطالية، والفرق الإرهابية اليمينية المتطرفة.
وخلال محاكمة إرهابيي اليمين المتطرّف المتهمين بالتورط في تفجيرات بيازافونتانا، قدم ماليتي هذه الشهادة: »كان جهاز المخابرات الأمريكية، بتوجيهات من حكومته، يتطلع إلى إيجاد قومية إيطالية قادرة على إيقاف مااعتبرته انزلاقا نحو اليسار، ولتحقيق هذا الهدف، تمكنت من استعمال إرهاب أقصى اليمين«. قال الجنرال مفسرا هذا الأمر: »كان لدينا انطباع بأن الأمريكيين كانوا مستعدين لكل شيء من أجل الحيلولة دون أن تنزلق إيطالياإلى اليسار« وأضاف: »لا تنسوا أنّ نيكسون هو الذي كان يتولى الأمور ولم يكن نيكسون رجلا عادياً. فقد كان سياسياً دقيقا، لكن أساليبه لم تكن أرثوذوكسية إلا قليلا«. وفي المقابل عبّر الجنرال الذي يبلغ من العمر 79 سنة عن نقده وأسفه: »لقد عوملت إيطاليا بوصفها نوعاً من المحميات، وأنا أخجل من فكرة كوننا لانزال خاضعين لمراقبة خاصة«.
خلال السبعينيات والثمانينيات، أعرب البرلمان الإيطالي، الذي كان فيه للحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي نصيب مهم في السلطة، عن قلق متزايد أمام هذه الموجة التي بدا أن لانهاية لها من الجرائم التي كانت تُدمي البلاد دون التمكن من تحديد هويات مرتكبيها ولا الآمرين بها. وحتى إن كانت تروّج في تلك الفترة شائعات بين اليسار الإيطالي مفادها أنّ أعمال العنف المكتنفة بالأسرار هي نوع من الحرب السرية التي تقودها الولايات المتحدة ضد الشيوعيين الإيطاليين، فإنه لم تكن توجد أي صحة تسمح بدعم هذه النظرية. لكن في عام 1988 شكل مجلس الشيوخ الإيطالي لجنة تحقيق برلمانية خاصة سيرأسها السيناتور ليبيرو غوالتييري وكان اسمها »اللجنة البرلمانية لمجلس الشيوخ الإيطالي المكلفة بالتحقيق في الإرهاب في إيطاليا والأسباب التي تفسر لماذا لم يتم تحديد هويات الأشخاص المسؤولين عن المجازر: الإرهاب، التفجيرات والسياق السياسي التاريخي«.
إرهاب دولة
وتبين أن عمل هذه اللجنة صعب للغاية. كان الشهود يرفضون الكلام، وتم إتلاف عدة وثائق. واللجنة نفسها، المكونة من ممثلي أحزاب اليسار واليمين، كانت منقسمة حول مسألة الحقيقة التاريخية في إيطاليا وحول النتائج التي يجب الكشف عنها أو تركها في الخفاء.
وفي نفس الوقت ، بدأ القاضي كاسون، معتمدا على شهادة فينسينزو فينسيغيرا، إرهابي بيتيانو، والوثائق التي اكتشف، في استبانة طبيعة الاستراتيجية العسكرية المعقدة التي استخدمت. وشيئا فشيئا أدرك أن الأمر لم يكن يتعلق بإرهاب مجرد بل بإرهاب دولة، ممول بأموال المشاركين فيه. لقد كانت التفجيرات خاضعة لاستراتيجية التوتر«. تستهدف زرع جو من التوتر بين السكان. كان اليمين المتطرف وأنصاره داخل حلف الأطلسي يخشون أن يمتلك الشيوعيون الإيطاليون مزيد سلطة، ولهذا كان الجنود السريون الأعضاء في جيش الشبكة السرية يهيئون هذه التفجيرات التي كانوا يتهمون بها اليسار، في محاولة ل »زعزعة الاستقرار من أجل الاستقرار«. وبالنسبة للمصالح السرية، كانت تفجيرات بيتيانو تندرج في ما سمي ب »استراتيجية التوتر«. كما شرح ذلك القاضي كاسون للجمهور خلال روبورتاج للبي بي سي خصص لهذه الشبكة السرية. »أي إيجاد جو توتر من أجل تشجيع الاتجاهات الاجتماعية والسياسية المضادة في البلاد. وبقدر ما كانت هذه الاستراتيجية تطبق في الميدان، بات من الضروري حماية المحرضين عليها من ذلك لأن دلائل تورطهم بدأت تظهر، وكان الشهود يكتمون بعض المعلومات من أجل
التغطية على متطرفي اليمين«. وصرح فينسيغيرا وهو إرهابي كان كآخرين على صلة مع شعبة الشبكة السرية العسكرية الإيطالية، وقتل بسبب اقتناعاته السياسية: »كان لابد من الانقضاض على المدنيين، على أفراد الشعب، النساء، والأطفال، والأبرياء، والمجهولين الذين لا علاقة لهم بأي لعبة ساسية«: والغاية كانت بسيطة جدا، وهي أنهم كانوا يقصدون إلى إرغام هؤلاء الناس، أي الشعب الإيطالي، على اللجوء إلى الدولة من أجل طلب مزيد من الأمن. لهذا المنطق السياسي تخضع كل هذه الجرائم وكل هذه التفجيرات التي لم تتم معاقبة مرتكبيها لأن الدولة لا يمكنها أن تجرم نفسها أو تعترف بمسؤوليتها عما جرى«.
إلا أن رعب هذا المخطط الشيطاني لم يظهر إلا بالتدريج، ولاتزال اليوم العديد من الروابط السرية التي يجب إثباتها. وعلاوة على هذا، فإن كل الوثائق الأصلية غير موجودة.
صرح فينسيغيرا خلال محاكمته سنة 1984، بأنه »بعد تفجيرات بيتيانو والتفجيرات التي تلتها كلها، لم يعد ينبغي لأحد أن يشك في وجود بنية نشيطة وسرية، قادرة على تهييء هذه الاستراتيجية التقتيلية في الظلال«. بنية يصفها بأنها »متخللة لأجهزة الدولة نفسها. إذ توجد في إيطاليا منظمة موازية للقوات العسكرية، تتألف من مدنيين وعسكريين، وتوجهها مضاد للسوفيات، أي أنها موجهة إلى تنظيم المقاومة ضد احتلال محتمل للأراضي الإيطالية من طرف الجيش الأحمر«. ودون ذكر اسم الشبكة السرية، فإن هذه الشهادة تؤكد وجودها، وقد ظهرت إلى الوجود بأمر من الحلف الأطلسي. ويصفها فينسيغيرا ك »منظمة سرية، منظمة »هائلة تتوفر على شبكة اتصالاتها الخاصة، وأسلحتها، ومتفجراتها، والرجال المكونين لاستخدامهم لأهدافها«. وكشف هذا الإرهابي عن أن هذه »المنظمة الهائلة، تلقت من الحلف الأطلسي الأمر بمكافحة انزلاق السلطة في البلاد نحو اليسار، وذلك في حالة عدم حدوث الاجتياح السوفياتي. وذلك ما فعلوه بدعم من المصالح السرية للدولة. والسلطة السياسية وللجيش«.
مرت أزيد من عشرين سنة على هذه الشهادة من هذا الإرهابي الذي أقام، لأول مرة في التاريخ الإيطالي، صلة بين الشبكة السرية الإيطالية، والحلف الأطلسي والتفجيرات التي هزت البلد. ولم يكن هو أول من كشف عن هذه الصلة، ولا أول من ذكر وجود شبكة سرية في إيطاليا. فقد أتى قاضي التحقيق جيوفاني تامبيرنيو بسابقة، سنة 1974 في إطار تحقيق حول إرهاب أقصى اليمين، باتهامه الجنرال فيتوميسل، رئيس المصالح السرية للجيش الإيطالي »بإنشاء وتنظيم جمعية سرية، بمساعدة متواطئين، تضم مدنيين وعسكريين وهدفها ثورة مسلحة من أجل التعديل غير المشروع للدستور وتشكيل الحكومة«.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.