العالم القديم يحتضر، والعالم الجديد يكافح ليولد... تتواصل الهزات على ساحة الصراعات الدولية خاصة مع تضارب التوجهات الظاهرية والعلنية للإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس السابع والأربعين دونالد ترامب. على كل الأصعدة تقريبا تقلبت سياسات البيت الأبيض خلال المئة يوم التي أكملها في الرئاسة ترامب يوم 20 أبريل 2025، بإستثناءات تتعلق فقط بفلسطين ونووي إيران، حيث يساند بدون أي تحفظ توجهات ومخططات الحكومة الإسرائيلية في تل أبيب الساعية إلى إكمال مشروع إسرائيل الكبرى والشرق الأوسط الخاضع لسيطرتها. يمر العالم اليوم بمنعطف يشبه زمن نهاية الحرب العالمية الأولى، الذي قال عنه الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي: "العالم القديم يحتضر، والعالم الجديد يكافح ليولد". مع نهاية الحرب الباردة، أصبحت الديمقراطية بصورتها الغربية والأسواق الحرة والقيادة الأمريكية مقصد البشرية فقط في عالم أحلام النخبة الأمريكية التي تؤمن ب "نهاية التاريخ". ويقول جوزيف برامل وماثيو بوروز في تحليل لهما على موقع "ذا ناشيونال إنترست": كانت واشنطن أول من تحرر من وهمها، بينما اعتبرت العولمة كابوسا، عجل بصعود منافسيها. فقد هاجرت صناعات بأكملها، ومعها وظائف أمريكية، إلى المكسيكوالصين. وسعت الولاياتالمتحدة إلى فرض الديمقراطية بمفهومها الغربي في العراق وأفغانستان، لكنها مساع باءت بالفشل. وقوضت الأزمة المالية عام 2008 المصداقية المالية الأمريكية وثقة الأمريكيين في نظامهم، فتم إنقاذ القطاع المالي، الذي كان أكبر من أن يفلس، بينما ترك الأفراد لمصيرهم يكافحون للحفاظ على منازلهم ووظائفهم. وشهدت أواخر التسعينيات بدايات حركة شعبوية استغلها ترامب ببراعة، أوصلته إلى البيت الأبيض. فقد اتسم ترامب بجميع سمات أسلافه الشعوبيين: كان صريحا في حديثه، مبالغا في استغلال حقيقة أنه ليس سياسيا محترفا، فجذبت لغته المبالغ فيها وأسلوبه المباشر الساخطين والمهمشين، وراقت مزاعمه بالثراء والنجاح التجاري الحالمين الذين رغبوا في عودة الحلم الأمريكي. وبالعودة إلى اقتباس غرامشي، فإن ترامب، بنهاية ولايته، لن يكون قد انتهى من تفكيك النظام القديم، لكنه، وفي الوقت نفسه، لن يكون قد قطع شوطا طويلا في إعادة بناء التعاون العالمي. وهو يتشابه مع شي جين بينغ وفلاديمير بوتين في الرغبة بتحطيم النظام القديم. سيحدث دمار كبير، إلا أن هناك أمل وإيمان بإمكانية بزوغ عالم جديد أكثر عدلا من هذه الفوضى، وبأن الدول قادرة على بناء نظام جديد يعيد إطلاق التعاون العالمي. هناك طريقتان لحل المأزق الراهن: الأولى هي الحرب، التي يراها غراهام أليسون، أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد، القاعدة التاريخية لتسوية الخلافات بين الخصمين. وكانت التوترات قد تصاعدت في عهد بايدن، وسادت مخاوف من أن الولاياتالمتحدةوالصين تتجهان نحو صراع حول تايوان، لكن كلا الجانبين تراجع عن حافة الهاوية. كما أثار بوتين شبح الحرب النووية بتحذيراته المتكررة من استخدام الأسلحة النووية التكتيكية لردع الدعم الغربي لأوكرانيا. الطريقة الثانية هي التعلم من تجارب القرنين الماضيين للقوى العظمى التي سعت للعيش معا بسلام، وتطبيقها على العلاقات الدولية اليوم. بالنسبة للولايات المتحدة، يجب أن تدرك أن الهيمنة العالمية غير قابلة للاستمرار، وثمن الحفاظ عليها سيكون الإفلاس الداخلي والصراع في الخارج، وربما ينتهي بمحرقة نووية. لقد نجح توازن القوى بعد "الوفاق الأوروبي"، ولو اتبعت الولاياتالمتحدة هذا النهج اليوم، لظلت قوة عظمى، لكن سيتعين عليها الاعتراف بالصين، ومع مرور الوقت، بروسيا كلاعبين شرعيين، مع التسلم مع أن العالم متعدد الأقطاب، وأن الولاياتالمتحدة لا تستطيع وضع جميع القواعد. لعل الشرق الأوسط هو الأصعب بين كل الصراعات الدولية الحالية، بالنظر إلى عدد الأطراف والحروب طويلة الأمد. فضم إسرائيل للأراضي الفلسطينية لن يؤجج سوى المزيد من الاضطرابات. ولا يمكن قمع سبعة ملايين فلسطيني إلى الأبد. ومن غير المرجح أيضا أن تختفي "حماس" و"حزب الله"، حتى وإن أضعفتا بشدة. يقول مفكر فرنسي أن المعاناة الهائلة التي يعيشها الفلسطينيون تعطينا إنطباعا بأن تل أبيب تنتصر ولا عودة عن ذلك، ولكن هذا ما تحاول وسائل الإعلام الغربية فرضه على العالم. إسرائيل في مأزق حقيقي يهدد بتمزيقها كدولة وكيان مزروع في قلب الشرق الأوسط المركز. 100 الف جندي احتياطي من الجيش الإسرائيلي رفضوا أوامر استدعائهم للخدمة في شهر مارس 2025، حسب القناة 13 العبرية، غادر إسرائيل 1800 مليونيرا سنة 2024 فقط وحسب موقع واينت هاجر 8500 من من خبراء التكنولوجيا الفائقة الكيان الصهيوني. الاستثمارات الأجنبية فرت والسياحة انتهت منذ أكتوبر 2023، غالبية شركات الطيران الأجنبية هجرت مطارات إسرائيل ميناء إيلات على خليج العقبة والبحر الأحمر تحول إلى مدينة أشباح، أكثر من مليون شخص يحملون الجواز الإسرائيلي استقروا في أوروبا والولاياتالمتحدة وأمريكا الجنوبية، الخلافات الداخلية في إسرائيل في تصاعد حتى أن 60 في المئة من الإسرائيليين حسب صحيفة معاريف يرون أن هناك خطرا حقيقيا لنشوب حرب أهلية. حماس ورغم 18 شهرا من الحرب بأسلحة بسيطة في مواجهة جيش مزود بأفضل ما وجد في الغرب لم تهزم وتواصل تكبيد الجيش الإسرائيلي خسائر يومية وحسب الاستخبارات الغربية ارتفع عدد مجنديها إلى 40 الفا، وأكثر من 75 في المئة من أنفاقها بقي سليما. أغلب مساكن قطاع غزة وبنيتها التحتية دمر وأكثر من 52 ألف فلسطيني أغلبهم من النساء والأطفال والشيوخ قتلوا في حرب الإبادة الإسرائيلية ولكن لم تنجح تل أبيب في تهجير سكان القطاع خارج أراضيهم. فيتنام خسرت 2.5 مليون قتيل في حربها مع واشنطن ولكنها انتصرت في النهاية. حزب الله في لبنان خسر الجزء الأهم من قياداته العليا ولكن الجزء الأكبر من وحداته المقاتلة يبقى سليما وهو يسد الأن الثغرات التي تبين أنها كانت لديه. اليمن صمد في وجه الضربات الأمريكية وواصل إسناده لفلسطين حتى أنه اعتبر لغزا في الصمود. طهران ترفض شروط واشنطن وتل ابيب حول النووي والصواريخ حتى الحين وتناور لكسب الوقت حتى تصل إلى ما بلغته كوريا الشمالية من قدرات عسكرية أنهت تهديدات ترامب خلال ولايته الرئاسية السابقة لإعادتها إلى العصر الحجري. حرب ترامب التجارية أساسا مع الصين تدخل النفق المظلم، وروسيا تكسب بشكل ثابت الحرب ضد الناتو في وسط شرق أوروبا. انه عهد جديد.